31/10/2010 - 11:02

هل ينجح الاقتصاد في إصلاح ما أفسدته السياسة العربية؟../ د.حسن نافعة

هل ينجح الاقتصاد في إصلاح ما أفسدته السياسة العربية؟../ د.حسن نافعة
كان يفترض أن يشكل مؤتمر القمة العربية المنعقد في الكويت نقطة انطلاق جديدة على طريق ترميم العمل العربي المشترك ودفعه خطوات إلى الأمام، وذلك لأسباب رئيسية ثلاث:

السبب الأول: استبعاد القضايا السياسية من جدول أعماله. وحيث أنه عادة ما ينظر إلى القضايا السياسية باعتبارها الأكثر إثارة للخلافات بين الدول العربية، فقد ساد اعتقاد مفاده أن عقد مؤتمر على مستوى القمة لمناقشة القضايا الاقتصادية والاجتماعية وحدها من دون سواها واستبعاد السياسية من جدول أعماله يوفر مناخا أكثر ملاءمة للتقدم على طريق حل المشكلات الأساسية للإنسان العربي وربط الدول العربية بشبكة مصالح متبادلة يمكن أن تساعد تدريجا على التغلب على العديد من العقبات التي تعترض تجاربها التكاملية.

السبب الثاني: التحضير والإعداد الجيد للمؤتمر. فقد تم الاتفاق على موعد انعقاده منذ أكثر من عام، وقام الأمين العام للجامعة العربية بتعيين السيدة ميرفت التلاوي منسقا عاما للمؤتمر، وبالتالي كان أمامها عام كامل لإعداد الملفات وعرضها على القمة بطريقة منظمة ومدروسة من شأنها أن تسهم في اتخاذ قرارات أكثر رشدا وعقلانية وقابلية للتطبيق وقدرة على التأثير الفعال في الواقع المراد تغييره.

السبب الثالث: إشراك القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي في العمليات التحضيرية على نحو يضمن الاستفادة قدر الإمكان من الخبرات المتاحة في جميع المجالات، ويساعد في الوقت نفسه على التعرف إلى الحاجات الحقيقية للقطاعات المستهدف تنميتها والارتقاء بها.

وتوافرت لدى السيدة ميرفت التلاوي ميزتان مكنتاها من القيام بالمهمة الموكولة اليها على أكمل وجه. الميزة الأولى: خبرة ديبلوماسية واسعة اكتسبتها من عملها بوزارة الخارجية المصرية لفترة طويلة، ما ساعدها على التعرف بدقة على تضاريس النظامين العالمي والعربي وسلّحها بنظرة واقعية لمعالجة الأمور وعدم الاستغراق في أماني وأحلام غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع والتي عادة ما يكتشف المرء لاحقا، ولكن بعد فوات الأوان، أنها لم تكن سوى أوهام أو سراب.

الميزة الثانية: إدراك جيد لطبيعة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه العالم العربي، بحكم تجربتها السابقة كمساعد للأمين العام للأمم المتحدة وكمدير تنفيذي للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا). لذلك لم يكن غريبا أن تنجح هذه السيدة الدؤوب، رغم الإمكانات المحدودة التي وضعت تحت تصرفها والعقبات البيروقراطية الضخمة التي واجهتها، في أداء مهمتها وأن تتمكن من رسم صورة دقيقة لمشكلات الواقع الاقتصادي والاجتماعي في هذا العالم تسمح لصناع القرار فيه بالتعرف بوضوح على ما يتعين عليهم القيام به لتجاوز هذا الواقع المرير.

الصورة التي عكستها الأوراق المقدمة للقمة تؤكد حقيقتين تحولتا، من فرط وضوحهما، إلى بديهيات. الحقيقة الأولى: أن العالم العربي، ككل، يملك إمكانات وقدرات ضخمة تسمح له بأن يصبح قوة لا يستهان بها في العالم، وهو ما تظهره أرقام عديدة منها: امتداده على رقعة جغرافية تشكل أكثر من 10 في المئة من مساحة العالم، و5 في المئة من تعداد سكانه، وامتلاكه لنحو 60 في المئة من احتياطات العالم النفطية.. الخ، على رغم افتقار العالم العربي في الوقت نفسه لموارد حيوية أخرى في مقدمها المياه (0.57) في المئة من موارد المياه المتجددة في العالم) على سبيل المثال. الحقيقة الثانية: أن هناك هدرا كبيرا لهذه الإمكانات، وهو ما تشير إليه أرقام مثل: معدلات البطالة (16 في المئة متوسط عام و53 في المئة بين الشباب!)، الفقر (79 مليوناً، أي أكثر من ربع سكان العالم العربي، يعيشون تحت خط الفقر على أقل من دولارين يوميا)، الأمية (نحو 40 في المئة)، الدين العام الخارجي (150 بليون دولار)، حجم الثروات العربية في الخارج (نحو تريليوني دولار)، حصة الدول العربية من الاستثمارات الأجنبية (أقل من 5 في المئة)، حجم التجارة البينية (10-12 في المئة مقارنة بحجم التجارة البينية في دول الاتحاد الأوروبي والتي تبلغ نحو 60 في المئة).. الخ. ولأن هذه الصورة تبدو في مجملها قاتمة فمن الواضح تماما أن تحسينها يتطلب عملا ضخما ومتأنيا وصبورا من الطبيعي أن تختلف وجهات النظر حول المنهج الأنسب لتحقيقه.

مشكلة العالم العربي لا تكمن في افتقاره لمقومات التعاون والتضامن، فهو يملك منها الكثير، ولكن في عدم قدرته على اختيار المنهج الملائم والذي يضمن له تقدما مستمرا إلى الأمام، ولو بخطوات صغيرة ولكن مدروسة، وعدم التوقف أو العودة إلى الوراء. فقد شهد العالم العربي على مدى أكثر من ستين عاما حركة متذبذبة تنطلق أحيانا بخطى واسعة ومفاجئة تصل إلى حد السعي إلى تحقيق وحدة اندماجية كاملة، ثم تعود للتقهقر أو التراجع المفاجئ إلى درجة عدم القدرة على القيام بأي خطوات تعاونية أو تضامنية صغيرة. لذا لم يكن غريبا أن يظل العالم العربي يدور حول نفسه في حلقة مفرغة دائمة. والمطلوب الآن البحث عن منهج ملائم يضمن الخروج من هذه الحلقة الجهنمية الخبيثة.

لقد اتضح لي، من خلال مشاركتي في بعض الأعمال التحضيرية لهذه القمة، أن هناك كثيرين ممن يعتقدون أن النهج الأفضل لتحقيق التكامل العربي يكمن في فصل الاقتصاد عن السياسة. ففي الأمور الاقتصادية يمكن التوصل إلى صيغ تكاملية تقوم على فكرة المنافع أو المصالح المتبادلة يحرص الأطراف على المشاركة والانخراط فيها توخياً لهذه المنافع أو المصالح، وذلك بعكس الأمور السياسية والتي تبدو في كثير من الأحيان وكأنها مباريات صفرية تشكل مكاسب بعض الأطراف فيها خسارة بالضرورة للأطراف الأخرى. وعادة ما يشير أصحاب وجهة النظر هذه إلى تجربة الاتحاد الأوروبي باعتباره نموذجا ناجحا على إمكان الفصل بين الاقتصاد والسياسة والقدرة على تحقيق التكامل والوحدة من باب الاقتصاد وليس من باب السياسة.

غير أن وجهة النظر هذه ليست دقيقة في تقديري. فالتجربة الأوروبية نجحت ليس لأنها فصلت الاقتصاد عن السياسة، ولكن لأنه توافرت لها عوامل سياسية، خارجية وداخلية، ضمنت لها إمكان التقدم على طريق التكامل من باب الاقتصاد وحالت دون تدخل السياسة لعرقلة مسيرتها التكاملية.

فعلى الصعيد الخارجي: يلاحظ أن تجربة التكامل الأوروبي لم تنطلق على نحو فاعل إلا بعد الحرب العالمية الثانية وفي ظل نظام دولي ثنائي القطبية، على رغم أن فكرة الوحدة الأوروبية قديمة ومتجذرة وجرت محاولات لتحقيقها قبل ذلك بكثير لكنها فشلت. أما بعد الحرب العالمية الثانية فقد توافرت ظروف خارجية ملائمة لانطلاق هذه التجربة لأن الاتحاد السوفياتي، ومعه دول أوروبا الشرقية، شكل تهديدا مشتركا دفع دول أوروبا الغربية للتكتل لمواجهته وحثها على تجاوز خلافاتها وحروبها القديمة. في الوقت نفسه كانت لدى القطب الدولي الآخر، وهو الولايات المتحدة الأميركية، مصلحة واضحة في تشجيع حركة التكامل والوحدة الأوروبية بتقديم حافز أمني لحمايتها (حلف شمال الأطلسي) وحافز اقتصادي لتمكينها من إعادة بناء ما دمرته الحرب (مشروع مارشال). وشكل هذان الحافزان جناحين ما كان يمكن من دونهما أن تنطلق عملية التكامل والوحدة الأوروبية.

وعلى الصعيد الداخلي: يلاحظ أن الوحدة الأوروبية بدأت بمجموعة دول محدودة العدد (ست دول) شكلت نواتها الأولى والتي راحت تكبر تدريجا وتتوسع رأسيا وأفقيا إلى أن أصبحت اتحادا أوروبيا يتكون من 27 دولة، وكانت كلها دولاً ديموقراطية تحكمها مؤسسات لا أفراد، وأصبحت الديموقراطية منذ اللحظة الأولى شرطا يتعين توافره في كل من يريد الالتحاق بالاتحاد. ولولا الديموقراطية الداخلية لما استطاعت أوروبا أن تخلق النظام المؤسسي الإقليمي الذي سمح للتجربة التكاملية الأوروبية أن تضبط سرعة حركتها وتقدمها على قدرة استيعاب الرأي العام الأوروبي في الدول الأعضاء وتجاوبه معها.

وعندما كانت مسيرة التكامل الأوروبي تواجه عقبات بسبب اعتراض الرأي العام على هذه الخطوة التكاملية أو تلك، كان بوسع الآليات الديموقراطية أن تتجاوب وأن تضبط إيقاعها على السرعة الأكثر مواءمة.

هذان العاملان الرئيسيان ليسا متوافرين في الواقع العربي. فالبيئة الخارجية، سواء على الصعيد العالمي أو على الصعيد الإقليمي، ليست مواتية أو مرحبة لإطلاق عملية تكاملية عربية، وسواء بدأت بالاقتصاد أو بالسياسة، بل هي بيئة معادية، خصوصا في ظل وجود إسرائيل وارتباطها العضوي بالدول الطامحة للهيمنة على المنطقة وعلى العالم. وكاد انفجار الأحداث في غزة، وما أدى إليه من انقسام عميق في العالم العربي، أن يطيح بقمة الكويت ويحول دون انعقادها أصلا، على رغم كونها قمة اقتصادية خالصة جرى الإعداد لها منذ فترة ليست بالقصيرة وفي إطار حرص واضح على عدم إدراج اي قضايا سياسية على جدول أعمالها، وليذكر العالم العربي مرة أخرى أن فساد السياسة فيه يمكن أن يطيح بأي عمل أو إنجاز اقتصادي.

ربما تكون عوامل معينة قد ساعدت على إنقاذ قمة الكويت والتي لا شك ستقر عددا من المشاريع الاقتصادية التي ربما تدفع عملية التكامل الاقتصادي خطوات إلى الأمام. لكن ما الذي يضمن تنفيذ واستمرار هذه الخطوات؟ هنا يتعين أن ينتبه العالم العربي إلى أن فساد السياسة قد يطيح فجأة وفي اي لحظة بأي إنجاز يمكن أن يحققه الاقتصاد! وربما كانت غزة تحديدا هي المثل الصارخ على ذلك. فبعد اتفاقية أوسلو شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة وفي قطاع غزة على السواء حركة تنموية واضحة أمنت لها مساعدات خارجية ضخمة قدمتها أطراف عديدة، خصوصاً الاتحاد الأوروبي، لكن عجز السياسة عن التوصل إلى تسوية حقيقية ونهائية للصراع أدى إلى قيام إسرائيل بتدمير كل ما أنجز، مرة في الضفة عندما بدأت محاصرة ياسر عرفات في المقاطعة عقب رفضه لما عرض عليه في كامب ديفيد، واليوم في غزة بعد فوز «حماس» في الانتخابات التشريعية!

يكفي إلقاء نظرة على ما جرى ويجري في العراق ولبنان والصومال والسودان وغيرها لندرك أن ما يبنيه الاقتصاد في سنوات يمكن أن تهدمه السياسة في لحظات. ولذلك ما لم تكن هناك نظم سياسية قادرة على حماية الوحدة الوطنية في الداخل، ونظام سياسي عربي قادر على حماية والدفاع عن أمن الأقطار العربية في مواجهة الأخطار الخارجية، لن تقوم لأي تجربة تكاملية عربية قائمة. بعبارة أخرى يمكن القول إن الديموقراطية هي الطريق ليس فقط لأي تجربة تكاملية فعالة، ولكن أيضا للمحافظة على وحدة وسلامة الأقطار العربية في الداخل.
"الحياة"

التعليقات