31/10/2010 - 11:02

هل هناك فعلاً صفقة سرية بين واشنطن ودمشق../ معن بشور

هل هناك فعلاً صفقة سرية بين واشنطن ودمشق../ معن بشور
الحديث الرائج اليوم عن وجود صفقة أميركية ـ سورية هو الوجه الآخر للحديث بعد احتلال العراق عام 2003 عن وجود مشروع أميركي كاسح في المنطقة ينبغي التكيف مع إملاءاته، فكلا الحديثين، رغم ما بينهما من تناقض ظاهري، يعبران عن تبسيط مضلل يتجاهل قواعد العلاقات الدولية ذات الطبيعة المعقدة والتي تتداخل فيها الرغبة مع القدرة، والمصالح الاستراتيجية البعيدة مع المصالح الآنية القريبة.

فإذا كان «التفكير الرغبوي» قد حرك سياسات ـ وأحيانا شهوات ـ البعض الراغب في تصفية الحساب مع القيادة السورية عبر الاستناد الى ما يسمى «بالقدر الأميركي الذي لا يرد»، فإن «التفكير التبريري» يحرك اليوم البعض المصاب بالإحباط واليأس ممن اعتقد انه اذا وضع نفسه في تصرف المشروع الأميركي فإن أصحاب هذا المشروع سوف يضعون أنفسهم في تصرفه.

بين هاجس «الصفقة» ووهم الارتهان يبرز تحليل أكثر دقة يعتبر أن ما يشهده العالم عموماً والمنطقة خصوصاً، ولبنان على الأخص، من تطورات درامية تعيد صوغ المشهد السياسي والعسكري برمته، انما يعود الى انكشاف القدرات المحدودة للإدارة الأميركية الحالية، ومعها حكومة تل أبيب، وهو الانكشاف الذي دفع بواشنطن الى البدء بمراجعة عميقة في سياستها الكونية، كما في سياستها الشرق أوسطية نفسها، وفق خارطة طريق جديدة رسمتها لجنة هاميلتون ـ بيكر قبل عام، ولم تنجح كل محاولات الإنكار والمكابرة التي قام بها بوش ونائبه ديك تشيني للحيلولة دون الأخذ بها.

واذا كانت نظرية التفوق الأميركي ـ الصهيوني غير المحدود قد تهاوت على يد المقاومين الأبطال في العراق وأفغانستان والصومال، كما في فلسطين وجنوب لبنان (لا سيما بعد الانتصار التاريخي في حرب تموز العدوانية عام 2006)، وتراجعت مع السقوط المدوي لكل حلفاء بوش في حربه على العراق بدءاً من ازنار الاسباني، الى برلسكوني الايطالي، الى بلير البريطاني، الى أبي الياباني، الى هوارد الاسترالي، الى رامسفيلد الأميركي وأصدقائه من «المحافظين الجدد»، واذا كانت الأحادية القطبية الأميركية قد تعثرت مع انتفاضة أميركا اللاتينية (رغم كبوة تشافيز الأخيرة) وارتبكت مع نزعات بوتين المتحدية (والتي عززتها نتائج انتخابات الدوما الروسية الاخيرة) واهتزت مع الخروج المتدرج للمنافس الصيني الى دائرة الضوء في العلاقات الدولية، فإن حظ منطق «الصفقات» ذي الشعبية الواسعة في أوساط مروجي نظرية «المؤامرة» لن يكون أكبر من حظ نظرية «القدر الأميركي الذي لا يرد». فأصحاب نظرية الصفقة بين واشنطن ودمشق يقعون في تناقض مثير حين يعتبرون، ببساطة غريبة، أن مجرد ذهاب نائب وزير الخارجية السورية الدكتور فيصل مقداد الى مؤتمر انابوليس في أواخر الشهر الماضي هو مؤشر على حدوث هذه الصفقة، فيما هم أنفسهم يقولون إن مشاركة الحكومة السورية في ذلك المؤتمر تهدف الى فك العزلة العربية والدولية عنها.

فالسؤال اذاً هنا هل شاركت دمشق في مؤتمر انابوليس لعقد صفقة مع واشنطن تعطيها نفوذاً ومكاسب في لبنان وغير لبنان، أم انها شاركت لترفع السيف المسلط فوق رأسها أي لتخفيف الخسائر، ومع هذا السؤال يتضح عمق التناقض بين تقييم الواقع السوري، فيما اذا كان قوياً يسمح بعقد الصفقات، أو ضعيفاً يسعى الى فك العزلة؟ وأصحاب النظرية أنفسهم يحاولون الإيحاء ايضاً بأن وراء الصفقة الأميركية ـ السورية محاولة من الإدارة الأميركية ومعها دول الاعتدال العربي لإبعاد دمشق عن طهران، فينسون اولاً أو يتناسون ان العلاقة السورية ـ الايرانية هي من عمر الثورة الايرانية نفسها، وهي من الثوابت الاستراتيجية لدى القيادتين، وان معظم «الصفقات» بين سوريا والولايات المتحدة، التي يشيرون اليها في معرض الحديث عن صفقة جديدة، انما انعقدت في ظل علاقات حميمة بين دمشق وطهران وليس على حساب هذه العلاقات، فلماذا لا يُنظر مثلاً الى الدور السوري الآن، كما كان طيلة العقود الثلاثة الماضية، هو دور الجسر بين ايران ودول الخليج وغيرها.

يضاف الى ذلك كله أن هذه الأيام ذاتها تشهد تطورات كبيرة تتعلق بالعلاقة الأميركية ـ الايرانية نفسها، كما بعلاقة ايران بما يسمى بمحور الاعتدال العربي، بدءاً من التقرير الاستخباراتي الأميركي الجديد الذي ينفي وجود برامج عسكرية ايرانية نووية، وصولا الى استضافة دول مجلس التعاون الخليجي، نواة محور الاعتدال العربي، للرئيس الايراني أحمدي نجاد في الدوحة وقد دخل قاعة الاجتماع يداً بيد مع العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز، مروراً بما أشارت اليه جريدة «واشنطن بوست» الأميركية الواسعة الاطلاع بأن طهران ستكون إحدى العواصم التي يتضمنها جدول زيارات وزيرة الخارجية الأميركية كوندليسا رايس الى المنطقة، ناهيك عن مؤشرات عدة ترجح أن ملف الحرب ضد ايران قد بدأ يطوى في واشنطن (كما يقول اليوم ديك تشيني وهو أكبر المتحمسين لهذه الحرب) لصالح العودة الى العقوبات الاقتصادية التي تواجه هي الاخرى تعثراً بسبب المتغيرات الهامة التي يشهدها الوضع الدولي خصوصاً موقف روسيا والصين وبعض أوروبا.

فليس في الأمر، على ما أظن، صفقة سرية مع سوريا، ولا مع ايران، ولا مع الدولة «المارقة» الاخرى، كوريا الشمالية، التي تسلّم رئيسها بالامس ولأول مرة في تاريخ العلاقة بين بيونغ يانغ وواشنطن، رسالة من الرئيس الأميركي جورج بوش الذي بدوره كان قد أعلن عشية حربه على العراق ان كوريا الشمالية هي ثالث ثلاث دول تشكل «محور الشر» بالإضافة الى العراق آنذاك وايران.

ملخص الأمر ، في اعتقادي، ان الاندفاعة العدوانية الأميركية التي شهد العالم، أقسى وأبشع صورها، (بعد أحداث 11 ايلول 2001 المؤلمة في نيويورك وواشنطن تحت اسم «الحرب على الارهاب») قد أخفقت وتعثرت وتراجعت وقادت الى فراغ لم تعد واشنطن قادرة على ملئه فتقدمت دول وقوى كبرى وإقليمية كي تملأه بنفوذها وسياستها. خصوصاً ان تقرير لجنة بيكر ـ هاميلتون (ولنتذكر أن أحد أعضاء اللجنة هو وزير الدفاع الأميركي الحالي روبرت غيتس) قد وفر غطاءّ لهذا التراجع الاستراتيجي تحت شعار المراجعة، والدعوة الى فتح الحوار مع دمشق وطهران، وربما غداً مع حزب الله وحماس والمقاومة العراقية لحل أزمات المنطقة، خصوصاً أن هذا التقرير ما كان له أن يرى النور لولا تصاعد المقاومة الباسلــة في العــراق، ولولا الانتصار التاريخي للمقاومة المجــاهدة في لبنان، ولولا الصمود الأسطـوري لشــعب فلسطين على امتداد أرضه المحتلة، ولولا ممانعة دمشق وطهران ومواقع شعبية على امتداد المنطقة.

أما المتمسكون بتلابيب نظريات تتحدث مرة عن «قوة أميركية وصهيونية لا تقهر» ، ومرة اخرى عن «صفقات سرية تعقد»، فعليهم أن يقرأوا الوقائع الميدانية جيداً، ويدركوا انه حتى الادارة الأميركية يمكن أن تتعثر، وانه حتى المشروع الصهيوني يمكن أن يتقهقر... وإلا، كما قلت قبل أكثر من عام، على صفحات «السفير»، «فليلتحق هؤلاء بدورات محو الأمية السياسية». أما الذين أثبتت التطورات سلامة تحليلهم، وفعالية مقاومتهم، فهم مدعوون من الجانب الآخر الى التحلي، كعادتهم، بأخلاق المنتصرين وتواضعهم وحكمتهم وسعة صدرهم وعلو نفوسهم، وسمّوهم وشهامتهم.

التعليقات