31/10/2010 - 11:02

وقفة على أواخر عهد بوش../ علي جرادات

وقفة على أواخر عهد بوش../ علي جرادات
في السياسة، إما أن تبحث في الوقائع الملموسة لإستشراف دلالاتها، وما خلفها من مواقف، تستدعي البدائل وتغيير القائم من السياسات، وإما أن تستغرق فيها (الوقائع) دون التفات لدلالاتها والمواقف التي تنتصب خلفها. وعلى هذا أو ذاك من نمط التعامل مع الوقائع يتوقف الكثير، فإما أن تكون سياستك مبادرة فاعلة مؤثرة تستنهض الإمكانيات لصبها في الحلقة المركزية، وإما أن تبقى (سياستك) في إطار رد الفعل وقلة التأثير وإضاعة الحلقة المركزية والإمساك بها.

واليوم، فإن وقائع ملموسة بدلالات كبيرة تحيط بالقضية الفلسطينية على كافة الصعد، الدولية والقومية والإسرائيلية، وكلها وقائع ملموسة تستدعي استشراف دلالتها العامة، التي تحدد ما العمل؟؟؟

أولا: على الصعيد الإسرائيلي، (وعنوانه الممارسة العملية لحكومة أولمرت- باراك)، فإن أحداً لا يقوى على المجادلة في حقيقة أن القادة الإسرائيليين ماضون في صلفهم وإدارة ظهرهم لأية جهود ترمي لإحراز تسوية سياسية للصراع تلبي إنهاء الاحتلال للأراضي العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967. وبالتالي، فإنهم ليسوا في وارد أي تعامل جاد مع مفاوضات ما بعد "أنابوليس"، التي يرون فيها فرصة إضافية لتكريس المزيد من حقائق رؤيتهم الاحتلالية على الأرض، والتغطية عليها.

وهذا ما تؤكده الوقائع الملموسة للممارسة الإسرائيلية، بدءاً بإجراءات التهويد والعزل والتطهير العرقي في القدس، مروراً بعمليات مصادرة الأراضي والإستيطان والتمزيق في الضفة، وإنتهاء بعمليات الحصار والتجويع والخنق والعدوان العسكري في كامل الأراضي المحتلة عام 1967، وهي العمليات العسكرية التي، وإن تركزت أكثر في غزة، غير أنها تحمل معانٍ سياسية أخطر في الضفة، بحسبان ترافقها مع عمليات الإستيطان والتهويد وبناء جدار الفصل السياسي العنصري، ناهيك عن ترافق ذلك مع تبني الحكومة الإسرائيلية لسياسة العمل المبرمج لإستثمار حالة الإنقسام الفلسطيني القائم، والسعي لتعميقه وإطالة أمده، في إطار سياسة "تعويم" صلاحيات السلطة الوطنية الفلسطينية المنقسمة على نفسها بين الضفة وغزة، وإبقائها في حالة معلقة، فلا هي "معتمدة" بالكامل ولا هي "مطلقة" بالكامل، بما يبقي مصيرها، والمصير السياسي للأراضي المحتلة عام 1967، (وفق المنظور الإسرائيلي)، مفتوحاً على كل الإحتمالات، بإستثناء إحتمال الإقرار السياسي الإسرائيلي بأن هذه الأراضي تشكل وحدة جغرافية سياسية قانونية واحدة لقيام دولة فلسطينية مستقلة سيادية وعاصمتها القدس، دون نسيان الموقف الإسرائيلي المعلن والصريح والواضح من قضية اللاجئين وحقهم في العودة وفقاً للقرار الدولي 194.

في ضوء كل ذلك يغدو السؤال: هل هنالك من مجال لتصديق ما يشيعه القادة الإسرائيليون حول رغبتهم في إيجاد تسوية للصراع تنهي الاحتلال أو التوصل لإتفاق بهذا الخصوص، يقال إن من الممكن إحرازه حتى نهاية العام، أي خلال ما تبقى لإدارة بوش من مدة في البيت الأبيض؟!!!

ثانياً: على الصعيد الدولي، (وعنوانه الأمريكي المسيطر دون منازع حقيقي)، فإنه لم يعد خافيا على أحد بأن إدارة بوش إنما تحاول فيما تبقى لها من مدة زمنية في البيت الأبيض، تعليق القضية الفلسطينية في حبال وعد بوش بحل الدولتين، الذي تأتي وقائع الموقف الأمريكي الملموسة على الأرض لتنسفه، وتظهر أنه ليس أكثر من كذبة كبرى، لا يمكن أن تنطلي على أحد، إذ رغم "همروجة أنابوليس"، وما تلاها من زيارات مكثفة لكبار المسؤولين الأميركيين للمنطقة، إلا أن وقائع الموقف الأمريكي الملموسة تشير إلى أن هذا الموقف ما زال على حاله، وإلى أنه لم يتزحزح قيد أنملة عن ثوابته، بما يشي بخطأ الرهان عليه، خذوا مثلاً:

مرشح الحزب الجمهوري الأمريكي للإنتخابات القادمة، مكين، يتبرع حتى قبل وصوله لرئاسة البيت الأبيض بالإعلان، (من على منصة في عاصمة عربية)، عن دعمه لئن تكون القدس عاصمة لدولة إسرائيل، علماً أن هذا هو الموقف المجمع عليه إسرائيلياً. ويعلم الجميع أنه لا يمكن الحديث معه عن امكانية لتسوية الصراع، لا خلال ما تبقى للإدارة الأميركية الحالية من مدة في البيت الأبيض، بل، ولا حتى في أي وقت من الأوقات.

ونائب الرئيس الأمريكي، ديك تشيني، أعلن بوضوح وصراحة أن الولايات المتحدة الأميركية لن تضغط على إسرائيل، ولن تجبرها على القيام بخطوات تمس بأمنها أو تعرضه للخطر، وهذا هو ذات الموقف الإسرائيلي الأثير، الذي يحشر أي تفكير جاد لإيجاد تسوية سياسية للصراع في خرم إبرة الترتيبات الأمنية الإسرائيلية، التي يعلم الجميع أنه يستحيل معها الحديث عن امكانية لتسوية الصراع في يوم من الأيام، فما بالك في إمكانية ذلك خلال ما تبقى للإدارة الأميركية الحالية من مدة في البيت الأبيض كما تبشر وعود بوش؟!!!

ووزيرة الخارجية الأميركية، رايس، تعبِّر عن دهشتها من "السخاء" الإسرائيلي، لا لشيء إلا بسبب قرار باراك ومؤسسته العسكرية بتقديم بعض التسهيلات المحدودة، من قبيل إزالة حاجز في أريحا وخمسين ساترا ترابيا في باقي أنحاء الضفة، وتقديم وعد بدراسة إجراءات محدودة شبيهة، علماً أن ذلك يقع في صلب الموقف الإسرائيلي القائم على عدم ربط تسهيلات "حسن النوايا"، (هذا في حال تنفيذها)، بعملية التفاوض السياسية الجارية، يعلم الجميع عبثية التصرف الإسرائيلي حيالها، وهي التي دون التقدم فيها، أي دون إزالة الاحتلال، يستحيل الحديث عن إيجاد تسوية للصراع في يوم من الأيام، وبالتأكيد ليس فيما تبقى لبوش وإدارته من مدة قصيرة في البيت الأبيض.

ثالثاً: على الصعيد القومي، (ووقائع قمة دمشق ونتائجها آخر مراياه)، بات واضحاً بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام الرسمي العربي، ولمدى زمني غير قصير، سيبقى يراوح في مكانه، ولن يتخطى ما يعتريه من تفكك وتشرذم وانقسام وخلافات، بما لا يتيح مجالاً للرهان أنه في واقع استجماع أوراق قوته وتفعيلها في وجه ما تمارسه الإدارة الأميركية من إنحياز ودعم مطلق للسياسة الإسرائيلية ومواقفها التوسعية العدوانية، التي تنسف كل حديث عن امكانية احراز تسوية سياسية للصراع خلال ما تبقى من مدة للإدارة الأميركية الحالية في البيت الأبيض.

تلك هي الوقائع الملموسة التي تحيط بالقضية الفلسطينية على كافة الصعد، ما يفرض ضرورة إستجلاء ما يقف خلف هذه الوقائع من مواقف، وما تعكسه تلك المواقف من دلالات، أعتقد أنها، وإن تباينت، فإنها تتقاطع في دلالة واحدة وتشير إليها بوضوح، جوهرها عدم إمكانية، حتى لا أقول استحالة، الترجمة العملية لـ"وعد" بوش بحل الدولتين خلال ما تبقى له من مدة في البيت الأبيض توشك على الإنتهاء، بل إن الرهان على حصول ذلك لا يعدو ضرباً من ضروب الخيال المفصول عن الواقع، ما يعني أن الفلسطينيين، على اختلاف مشاربهم، وعلى ما بين أطرافهم السياسية من خلاف وإختلاف وإنقسام، يقفون وجهاً لوجه أمام ضرورة الإجابة على سؤال: ما العمل، وما هي البدائل؟؟؟ وبالتالي، فإن أي تهرب من هذا السؤال المفصلي، هو بمثابة هرب من واقع مفروض، كما أن أي تأخير في الإجابة عليه، هو عملياً تأخير للإمساك بزمام المبادرة، والبقاء في دائرة رد الفعل وعدم التأثير، وهذا وذاك سيبقى مصيراً محتوما للفعل الفلسطيني في مجريات الواقع، ما لم يجرِ تحرك جاد ومسؤول من كافة ألوان الطيف السياسي والمجتمعي الفلسطيني، وخاصة من قبل الطرفين النافذين، "فتح" و"حماس"، صوب وضع حدٍ للإنقسام الفلسطيني الداخلي، بإعتباره عقب أخيل راهن الطاقة الفلسطينية وامكانية تفعيلها في مواجهة ما يكتنفها ويحيط بها من وقائع ملموسة مجافية، باتت أكثر من واضحة، ولا يمكن حتى لجاهل أن يتجاهلها.

التعليقات