31/10/2010 - 11:02

والنظافة أيضاً مسؤولية سياسية../ جميل مطر

والنظافة أيضاً مسؤولية سياسية../ جميل مطر
أصبحت، وللأسف، بعض مدن مصر نموذجاً للقذارة. وهنا أتوقع أن يكون رد الفعل على ما أقول كالعهد به جاهزاً، وهو أن الحديث في هذا الموضوع يعني نية مبيتة لنشر غسيلنا القذر على الملأ، وأن فيه مبالغة لأن معظم شوارع أحياء المهندسين وأحياء اللوران ورشدي باشا وسان ستيفانو نظيفة وكذلك الكورنيش حيثما وجد، في القاهرة أو الإسكندرية أو المنيا من الصباح وحتى وقت الظهيرة.

تقول الحكومة، كما تقول أي حكومة في مكانها، الشعب مسؤول لأنه يسيء التعامل مع “المكان”. ويقول الشعب إن الحكومة مسؤولة لأنها لم تقدم من الخدمات ما يحمي “المكان” من مواطن يهمل ومواطن لا يبالي ومواطن يبالي. الرد المنطقي على الرأيين أن كليهما على حق، فالمواطن مسؤول والحكومة مسؤولة، ولكني أنحاز إلى صف المواطن لأحمل الحكومة مسؤولية أكبر، فقد كلفها المواطن أو كلفت نفسها بوظيفة كان يجب أن تؤديها بإتقان أو تعتذر عنها وتنسحب.

نعرف أن الفراعنة كانوا يقلمون أظفارهم حرصاً على النظافة وليس فقط تجميلاً أو تحسيناً. وتدل الحفائر على أن الإنسان البدائي حفر لنفسه وعائلته دورات مياه وخصص أماكن للنفاية بعيداً عن موقع معيشته. ومع ذلك يتصرف بعض الشعوب، أو يتصرف البعض في كل الشعوب، تصرفات لا تتناسب وحضارة العصر.

كلنا، أو أغلبنا على الأقل، ننزعج عندما تطل علينا صور مألوفة لطفل اجتمع على عينيه وشفتيه الذباب فلا يتحرك له أو لأمه الراقدة إلى جواره إصبع أو يد تنفض الذباب أو لتغسل هذا الوجه البائس. ما أتعس الفقير والضعيف والمريض من بني البشر إذا تمكنت منه القذارة فأعمت بصيرته، وما أسعد الحيوان الذي إن لم يجد ماء يستحم به مد لسانه أو امتد إليه لسان أمه ليغسل له جلده ويمسح عنه الأتربة، وكم من المرات وقفنا ننظر بالإعجاب إلى عشرات القرود كل منها ينفض التراب عن الآخر وينظف له شعره ويخلصه من الحشرات.

للحكومة دور أساسي إن شاءت أن تفرض على شعب النظافة إن أصيب بداء القذارة، أو تحرص على نظافته إن كان بطبيعته نظيفاً. كنت في الصين عندما فرضت حكومة مارتسي تونج على الشعب الصيني نظافة لم يكن له على امتداد أكثر من قرن عهد بها. إذ حدث عندما فرض البريطانيون على الشعب الصيني تدخين الأفيون، أن انهار كل شيء في الصين، انهارت فنون الحفر على الخشب والرسم على الأواني وحوائط القصور، وعمت القذارة وانتشرت الأوبئة وتفشت الفوضى السياسية.

وفي طريقي إلى بكين كنت أقرأ كتاباً عن الصين تحدث فيه الكاتب الرحالة عن العاصمة وعن ميناء شنغهاي. أما العاصمة فقال عنها إن المسافر يشم رائحة عفونتها من على بعد ثلاثين كيلومتراً. وكان الأجانب يطلقون على هذه الرائحة استهزاء وسخرية “عطر بكين”. كانت هذه بالفعل حالة بكين قبل عشر سنوات من وصولي إليها، وهكذا تخيلتها وأنا أقترب منها في أول رحلة لي إليها. وكانت المفاجأة حين وجدتها.. هذه المدينة الفقيرة المعدمة الرمادية اللون نظيفة، بل مبهرة بنظافتها، ورأيت أطفال المدارس يجوبون الطرقات يحملون أكياساً يجمعون فيها من الذباب ما استطاعوا اصطياده ليحصلوا عند عودتهم إلى المدرسة على أوسمة تعلق على صدورهم. حدث هذا ضمن حملة شنها الرئيس ماوتسي تونج على “المؤذيات الأربع”، الفئران والعصافير والذباب والبعوض.

وعلى ما أسمع، بقيت بكين نظيفة إلى يومنا هذا. تحققت النظافة في بكين، وأظن في معظم أنحاء الصين، ليس لأن الحكومة شيوعية أو لأنها رأسمالية أو لأنها اختارت أن تكون بين هذه وتلك، ولكن لأن الحكومة اعتبرت النظافة وظيفة أساسية من وظائفها وشرطاً مسبقاً للانطلاق نحو التنمية أياً كانت عقيدة هذه التنمية. وعندما تحترم الحكومة مسؤولياتها يحترمها الشعب ويقلدها باعتبارها القدوة. ففي مدينة لويانج أعلن صاحب مطعم شهير أنه سيدفع مبلغاً يعادل ما قيمته 500 جنيه مصري لكل من يقتل 2000 ذبابة، أراد الرجل أن يساهم في حملة يقوم بها المسؤولون في مجلس المدينة بهدف جعل مدينتهم المدينة الأنظف في الصين، قبل حلول يوم 8/8/،2008 وهو يوم تاريخي لأنه يسجل رقم ،8 كرقم يجلب الحظ السعيد، ثلاث مرات، وباعتباره يوم افتتاح الأولمبياد في بكين، ومازال الجدل دائراً في الصين بين من يدعون لجمع التبرعات لقتل الذباب ومن يطالبون الحكومة بتنفيذ مسؤوليتها عن النظافة، لأنها لو فعلت لما وجد الذباب.

ولم يكن الفراعنة وحدهم الحريصين على النظافة بين الشعوب القديمة، إذ تقول فرجينيا سميث في كتابها “تاريخ الطهارة والصحة العامة”، إن الرومان كانوا من أوائل الشعوب التي أبدعت في فنون النظافة عندما أقامت نظاماً للصرف الصحي وحمامات عامة ومدّت القنوات وأنابيب المياه، ومازالت جميعاً من أهم الآثار التي يحب أن يزورها السائح في ضواحي مدينتي روما ونابولي. ومنذ أن رأيت هذه الحمامات وقنوات الصرف وأنا أسأل السؤال الذي لم يستطع مؤرخ أو عالم اجتماع الرد عليه رداً مقنعاً وهو، لماذا نجحت روما في تحقيق هذا الإنجاز ولم تنقله عنها شعوب في غرب وشمال أوروبا خضعت لحكم الرومان فترات طويلة؟ هل لأن روما لم تهتم بصحة الشعوب الأخرى في إمبراطوريتها، أم لأن بعض هذه الشعوب كانت بالفعل من “البرابرة”؟ وكان حكام روما يطلقون تعبير البرابرة على الشعوب الهمجية والمتخلفة وغير المؤهلة للنظافة. عندئذ يثور السؤال اللاحق مباشرة، وهل حقاً توجد شعوب غير مستعدة للنظافة كما توجد شعوب غير مستعدة للديمقراطية؟!

وتحكي سميث في كتابها حكاية “المتطرفين” في الثورة الفرنسية الذين حاولوا في عام 1793 إدراج النظافة في وثيقة لوائح الثورة باعتبارها “حقاً من حقوق المواطن وواجباً من واجبات الدولة”. وجدير بالذكر أن عادة التبول على جدران الأماكن العامة اشتهر بها الفرنسيون في القرن الثامن عشر. ولم يعرف الفرنسيون في ذلك الحين عادة الاستحمام إلا نادراً وحتى منتصف الجسم فقط وكانوا يستخدمون البودرة البيضاء المشبعة بالعطر بديلاً للمياه. ويبدو أن محاولة المتطرفين الثوريين في فرنسا أثمرت بعد ستين عاماً، ولكن في مكان آخر في أوروبا، حين أصدر جلادستون رئيس وزراء بريطانيا في عام 1852 قانوناً ينص على إلغاء ضريبة الصابون، باعتبارها أشد عائق عطل مسيرة النظافة في بريطانيا.

وتعلق الكاتبة سميث على العجز في النظافة في أوروبا في ذلك الوقت بقولها إنه كان ظاهرة أوروبية عامة. وتضيف قائلة إن سيطرة الكهنة في تلك العصور ربما تسببت في تعميق هذا العجز كما تسببت في استمرار التخلف والجهل. وتقول إن العجز في النظافة امتد إلى نظافة الأسنان والتي كانت أبشع ما يراه الإنسان في وجوه الناس، وتقدم الدليل من اللوحات الفنية، حيث تظهر الوجوه في أغلب اللوحات التي رسمت في العصور الوسطى وقد التصقت الشفتان فلا تكشفان عن أسنان صاحبة أو صاحب الوجه. ويقال إن الابتسامة الوحيدة التي كشفت عن أسنان صاحبها كانت على وجه في لوحة رسمت عام 1787.

ونكرر السؤال: من المسؤول عن العجز في النظافة لدى بعض الشعوب في عصر العولمة والقرية الكونية، وفي عصر الرخاء الذي بات يفصل فصلاً شبه تام بين أهل الثورة الفائقة وأهل الفقر المؤلم؟ المؤكد على كل حال أن لا أحد يشكك الآن في قيمة النظافة وفوائدها على الفرد والمجتمع. فالنظافة تؤدي وظيفة اجتماعية مهمة حين تشجع على الاختلاط بين البشر، وما اختراع العطر واستخدامه إلا أقوى دليل على ذلك، والمؤكد أن الطب عاد واعترف، وإن متأخراً جداً، بأن النظافة تحمي الإنسان من المرض وتبعد عنه الجراثيم والميكروبات. والمؤكد كذلك أن للنظافة جانباً أخلاقياً، وإلا ما كانت اهتمت بها كافة الأديان فوضعت التعميد والوضوء والطهور في صدارة طقوسها.

ومع ذلك، يتفاقم العجز في النظافة، ويستمر البحث عن المسؤول عن هذا العجز. ويستمر إصراري على رأيي أن النظافة مسؤولية سياسية وأن أداء هذه المسؤولية دليل على صدق الطبقة الحاكمة ووطنيتها.
"الخليج"

التعليقات