31/10/2010 - 11:02

نفاق العدالة الدولية!../ محمود المبارك*

نفاق العدالة الدولية!../ محمود المبارك*
المذكرة المتوقع إصدارها اليوم من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، والتي تتضمن طلب القبض على مسؤولين سودانيين رفيعي المستوى، منهم الرئيس السوداني ذاته، تعد زلزالاً سياسياً وقانونياً دولياً بكل المعايير.

فأما على المستوى السياسي، فإن إدراج كبار المسؤولين بمن في ذلك رؤساء الدول في قائمة مجرمي الحرب، أمر غير مسبوق (سوى استثناء غير ذي أهمية)، الأمر الذي قد يفتح أبواباً مستقبلية لتغيير الأنظمة السياسية عبر «الغزو القضائي» لمنطقة الشرق الأوسط، وبذلك ربما استطاعت الولايات المتحدة أن تحقق قضائياً ما عجزت عن تحقيقه سياسياً!

والمحكمة الجنائية الدولية وإن كانت أعطت لنفسها الحق في ملاحقة من تتهمهم بارتكاب جرائم الحرب أياً كانت مناصبهم، إلا أنها بهذا التصرف غير المسبوق، قد تكون سمحت لنفسها بأن تكون سلعة رخيصة في يد الولايات المتحدة، التي أصبحت تتعامل مع دول العالم بمنطق «الإرهاب القانوني» كما أطلقت عليه.

وأما على المستوى القانوني الدولي، فإن نفاق المحكمة الجنائية الدولية المتجلي في حرصها على ملاحقة صغار المتهمين الدوليين، وترك المجرمين الدوليين الأكثر خطراً على أمن وسلام العالم، نذير شؤم للعدالة الدولية الجديدة المزعومة!

وإذا كان من فائدة مرجوة من إصدار مثل هذه المذكرة، فهو أن المحكمة الجنائية الدولية - بغبائها المحكم مرة أخرى - ربما استطاعت أن تضع حداً للنقاش الدائر حول فكرة الانضمام للمحكمة لدى صانعي القرار في الدول العربية والمسلمة، بل وربما في كثير من دول العالم الثالث!

ولعله بات واضحاً اليوم أن المحكمة الجنائية الدولية، حين سمحت لنفسها بأن تكون أداة ابتزاز في يد الولايات المتحدة، فإنها بذلك فقدت ما لديها من صدقية قضائية، لتنضم إلى قائمة المنظمات الدولية التي فقدت صدقيتها بشكلٍ مخزٍ، نتيجةً لاستسلامها المطلق ورضوخها التام للهيمنة الأميركية.

المثير للسخرية، هو أن هذه المذكرة القضائية تأتي وسط دعوات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو، للدول العربية للانضمام إلى منظمته القضائية! ولست أدري أي غبي في هذه الدنيا يتوقع من الدول العربية الانضمام إلى محكمة دولية أثبتت انحيازها الكامل ضدهم من دون غيرهم، تارة بالإعداد لاختطاف طائرات المسؤولين والوزراء، وتارة أخرى بإعلان طلب القبض على الزعماء العرب أنفسهم!

هذا الانحياز من المنظمة القضائية الدولية، ليس مجرد سلوك عابر ضد دولة ما هنا أو هناك، وإنما هو عمل ممنهج من الدول القوية ضد الدول الضعيفة في الجانب القضائي الدولي الجديد، تماماً كما هي الحال منذ ستين عاماً، مع انحياز الشق السياسي في مجلس الأمن.

وإلا فكيف يمكن تفسير عدم اكتراث المحكمة غير الموقرة بالجرائم التي ترتكبها الدول الكبرى، والتي ستكون كفيلة بإشغال المحكمة بقية عمرها المديد، لو قدر لها أن تحاسب مرتكبيها عليها؟

منذ متى صار للقانون الدولي حرمة في الساحة السياسية الدولية أو احترام لدى المحاكم الدولية، حتى نصحو اليوم على صيحات نذر محاكمات الرؤساء المتهمين بجرائم الحرب؟

ألم يصبح القانون الدولي سلعة رخيصة في يد الولايات المتحدة وحلفائها تبيعه متى تشاء وتقذفه متى تريد؟ أليست الولايات المتحدة هي من داست على كل القوانين والأعراف والشرعية الدولية بغزوها العراق وأفغانستان، وقبل ذلك بغزوها غرينادا عام 1983، وبنما عام 1989؟

هل من المعقول والمقبول قانوناً أو عرفاً أن يشقى المدعي العام لأعلى سلطة قضائية جنائية في العالم، بقضية تافهة كدارفور ويترك ما سواها مما هو أهم وأكبر؟ وإذا كانت القارة السوداء قد جذبت نظر المسؤول الأوروبي من دون سواها، فأين بصر وسمع سيادته عن تقرير مندوب الاتحاد الأوروبي في كينيا إريك فان دير ليندن، الذي اتهم فيه القوات الإثيوبية بالتعاون مع قوات الحكومة الصومالية بارتكاب «جريمة إبادة» في الصومال؟

أو إذا كان المحامي الدولي بدفاعه عن السودان وأهله، قد عشق السودان لدرجة أنه لم يعد يرى شيئاً سواه، من باب «حبك الشيء يعمي ويصم»، فأين هو عن العدوان الأميركي الظالم، الذي دمر مصنعاً للأدوية في الخرطوم بغير حق، عام 1998؟

ثم أليس الأولى بالمدعي العام، بدلاً من البحث عن تهم قانونية في صحاري دارفور، التي تُعَدُّ لَمَمَاً أمام بقية الجرائم الأميركية، التي تتسابق وسائل الإعلام العالمية على نقلها «على الهواء مباشرة»، أليس الأولى به أن يفتح عينيه على هذه الجرائم، إذ سيجد هناك - كما يجد دائماً في البضائع الأميركية - كل ما يريد من جميع أنواع وأصناف الجرائم القانونية الدولية التي تبحث عنها يد عدالة منظمته؟

هل يليق بأي قاض في أي صقع، يتحدث أي لغة، ويتبع أي ملّة، أن يغفر للدول العظمى كبائر ذنوبها ويحاسب الدول المستضعفة على اللمم؟ أيهما أشد خطراً وأعظم أثراً: قتل عشرات الآلاف - على رغم ما في ذلك من انتهاك لحرمات أرواح الأبرياء - أم غزو بلاد بأسرها وتدميرها ونهب ثرواتها وقتل أكثر من مليوني شخص من مواطنيها، وتهجير أكثر من خمسة ملايين نسمة من سكانها وإعادتها إلى العصور الحجرية بغير حق؟

ثم إذا كانت الدول الغربية - الأعضاء في هذه المرجعية القضائية الدولية - تزعم أنها منصفة في تعاملها القضائي فما الذي يحول دون أن تطالب هذه الدول بمحاكمة إسرائيل على جرائمها التي شملت جميع أشكال جرائم الحرب، سواء من جرائم العدوان، أو الإبادة الجماعية، أو التطهير العرقي، أو استهداف المدنيين، أو استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، فضلاً عن بناء المستوطنات المخالفة لقوانين الاحتلال، والجدار العازل الذي أفتت محكمة العدل الدولية بمخالفته للقوانين الدولية؟

واقع الأمر أن القرار المزمع اتخاذه اليوم من المحكمة الجنائية الدولية لإدراج أسماء مسؤولين سودانيين في قائمة المطلوبين الدوليين بارتكاب جرائم حرب، هو بالدرجة الأولى قرار سياسي وليس قراراً قضائياً.

ولعله من نافلة القول إن وزارة الخارجية الأميركية، بتفردها بنقل خبر إدراج اسم الرئيس السوداني ضمن أسماء المطلوبين من المدعي العام قبل وكالات الأنباء، تكون قد كشفت الحقيقة التي لم تعد تخفى عن التدخلات الأميركية في اتخاذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية. إذاً كيف يأتي تسريب الخبر من وزارة تابعة لدولة ليست عضواً في المحكمة أصلاً؟

المضحك في الأمر، هو أن الولايات المتحدة - التي لا تزال ترفض التوقيع على النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية والانضمام إليها - تريد من الدول العربية أن تنضم إليها!

ولكن الأمر الذي يجب أن تبادر إليه الدول العربية اليوم هو السعي في تقديم طلبات جادة لمحاكمة المسؤولين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسرائيل وغيرهم، من الدول التي ارتكبت ولا تزال ترتكب انتهاكات خطيرة ضد الدول العربية والمسلمة. وبغض النظر عن النتيجة المتوقعة لمثل هذه الطلبات في أنها لن تحقق المأرب المرجو منها اليوم، إلا أن الفائدة من مثل هذه الطلبات هو إقامة الحجة القانونية على الدول الغربية في تلاعبها بالقوانين الدولية، وفضح نفاق منظماتها القضائية الدولية.

في الوقت ذاته، إذا كانت حال الدنيا تنبئنا بأن «دوام الحال من المحال» كما يقال في الأمثال، فإنه من غير المحتمل أن تبقى الهيمنة الغربية لفترة طويلة. وتبعاً لذلك، فإنه ربما كان حرياً بنا أن نأخذ جدياً، مسألة البدء في الاستعداد لمحاكمة المجرمين الغربيين، إذا ما تغيرت موازين القوى لمصلحة أمّتنا ضد المصالح الغربية في المستقبل إن شاء الله.

وإذا ما حدث ذلك، فإن الأمر الذي يجب ألا يخفى على الدول الغربية، هو أنه سيكون بإمكاننا أن نزعم أن لدينا «سوابق قضائية» نستطيع أن نبني عليها حين نطالب بالقبض على المجرمين الغربيين من رؤساء ووزراء دفاع ومسؤولين! ومن يدري فقد نضطر إلى خطف طائراتهم وطلب القبض على رؤسائهم ومسؤوليهم لنتمكن من محاكمتهم وسجنهم!

ولكن السؤال الذي لا أعلم جوابه بعد هو: تُرى حين تتم هذه الأمنية، هل سيتم وصفنا بـ «إرهابيين إسلاميين»؟
"الحياة"

التعليقات