31/10/2010 - 11:02

هل اقتربت مرحلة الفوضى الشاملة؟../ د.فايز رشيد*

هل اقتربت مرحلة الفوضى الشاملة؟../ د.فايز رشيد*
لو جرى تحويل بسيط للمقولة الفلسفية حيث تصبح: إن (الصراع هو المحرك الأساسي للتاريخ) طبقياً كان أم تاريخياً، تناحرياً كان أم ثانوياً، فان الصراعات المشتعلة والمستترة في منطقتنا، والأخرى المهددة بالاشتعال، تأخذ دوراً عكسياً من حيث تأثيرها في حركة التاريخ، فهي باتخاذها شكلاً بديلاً عن الصراعات المفترضة مع القوى الخارجية، فإنها تعيد التاريخ قروناً إلى الوراء، فبدلاً من التقدم يكون التأخر والتأخير.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنها وباشتداد أوارها تكون قصداً أو عن غير قصد قد سهّلت لهذه القوى الخارجية خططها للمنطقة، وتكون أيضا مباشرة أو بطريق غير مباشر قد لعبت دوراً في إضعاف قوى أخرى تعمل على تأجيج الصراع مع قوى الهيمنة الخارجية، هذا الصراع اللامتكافئ بحكم موازين القوى بين الجانبين، فهو ليس بين ندّين متكافئين، بل هو بين قوى تحاول فرض هيمنتها وتمتلك المقومات.. وبين قوى تعمل على تعطيل هذه الهيمنة في سبيل تحررها واستقلالها، أيا كانت بساطة الوسائل بين أيديها، وأياً كان الخلل في موازين القوى مع أعدائها، هذه هي الحقيقة الأولى.

أما الحقيقة الثانية، فانه وابتداء من ابن خلدون في عصره، والذي يُفهم من مقدمته بان الاقتصاد يعتبر عاملاً متحكماً في التاريخ وتطوره، مروراً بآدم سميث وآخرين، وصولاً إلى آباء الماركسية النظريين ومفكريها.. فان أحدا لن يستطيع إنكار العوامل الاقتصادية في التأثير على عجلة التاريخ وتقدمه إن أحسن استغلالها، أو تأخره إذا ما أسيء هذا الاستعمال.. ولا بكونها أرضية خصبة للصراع وإعادة إنتاجه بين الفترة والأخرى وفي مراحل معينة من التاريخ.

كدليل على صحة هاتين الحقيقتين أضرب مثالين: الأول، كان من الممكن أن تكون التعدديات المذهبية والطائفية والاثنية رافعاً حقيقياً لتطور المنطقة، لو استندت إلى الديمقراطية والحرية وحرية الاختلاف والاعتناق والمساواة والعدل، وغيرها من مقولات أساسية وقوانين بسيطة ولكن لأنها ليست كذلك فقد أصبحت محركاً للتراجع، أما المثل الثاني، فهو الثروات العربية، وبدلاً من كونها (نعمة) مفترضة، فإنها أصبحت (نقمة) وبامتياز، نظراً لافتقاد السياسات الصحيحة في التعامل معها، ثروات الوطن العربي لو أحسن استغلالها في نهج سياسي واجتماعي سليمين، لقرَّبت هذا الوطن من جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي.

أحداث نهر البارد هي نقطة في بحر الأزمات والحرائق التي تشتعل في الوطن العربي وهبّة من العواصف التي تفترش أنحاء كثيرة فيه، والتي تهدد بالانتقال إلى مختلف أجزائه.. حتى بتنا نخشى اقتراب مرحلة الفوضى الشاملة، والتي تختلط فيها الأزمات التي تطغى في السماء العربية، دون امتلاك حتى الحدود الدنيا للحلول، بل تتفاقم هذه الأزمات والحرائق حيث تصل نقطة (اللاعودة) وحيث يبدو من الاستحالة بمكان إيجاد الحلول لها.. والحالة هذه تكون الأزمات والحرائق قد تمكنت من التهام الأخضر واليابس، وبخاصة في ظل الانقسام الوطني الداخلي.

وكدليل على ما يمكن أن تؤدي إليه هذه الانقسامات: الخسارة الكبيرة للقضية الوطنية الفلسطينية على الأصعدة الوطنية والعربية والدولية في ظل مراحل الاقتتال الفلسطيني - الفلسطيني، والتي نتمنى أن لا يعود هذه المرة وبشكل نهائي الدليل الآخر الأبرز والأحدث على هذا الصعيد، هو: القرار رقم (1757) الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 30 ـ 5 ـ 2007 بشأن إنشاء (المحكمة الدولية) التي ستبحث في ملف اغتيال الحريري والشخصيات اللبنانية الأخرى.. فهو قرار سيلقي بتبعته الكبيرة على زيادة الشرخ في لبنان، فمجلس الأمن بقراره المذكور وبانتقائيته الواضحة، ذلك انه لم يبحث (مثلاً) في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رشيد كرامي، ولا في اغتيال رينيه معوض، ينتقص من سيادة لبنان، إن بعدم استكمال خطوات المحكمة دستورياً في لبنان، أو بإعطائه الادعاء العام سلطة مطلقة في توجيه الاتهام إلى مطلق شخص في داخل لبنان أو خارجه، والمحكمة أيضا ستكون خارج لبنان وبأغلبية قضائية لمن تعينهم الأمم المتحدة من الأجانب، ومن يْحكم عليه سيتم سجنه في خارج لبنان، وكذلك فان من حق الادعاء العام محاكمة أي شخص للمرة الثانية إذا سبق وان حوكم في بلده، وفي هذا ضرب لمبدأ قانوني (عدم جواز محاكمة نفس الشخص على نفس التهمة مرتين).

كثيرة هي المثالب في النظام الأساسي للمحكمة الدولية.. والسؤال هو: لماذا تنفي الولايات المتحدة العامل الإسرائيلي في عمليات الاغتيال؟ ذلك لأنها لو أيقنت بضلوع إسرائيل في هذه العمليات، لما وقفت بقوة وراء إنشاء المحكمة،، مما يعني أن للإدارة الأمريكية مواقف مسبقة تجاه بعض الأطراف اللبنانية والأخرى العربية.. مما يجعل المحكمة: سياسية بامتياز ما سيساهم في اشتعال المنطقة هو الإمكانية الفعلية القائمة بتوجيه ضربات عسكرية أمريكية إلى إيران وتبعات ذلك، بوش لن يترك منصبه قبل قيامه بالعديد من الإجراءات العسكرية التي قد تطال أكثر من بلد عربي وإقليمي.

لا نقول ذلك من باب التشاؤم.. بل ننادي بالتفاؤل الدائم، ولكن مع الأزمات والحرائق والعواصف العربية، فان التفاؤل يحمل معنى العجز.. ويكون مفتقداً إلى التفسير ألسببي للحدث وللنتيجة أيضا.. نظراً لافتقاد الذهن إمكانية التفكير العقلاني نتيجة لظاهرة اختلاط المفاهيم ـ الأزمات وتأثيرها المباشر على عملية التفكير.. ليصبح التفاؤل حينها حالة غير موضوعية، بل يتحول في أحسن أحواله إلى حالة من التشاؤل، لقد بشّر الأمريكيون بـ (الفوضى الخلاقة) في العراق باعتبارها المخاض الذي لا بد منه لولادة العراق الجديد، الذي تظلله الديمقراطية، ويعمه الأمن والرخاء والسعادة، لكن الأمريكيين نسوا أو تناسوا أن حروبهم التي خاضوها في المنطقة، وسياساتهم التي يمارسونها هم مباشرة ومن خلال حليفهم الاستراتيجي الإسرائيلي هي الظواهر الأبرز في خلق الفوضى التي ستكون شاملة في عموم المنطقة، وهي السبب الرئيسي في ولادة الإرهاب كظاهرة وتفريخ هذه الظاهرة وامتدادها أفقيا وعمودياً ليس على صعيد المنطقة فحسب، وإنما على صعيد العالم.

من زاوية ثانية، فان العولمة الاقتصادية التي يجري طرحها، والتي ابتدأت ممارستها بشكل فعلي، هي ظاهرة متغولة ومتوحشة زادت في ارتفاع مديونية الدول النامية لدول الشمال الغنية، حتى باتت كثير من الدول غير قادرة على سداد فوائد هذه الديون، وسط إشراف مركزي من المؤسسات الاقتصادية العابرة للقارات، مثل البنك الدولي عليها، وإلحاق وتبعية اقتصاد الدول الفقيرة لاقتصاديات العولمة، بما يعنيه ذلك من سلسلة تحولات في هذه الدول: مزيد من الإثراء للأثرياء والإقطاعيين والسماسرة الكومبرادور.. والاضمحلال التدريجي للطبقة الوسطي في هذه الدول، وجميع مؤسسات القطاع العام فيها لصالح الخصخصة، وفتح الدول للاستثمارات الأجنبية، دون امتلاك سياسة اقتصادية، ودون امتلاك قوانين الحماية لمواطني هذه الدول، مما يعني تضخماً اقتصادياً كبيراً، وارتفاعاً في كلفة الحياة حتى للمواد الغذائية الأساسية، وتداعيات ذلك في إفقار الفقراء وزيادة معاناتهم (وتقريرا التنمية العربية للعامين 2004، 2005، الصادران عن الأمم المتحدة.. هما خير شاهد على ذلك، ففيهما وفي مجالات كثيرة، فان الدول العربية متأخرة عن مثيلاتها حتى في إفريقيا).

لا نطرح هذه الجوانب الاقتصادية من باب الفذلكة الكلامية، ولكن باعتبارها قاعدة أساسية (على اعتبار أن السياسة هي أولا وأخيرا اقتصاد مكثّف) لتداعيات سلبية مجتمعية أخرى، مثل: النقص المتزايد في الخدمات للمواطنين وفي المجالات المختلفة: الصحية والتعليمية والحياتية الأخرى.. مما يزيد أيضا في زيادة معاناة الناس، وما يصاحب ذلك في العادة من زيادة في تكميم أفواه الناس، ومزيد من الخنق للحريات (هذه إن وجدت في الأساس)، وتداعيات ذلك أيضا: من ارتفاع في مستوى الجريمة في هذه المجتمعات، والنهب والسلب، وسرقة المال العام، وما يصاحب ذلك في العادة من انقلابات حادة على صعيد المجتمعات وثقافاتها، حيث يصبح (السارق) هو الأذكى والأكثر فهلوة وغيرها من المفاهيم.

هذا الوضع.. ما كان ممكناً أن يتحول إلى ظواهر ملموسة في مجتمعات هذه الدول المعنية، لو امتلكت حكوماتها وسلطاتها التنفيذية السياسات الصحيحة والصائبة في المجالات المختلفة وبالأخص منها: السياسية والاقتصادية.

ولكن لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فان حكومات هذه الدول جعلت من ذواتها نواباً عن مواطنيها، تفكّر بدلاً منهم، ولا تعترف بكفاءاتهم.. ولذلك فان المزيد من الأزمات المجتمعية تعمل على المزيد من الكشف والإرباك لهذه الحكومات العاجزة عن انتهاج سياسات خاصة بها.. مما يعني بالتأكيد الإغراق في المزيد من تبعيتها وأيضا في المجالات المختلفة.

بالتالي، فإن الأزمات البنيوية العربية، وبالمواصفات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي سبق وان ذكرناها باختصار (وفي حدود ما يسمح به حجم مقالة صحفية) تشكل الأرضية الخصبة لنمو الأفكار المتطرفة.
إذا ما أضفنا إلى ذلك الشعور بالظلم الخارجي المعبر عنه في الاحتلال والاعتداءات على الذات الوطنية والقومية كما يحدث في كل من العراق وفلسطين والصومال، وإضافة إلى البؤر العربية الخلافية الأخرى في السودان والجزائر والمغرب ولبنان، والدول العربية المرشحة الأخرى لاشتعال مثل هذه البؤر فيها، كل ذلك مضافاً إلى الشعور بالظلم الداخلي، يصبح المعنى.. إن الظروف باتت في طريقها إلى التهيئة لانفجار عام ولكن ليس على شاكلة ما يتصوره الأمريكيون من (فوضى خلاّقة) وإنما فوضى شاملة لا تُبقي ولا تذر.. فوضى عامة وشاملة

"الدستور"

التعليقات