31/10/2010 - 11:02

هل من نهاية للحرب الباردة؟../ جميل مطر

هل من نهاية للحرب الباردة؟../ جميل مطر

نقلوا عن الرئيس جورج بوش قوله لأحد زملائه في حلف الأطلسي إنه يتمنى لو أن أحداً أبلغ الرئيس فلاديمير بوتين أن الحرب الباردة قد انتهت.

تأملت طويلاً في هذا القول. ولم أشك في صحته، فقد سربت القيادة الحاكمة الأمريكية تصريحات تحمل المعنى نفسه عبر الشهور الأخيرة. فضلاً عن أن المتابع لتفاصيل السياسة الخارجية الأمريكية، على الأقل في سنواتها الأخيرة، يعلم جيداً أن سياسيين أمريكيين، وعلى رأسهم الرئيس بوش ونائبه وعدد لا بأس به من النواب والشيوخ وقيادات عسكرية وقيادات مهجنة أي تعمل في مجمعات عسكرية صناعية تكنولوجية، يحلمون بعودة زمن الحرب الباردة، بل وأظن أنهم مكتئبون لأن الحرب الباردة، كأي حرب، تفترض وجود عدو، بينما يرفض المرشحون لهذا الدور أن يلعبوا دور العدو كما لعبه الاتحاد السوفييتي في وقت من الأوقات. وبسبب غياب العدو، أو على الأقل رفضه ممارسة دور العدو سقطت كافة محاولات شن حرب باردة.

من هم الأطراف المرشحون للعب دور العدو في حرب باردة جديدة؟ المرشحون، أو بدقة أكثر، المرشحان هما روسيا والصين، روسيا ليس فقط باعتبارها خليفة الاتحاد السوفييتي ولكن أيضاً لأنها رفضت الاعتراف بهزيمتها وعادت تنهض، والصين باعتبارها القطب الصاعد اقتصادياً في العالم وسياسياً في آسيا، أكبر القارات حيث تحظى باهتمام الجيران واحترامهم ولا تتدخل في شؤونهم أو يتدخلون في شؤونها، هكذا أقامت شبكة علاقات شاذة لا تستقيم مع القواعد التي وضعتها الولايات المتحدة للنظام الدولي.

لقد تابع بعض السياسيين في الشرق الأوسط السياسات التي مارستها حكومة الرئيس كلينتون ثم حكومة الرئيس بوش مع القيادات الروسية التي تولت حكم موسكو خلال مرحلة انهيار الاتحاد السوفييتي وبعدها مباشرة. لم تكن خافية، ولم تحدث في طي الكتمان، جهود أمريكا لتفكيك الدولة الروسية وبخاصة قطاعاتها الإنتاجية. وكانت الحجة الأيديولوجية التي وفدت باسمها عشرات الوفود من الخبراء والمستشارين هي أنه لن تقوم في روسيا رأسمالية واقتصاد سوق على النمط الغربي، ما لم ترفع الدولة يدها كلية عن الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وما لم ينفرط عقد منظومة القيم في المجتمع. وبدأ بالفعل العمل مع الرئيس يلتسين وجماعته على هذا الأساس، وتحمّل الإعلام الغربي مسؤولية حماية العناصر التي تكفلت بمهمة تحطيم قطاع الطاقة وقطاعات الإعلام في روسيا. ورأينا جميعاً كيف كانت روسيا تنهار أمام أعيننا أخلاقياً واقتصادياً وتدنت مكانتها الدولية إلى درجة غير مسبوقة في تاريخها الحديث إلا في سنوات الفوضى البلشفية.

من ناحية أخرى لم تتوقف عمليات الاقتراب بروسيا من حلف الأطلسي وإثارة فتن دينية وطائفية في الداخل. وكان الهدف في ما يبدو إخضاع روسيا لمزيد من الضغط لتسرّع بعملية تفكيك الدولة بعد أن اتضح أن صحوة العقيدة الأرثوذوكسية في روسيا التي أعقبت انهيار منظومة القيم أشعلت بذرة الوطنية الروسية، وعاد الالتحام التقليدي بين روسيا الوطن وروسيا الكنيسة يوقف الانهيار ويحفز قوى وطنية في قطاعات الأمن والاستخبارات للتدخل لإنقاذ روسيا.

استمعت بشغف إلى معلقين سياسيين من مصر ودول عربية أخرى ينتقدون في سخرية سياسات بوتين تجاه تمدد حلف الأطلسي. بعض هؤلاء يعتبر الأطلسي مظلة الأمن لعالم المستقبل، وأن واجب كل الديمقراطيين والمتحضرين في العالم السماح للحلف بالتمدد إلى حيث يشاء قادته. بمعنى آخر من المعلقين العرب يؤيد رفض بوتين أن تقوم قواعد للأطلسي مع حدود روسيا في أوكرانيا وجورجيا تماماً كما يجب أن ترفض مصر مثلاً تمدد مظلة الأمن الاستراتيجية الأطلسية إلى حدود مصر في غزة وليبيا والسودان، أو تمدد مظلة الأمن “الإسرائيلية” إلى حدود أمن مصر الإقليمي في الشرق والجنوب ومع المداخل الشرقية للإقليم العربي.

توقفت ملياً أمام تصريح الرئيس بوتين أمام قادة الأطلسي في بوخارست الذي قال فيه إن إيران لا تمثل خطراً داهماً على الغرب يستدعي شن حرب ضدها، أو حتى يستدعي الضجة السخيفة المفتعلة حول إقامة درع دفاعي، صواريخه في بولنده وراداراته في تشيكيا، لحماية أمريكا ودول الغرب. تعلم روسيا، ونحن نعلم أيضاً، أن إطلاق صرخات الحرب والعداء ضد إيران إنما هو لحشد وتجييش الطبقات الحاكمة في روسيا وأوروبا والشرق الأوسط، وبخاصة تلك القيادات التي بدأت تشكك في قدرة الولايات المتحدة على المحافظة على أحادية قياداتها للنظام الدولي خلال العقدين القادمين.

لذلك ظهر الرئيس الأوكراني ضعيفاً، عندما خرج أمام شعبه مدافعاً عن طلب انضمامه لحلف الأطلسي بقوله إن هذا الانضمام ليس موجهاً ضد روسيا، بينما كانت الأغلبية الأوكرانية تسأل، إن لم يكن الانضمام موجهاً ضد روسيا، فضد من إذن؟ فالأوكراني مثل غيره من شعوب أوروبا لا يصدق أن إيران الهدف، لأنها ليست جارة ولم تؤذ مصلحة وطنية ولا تهدد أمن أوكرانيا. ولكن ما لا يعرفه الأوكراني هو أن إيران دولة ستزداد أهميتها وتتضاعف خطورتها باعتبار أنها الجهة الوحيدة في هذا العالم التي تبرر في الوقت الحالي هدف الاستراتيجية الامبراطورية الأمريكية إقامة درع صاروخي في وسط أوروبا يحد من استقلال روسيا ويحاصرها.

لم يكن خافياً أن القيادة الأمريكية لحلف الأطلسي واجهت تمرداً في قمة بوخارست. لم يقع التمرد لأن الرئيس بوش بالغ في الإعراب عن ضيقه وتبرمه من شح الإسهام العسكري الأوروبي في أنشطة الحلف في أفغانستان. وقع التمرد لأن ألمانيا وفرنسا شعرتا بأن إنعاش الحرب الباردة مع روسيا سوف تؤدي إلى اختلال في توازن القوى الأوروبية، وهو التوازن الذي نجحت ألمانيا في إقامته ودعمه على امتداد ثلاثين عاماً، كانت أمريكا خلالها منشغلة بقضايا تفتيت البلقان وغزو أفغانستان وتدمير العراق وتأمين مصادر نفطها في الشرق الأوسط وتفكيك روسيا من الداخل. إن بعض انفعال روسيا وحرارة الشعور الوطني فيها واشتعال النعرة الدينية الأرثوذوكسية يعود، حسب اعتقاد كثير من المفكرين الألمان، إلى سوء تصرف السياسة الأمريكية تجاه روسيا.

ولعل الموقف ذاته هو الذي يجعل فرنسا، وأوروبا بشكل عام، تتوجس شراً من تصرفات مشابهة قد تمارسها الولايات المتحدة مع الصين في السنوات القليلة القادمة. لقد تأكد الغرب بناء على تأكيدات الصين بأنها لا تسعى لحرب باردة مع الولايات المتحدة أو مع الغرب بأسره. الصين تريد عالماً متصالحاً لأن بناءها الاقتصادي لم يكتمل، ولن يكتمل إلا في ظل علاقات متوازنة وصحية. أما ما لا يمكن أن تقبله الصين فهو أن تجرها السياسة الأمريكية إلى مواجهة سياسية تفرض عليها الدخول في سباق تسلح يشل نموها الاقتصادي، مثلما فعلت مع الاتحاد السوفييتي في سنواته الأخيرة.

في مثل هذه المواجهة ستكون الولايات المتحدة الخصم الأقوى وصاحبة النفس الأطول لأسباب كثيرة، أغلبها غير متوفر لدى الصين أو روسيا في الوقت الراهن. الأمل في روسيا كما في الصين أن تأتي إلى واشنطن حكومة واعية لخطورة إشعال نيران حرب باردة أو فرض سباق تسلح عليهما في وقت نهوضهما وحاجتهما إلى الهدوء والتفاهم. وفي مثل هذه المواجهة ستكون أوروبا خاسرة، لأن أوروبا، هي الأخرى، في حال نهوض “حضاري” وثقافي وتكنولوجي، وفي حاجة ماسة إلى إبقاء خياراتها الدولية مفتوحة وعدم الدخول في مواجهات تشنها أمريكا باسم الغرب، والغرب لها غير متحمس.

ريغان ومن بعده بوش الكبير وبعدهما كلينتون الزوج ثم بوش الصغير، جميعهم التزموا سياسة التصعيد مع روسيا، تارة من خلال الحرب الباردة وتارة من خلال غزوة تفكيك الامبراطورية ثم تفكيك الدولة. خمس حكومات أمريكية خلفت مدرسة في السياسة الخارجية الأمريكية “معادية” لروسيا، هل ستكون حكومة واشنطن القادمة، حكومة عام ،2009 مختلفة؟
"الخليج"

التعليقات