31/10/2010 - 11:02

نحو كتلة عراقية تاريخية../ فيصل جلول

نحو كتلة عراقية تاريخية../ فيصل جلول
يرى جان جاك روسو أن القوة تفقد تأثيرها في الناس ما لم يحولها القوي الى “حق”، وأن طاعة الناس للقوي تظل مؤقتة وغير موثوقة ما لم تصبح واجباً يؤديه المعنيون بصورة منتظمة. لقد عمل الغزاة والمحتلون في التاريخ وفق هذه القاعدة. هكذا احتل الصهاينة فلسطين بالقوة وجعلوا احتلالهم “حقاً” تاريخياً بالعودة إلى ما يسمى “أرض الميعاد” وجعلوا “طاعة” العالم الغربي لهذا “الحق” المزعوم واجباً وليس خياراً لكنهم فشلوا في انتزاع طاعة الفلسطينيين أصحاب الأرض الذين ما برحوا يقاتلون الكيان العبري من أجل استرداد أرضهم.

ليست “الاتفاقية الأمنية” التي وقعتها حكومة نوري المالكي مع الاحتلال الأمريكي وصادق عليها برلمانه في منأى عن القاعدة الآنفة الذكر. ذلك بأن الغزو الأمريكي للعراق أريد له أن يتحول إلى “حق” وأن تكون طاعة العراقيين المقهورين للمحتل و”اجباً” منظماً ببنود ودستور ووثيقة قانونية علما أن مبررات الاحتلال المعلنة انهارت كلها في وقت مبكر كقصر من الكرتون. فلا أسلحة الدمار الشامل ظهرت في أرض العراق، ولم توفر الوثائق الرسمية التي سقطت بأيدي المحتلين دلائل واضحة عن علاقات “وثيقة” بين النظام البعثي ومنظمة “القاعدة”، أما انتهاك “حقوق الإنسان” والنظام الديكتاتوري وإهماله لحاجات الشعب العراقي اليومية فقد تحولت إلى أدلة ضد المحتل الذي ترك جنوده يعبثون بأمن العراقيين وينتهكون حقوقهم من دون رادع، إلى حد أن بعض الشهود الأمريكيين الذين تواجدوا في العراق أكدوا بوضوح أن عدداً من عسكريي الاحتلال كانوا يغتالون العراقيين على سبيل التسلية قبل إجازة العيد أو عطلة نهاية الأسبوع كما ورد في شهادة جندي “مارينز” ممن هربوا من الخدمة العسكرية في بلاد ما بين النهرين، هذا حتى لا ندخل في تفاصيل انتهكات حقوق الناس المعتقلين في “معسكر أبو غريب” الذي فاق سجون العالم الثالث بحجم ونوع انتهاكاته. أما حاجات الناس اليومية في ظل الاحتلال فيحدثك عنها العراقيون الذين فقدوا الأمن الاقتصادي والسياسي معاً، وبعدما تمزقت أرضهم وتفتت مجتمعهم إلى طوائف وعشائر وإثنيات.

الواضح أن الاتفاقية الأمنية ترمي إلى انتزاع مصادقة العراقيين على مأساة بلدهم وليس فقط إلى خروج المحتل، ذلك بأن الولايات المتحدة ترغب في جعل آثار الاحتلال “حقاً” محروساً بأنظمة وقوانين ومعاهدة تربط مصير العراق بمصيرها إلى الأبد، تماماً كما جرى لليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية وحرب الكوريتين، مع فارق كبير في فرص النهضة الاقتصادية والديمقراطية التي أتيحت للبلدان المذكورة، فالمتاح للعراقيين هو ارتهان ثروتهم النفطية للولايات المتحدة التي تريد الاحتفاظ مباشرة أو بشكل غير مباشر بالكلمة الفاصلة في مجال الطاقة ومصيرها.

الحاصل أن رغبة المحتل بتحويل أثر “القوة” الغاشمة إلى حق وجعل طاعة العراقيين “واجباً” تصطدم بكتلة شعبية عراقية ممانعة وتشكيلات مقاومة لا يستهان بعزيمتها. فقد ندد “التيار الصدري” بالاتفاقية الأمنية ودعا إلى مقاومتها بمجالس العزاء في المدى القصير وبالمقاومة المسلحة في مدى أبعد عبر ما سماه لواء “اليوم الموعود” وتنصل آية الله علي السيستاني من مباركتها جزئياً إذ دعا إلى استفتاء شعبي لقياس مدى تقبلها من الرأي العام العراقي. في حين اعتبرتها “هيئة العلماء المسلمين” غير موجودة وكأنها لم تكن ونددت بالحكومة العراقية التي صادقت عليها، أما المقاومة المسلحة المتعددة الأطراف فقد استقبلتها بتصعيد العمليات العسكرية واستأنفت قصفها المدفعي للمنطقة الخضراء. ومن بين دول الجوار العراقي انفردت سوريا برفض الاتفاقية صراحة، فيما صمتت دول أخرى أو تخفت وراء شعار “ما يراه العراقيون”، أي الحكومة التي نصبها المحتل.

أكبر الظن أن انتزاع طاعة العراقيين ومباركتهم لصنائع الاحتلال يبدو اليوم بعيد المنال، والرئيس الأمريكي المنتخب باراك استخلص الدروس المفيدة من الغزو وقرر التخلي عن المشروع العراقي الفاشل وإن صحت الالتزامات التي تعهد بها خلال حملته الانتخابية فهذا يعني أنه سيسحب جنوده من هذا البلد من دون التمسك بحلفاء واشنطن، وقد يعمد إلى التفاوض مع الكتل العراقية المؤثرة خارج حكومة المالكي لتغطية سحب قواته انسحاباً مشرفاً، وإن تم ذلك فإن عمر الاتفاقية الأمنية قد يكون قصيراً، وكذا الاحتفاظ بقواعد عسكرية ثابتة في العراق والتحكم المباشر بمصير هذا البلد.

أما عن مصير بلاد ما بين النهرين بعد الاحتلال فإنه يتوقف على انبثاق كتلة تاريخية عراقية تتمحور حول تيارين كبيرين ما برحا يقارعان المحتل منذ اللحظة الأولى، ونعني بذلك هيئة علماء المسلمين والتيار الصدري، وتجتمع في هذين التيارين صفة العروبة والمقاومة والتحالفات الخارجية المناهضة للاحتلال، ناهيك عن التعاون في معارك عسكرية كبيرة شأن حصار النجف وكربلاء والفلوجة.. الخ.

والراجح أن تشكيل هذه الكتلة من شأنه أن يجذب العديد من العشائر العراقية في الشمال والجنوب والعديد من الشخصيات السياسية المستقلة. يبقى التحذير من أن تعذر تشكيل هذا الائتلاف يمكن ان يؤدي الى “صوملة” العراق أكثر فأكثر. في هذه اللحظات ربما على العراقيين الرافضين لمشروع الاحتلال أن يدركوا أن توحيد بلادهم لا يتم إلا حول محور عربي حر ومقاوم يحمل الأمن والاستقرار داخل وخارج العراق. هنا بيت القصيد ومنه يجب أن ينطلق لم شمل العراق والعراقيين.
"الخليج"

التعليقات