لايمكن استعادة اية ذاكرة عربية وضاءة، وما اندرها، الا من خلال زحمة الكوارث ومشتقاتها التي تحيط بالعرب اليوم، وتكاد وحدها تسيطر علي مصائرهم كدول وشعوب وحتي كأفراد، في هذه المساحة شبه الصحراوية من وساعة المعمورة، وقد امست مسكونة بأصعب واعقد مشكلات العالم المعاصر. نقول هذا بمناسبة ذكري الثورة الناصرية قبل اكثر من نصف قرن دونما اية احتفالات جماهيرية، او علي الأقل دونما اية ندوات فكرية ظاهرة، الا ما عدا بضع مقالات متناثرة في صحف القاهرة وبيروت. لكن بعد الزمن، ولانشغالات الرأي العام بالقضايا الراهنة اللاهبة، يمكنه ان يمحو الحدث المركزي من قصة النهضة الثانية. لن نعيد تكرار مآثر الثورة، ولا البحث عن اخطائها او نبش ما تبقي من اسرارها والغازها. فتلك مهمات طفحت بها ادبياتنا السياسية، وان لم يكن قد تمت حتي الآن اعادة كتابتها علميا وموضوعيا بصورة شاملة. غير انه لا يزال متاحا لفكرنا احيانا ان يعقد بعض المقارنات بين ما كانت تمسك به الامة من رهانات الانبعاث مع انطلاق القومية العربية، وبين ما آلت اليه في احوالها المتردية الراهنة. فاستعادة الذاكرة ليست مجرد حنين مجاني للماضي بقدر ما هي الحافز المتجدد لفهم الحاضر الذي لا بد لاحداثه الراهنة ان تكون لها بعض مقدماتها المستمرة في انتاج محصلات تركيبية بعيدة في الزمن المستقبلي الذي يليها.
ولدت النهضة الثانية بين فكي الاستعمار واسرائيل. ولا تزال تحولاتها التاريخية الكبري ساقطة تحت وابل هذا المنجل المزدوج الرأسين، ومهما قيل عن اهمية قصوي تعزي لكل العلل الذاتية التي حملتها النهضة كبذور كامنة وفاعلة في عمق عجينتها الاولي، فلا يمكن العثور علي منعطف حاسم واحد في مسيرة النهضة دون ان يكون واقعا تحت رقابة خارجية تتدخل في صميم حركته الذاتية وتلعب بتوجهاته الاصلية، بما يجعلها في النهاية تحقق العكس والضد لما كانت اعدت قواها لبلوغه، فالمسألة لا تتعلق ابدا بأسطورة (المؤامرة) الدئمة، لكنها حقيقة مادية مجسمة ملء مسارح الواقع. فاذا كان ثمة خاصية مميزة لحركة القومية العربية ابان المرحلة الناصرية، فهي انها كشفت عن المعادلة المختلة باستمرار بين قوة الداخل وعنف الخارج. ولذلك اقامت بدهيتها الاولي حول الضرورة المطلقة لمفهوم الوحدة علي اعتبار ان الوحدة هي الشرط الوحيد لتصحيح هذا الخلل في طرفي تلك المعادلة المفروضة بسلطة الامر الواقع الجيوسياسي والاستراتيجي في وقت واحد.
فليس من المبالغة في شيء الحكم اليوم، وسط المشاهد الكارثية، ان النهضة الثانية قد خسرت رهاناتها السياسية الحضارية الاخري، عندما عجزت عن الدفاع عن رهانها الاهم حول ضرورة الوحدة، في حين ان الاستعمار قد جعل من منبع الوحدة بالقضاء علي مختلف دوافعها واسبابها الممكنة او المؤجلة جعلها اولي اوليات خططه العاجلة والاستباقية. واليوم يعترف بعض الفكر الغربي العلمي نفسه ان زراعة اسرائيل كانت في اصلها تمثل اذكي استراتيجية توصل اليها العقل الاستعماري لاحباط مشروع انبعاث الحضارة العربية الاسلامية مرة جديدة وخاصة بعد انهيار امبراطوريتها الاخيرة من خلال تفكيك الخلافة العثمانية.
لم يحدث طيلة نصف القرن الماضي ان احبطت الوحدة السياسية وحدها، منذ قيام تجربتها الاولي عبر دولة الجمهورية العربية المتحدة، التي لم يعد يذكرها احد، بل ان نجاح الانفصال جعله هو الصيغة المتحكمة في مختلف علاقات الدول العربية فيما بينها، الي تلك الدرجة التي بات الانفصال قاعدة السياسة العربية وليس الاستثناء الطاريء او الحالة الشاذة ضدا علي الوضع السوي الذي كان مأمولا ومنتظرا استرداده الي كيان الامة الواحدة واطرافه المتكاملة تاريخيا وانسانيا وثقافيا.
كان افضل سبيل لاستدامة الخارطة الانفصالية هو في تحويل الحكومات القطرية الي انظمة حراسة امنية لحماتها الاجانب، أولا في تعميق اوضاع هذه الخارطة، بالقمع الداخلي لمختلف الحركات الوطنية والقومية وتصحير مجتمعاتها ثقافيا وافقارها اقتصاديا، واصطناع علاقات المحاور والتنابذ فيما بينها. كان ذلك هو مضمون اعتراف الرئيس الامريكي بأن بلاده قد ساندت طيلة عقود الانظمة الديكتاتورية الفاسدة وفي الواقع دعمت امريكا والغرب الاوروبي من قبلها استراتيجية ديمومة الانفصال وتطويره من مجرد الشكل السياسي المفروض منذ معاهدة سايكس بيكو المشؤومة، الي بناء كيانات دولتية ومجتمعية مغلقة علي ذاتها ومتخاصمة ضد بعضها، ما يعطل كل معاهدة تقارب او تنسيق قد تضطر اليها الانظمة تحت ضغط شعوبها، كبدائل صورية عن اية اجراءات حقيقية نحو تضامن سليم يمهد السبل الي قيام اية اتفاقات وحدوية بين قطرين او اكثر.
لكن اقرار بوش باختراع نموذج الحكم القطري القمعي لا يعني انه قد يحيد قليلا عن مبدأ استراتيجية الانفصال. فقد طوره من الاكتفاء بتكتيك التدخل الدبلوماسي المقنع والصفقات الشخصية مع الحكام وتفعيل منهج العمالة المباشرة او غير المباشرة معهم، الي الغزو العسكري وتحطيم حتي بنية الدولة القطرية والعمل الدؤوب علي تفكيك مكونات كل مجتمع، فالاستراتيجية التجزيئية لم تعد تكتفي، بالتفتيت القطري وحده، بل اضحت الخارطة السياسية للعالم العربي مهددة عضويا بمضاعفة التقسيم السياسي والجغرافي بالتفتيت الديني والعنصري والمذهبــــي، وذلك تحت شعار احلال الديمقراطية والتعدديــــة. والمهم هو القضاء علي اية مركزية سياسيـــة او ايديولوجية يلتقي حولها المجتمع العربي قطريا او قوميا.
في العراق تتم ترجمة الديمقراطية الي اشنع صراعات مذهبية وعنصرية بين مكوناته التاريخية، وذلك بدلا من توحيد الشعب ضد الغزة المحتلين. فالسباق هو علي اشده اليوم بين مخططات التجزئة وتفريعها الي شبكية شاملة متحكمة في انتاج كل المتغيرات الهدامة سواء علي صعيد العملية السياسية الزائفة تحت عنوان العمل علي وضع دستور للبلاد يراد منه شرعنة مرحلة التجزئة العضوية الجارية بين اليوم والغد وكأنها اضحت مصيرا محتوما لمستقبل الكيان العراقي ودون اية بدائل وحدوية اخري، او حافظة لحد ادني من امكانية التكامل المفترضة والعودة الي الحالة الطبيعية السابقة علي الغزو الامريكي. حتي عندما يرحل هذا الغزو وقد تقارب موعده الاضطراري فيمكن لاستراتيجية التفتيت ان تطمئن اصحابها انها قد زرعت بذور الفتن الطائفية والعرقية، بما يكفل انتاج تفاعلاتها الي ابعد مدي. ما هو اخطر من الغزو الخارجي هو ان يفقد العراق اهم عوامل وحدته الازلية المتوارثة منذ ما قبل التاريخ الحضاري، وهي هويته العضوية، فكل ما يطرأ عليها من تصنيفات مذهبية او ايديولوجية تظل مجرد عوارض خارجية لن تمس ابدا جوهر هذه الوحدة العضوية الصامدة التي حفظت مركزية الانتماء الانساني وسط بحران المتغيرات التاريخية المتواصلة.
لكن الاستراتيجية التجزيئية لا تكتفي بالساحة العراقية، فتفيض خيراتها المسمومة من جديد علي لبنان مباشرة وعلي سورية بالتالي. اذ تجري في بلاد الارز محاولة ترجمة استقلاله السياسي المستعاد الي نوع من شبكية استقلالات داخلية لمكوناته الدينية والمذهبية ضد بعضها، كيما تعود فجأة معركة الهوية محورا رئيسيا لكل السجالات ما بين المواقف الفئوية المتعارضة والتي توشك ان تسترد كل الادلجات الدموية من زمن الاقتتالات الاهلية. وبالطبع لن تكون الشقيقة سورية بعيدة عن المناكفات بارادتها او بغيرها. اذ ان القسمة المستحدثة ثانية بين المعسكر اللبناني الصرف والمتهم بالانعزالية والمعسكر (العروبي) الموالي للعمق القومي ما وراء حدوده، وبدءا بما يدعي بالعلاقة الاستراتيجية مع سورية، هذه القسمة القديمة والمنبعثة من رميمها في هذه المرحلة الموصوفة بمرحلة التأسيس للبنان الجديد، لا تعاود الظهور جادة صريحة هذه المرة الا تحت المظلة الامريكية المعلنة رسميا وبمشاركة فرنســية محدودة.
فلبنان اليوم هو اقرب الي نظام فيدرالي وجهوي كأمر واقع مستمر في زمن الحرب. واذا كان لبنان غير قابل للانقسام العضوي التام كما كان يسعي الي تحقيق الفريق الموصوف بالانعزالي عبر الاقتتال الاهلي المنقضي، الا انه يصير معرضا راهنا، وفي الجو السلمي والاستقلالي الحاضر الي اختطافه كليا نحو احد الاتجاهين، والي المعسكر (الانعزالي) بالتحديد هذه المرة، وذلك بعد ان حاولت الوصاية السورية وطيلة ثلاثين عاما اختطافه الي معسكرها بحجة فرض الاختيار العروبي عن قناعة شرعية نص عليها الدستور اللبناني وفق اتفاق الطائف. فهل يرجع لبنان الي موقعه القديم والمستديم، والوقوف علي مفترق الطرق بين الخيارات المفروضة او الطوعية شكليا.
قد يجزم المتشائمون انه مثلما لن يتكرر عصر عبد الناصر بعد انقضائه هو وظروف عهده كلها، في ايجابياتها وسلبياتها، كذلك فليس ثمة وحدة عربية اسلامية جديدة وعلي غرار مثالها التاريخي قادمة يوما ما.. الا فقط عندما يتحرر بعض العرب من انفصالية معازلهم الذاتية، وهم يقاومون في الوقت عينه كل استراتيجيات التفرقة المفروضة عليهم بقوة الطواغيت الدولية. وتلك هي المعادلـــة الاصعب والبعيدة حتي اليوم عن الممارسة المنظمة الواعدة.
التعليقات