31/10/2010 - 11:02

يقولون: لا ترحل.../ عبد الرحيم الشيخ

-

يقولون: لا ترحل.../ عبد الرحيم الشيخ
مستبطناً مالك بن الريب، يحرس درويش نفسه من هواة الرثاء، ويوصى بأن "لا نبالغ في التأويل،" فيفتتح في حضرة الغياب باستباقة حارقة: "يقولون لا ترحل وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا،" ليكون غيابُ الحاضرِ المحتمل سجاليةَ الحاضر النبيلة مع ضميره الغائب: شاعرٌ لا يرغب في أن يرثيه مَنْ لا يميِّزون بين "الإتيان والوصول" ولا يفرِّقون بين "المجيء والعودة." شاعر يترك وصيته برسم ضمير الغائب الذي يساجله، كما المرآة، دون أن ينزعجَ من "ارتفاع السخرية في حاجبيه" مثلها، حول: الأرض، والناس، والحكاية التي بينهما-وصفةُ "الوطن" الفلسطيني، العلمانية والمقدَّسة في آن، وَصِفَتُهُ التي تتسع أو تضيق تبعاً لمهارة الراوي في المراوحة بين منزل الشاعر ومنزلة النبي الباحث عن خلاص قومه، الداعي إلى تصحيح الخطيئة والخطأ، في آن، بدولة وعودة. نكتبُ، هنا، على ماء التوتر بين ضمير المخاطِب-الحاضر الذي فيه، وضمير الغائب-الذي فينا لنكمل "حراسةَ الكلام من الخلخلة،" بلا غلواء ولا تأويل... نكتب في مديح "الاسم" الذي لن يزال، بين المنزلتين، يقطع الطريق إلى آخرهـ(ما).

م

"ما معنى أن يكون الفلسطيني شاعراً (إذاً)، وما معنى أن يكون الشاعر فلسطينياً. الأول، أن يكون نتاجاً لتاريخ، موجوداً باللغة. والثاني، أن يكون ضحية لتاريخ، منتصراً باللغة. لكن الأول والثاني واحد لا ينقسم ولا يلتئم في آن واحد." هنا، يَكْمُنُ هَمُّ الشاعر، وتُمْكِنُ مُهِمَّته، وهنا تتسع حدقة "الميم" التي في اسمه ليكون الفلسطيني الشاعر الذي لم تحله الصدفة، ولا المقادير، إلى شاعر فلسطيني، صيَّاداً بهياً عينه على استعارات حكايات العدل في مقاومة أساطير الظلم، وبحار الظلمة ومن وراءها: من مرض الطرواديين القمحيين بحب البحر، إلى مرض الهنود الحمر بحب الأرض... ينتقي مرضه الخاص، أن يكون شاعر الجرح الذي يبني "فوق سقف الصهيل ثلاثين نافذة للكناية،" ويروي الحكاية، وأهله لا يزالون في التيه، ليترك وراءه "ماضياً غير مدوَّن في نشيد، عن طرواديين جدد لا يُروَى عنهم إلا ما يقوله أعداؤهم عنهم. لكنهم لم يخطفوا هيلين، ولم يكونوا سبباً للحرب. كانوا طيبين مسالمين، ولا ذنب لهم غير أنهم وُلِدوا على سفوح شُبِّهت بالدرج المؤدِّي إلى الله. وكانوا شجعاناً بلا سيوف، وعفويين بلا بلاغة، فانكسروا أمام الدبابات، وهُجِّروا وبعثروا في مهب الريح، دون أن يفقدوا إيمانهم بالشفاء من جرح التاريخ."

ولكن درويش ليس شاعراً طروادياً نجا من المذبحة، ولا خليطاً منه ومن إغريقي ضل طريق العودة، بل هو صائد الاستعارات الكبرى في نهار الأسطورة التي وُلِد "الآخرون" من ليلها، أو زعموا الولادة عندما احترق الليل، فأُحرِقوا لأنهم رفضوا أن يكون "الله" قد خلقهم، لأنهم "خلقوه ليختارهم!" ولذا، فقد اختار درويش الهامش، في أرض الواقع وسماء المثال من غير سوء، ليذكِّر ضميره الغائب بأنه: "كان عليك أن تختار الهامش لتعرف أين أنت. الهامش نافذة تطل على العالم، فلا أنت فيه ولا أنت خارجه. الهامش زنزانة بلا جدران. الهامش كاميرا تنتقي من المشهد ما تشاء من صور، فلا يكون الملك هو الملك. ولا يكون مقلاع داود إلا سلاح جالوت. هل صحيح أن من يكتب قصته قبل الآخر يكسب أرض القصة؟ لكن الكتابة تحتاج إلى مخالب كي تحفر الأثر في الصخر... قد يحتاج المعنى إلى وقت آخر لينضج في ملح الأرض. وقد يحتاج إلى شاعر آخر خلو من الطرواديين والإغريق، شاعر ينظر من عل إلى هاوية لم يقع فيها، فتصير بحيرة. أما الآن، فنكتفي من المعنى بتلويحة يد من بعيد: ما زلنا أحياء، وقادرين على تعديل النص الإغريقي، فالفصل الأخير، فصل النهاية، مفتوح إلى مالا نهاية!"
ح

حوارية غاية في البساطة بين "ميم" المخاطِب-الحاضر و"حاء" المخاطَب-الغائب، لا تؤكد إلا حقيقة واحدة صاغتها بلاغة الحاضر في لحظة احتجاج على مَنْ تركوا الحصان وحيداً: "وكتبتُ من يكتب حكايته يرث أرض الكلام ويملك المعنى تماما." وهي لا تؤكَّد، كذلك، إلا أن الشعر بحق هو "محاولة لإصلاح خطأ ما،" وقد تضيف مهارة البليغ منا أو المبالِغ، "أو التكفير عن خطيئة" ارتُكبت على امتداد تاريخ مفرط في السماجة، تاريخٌ يوصينا درويش بأن نعرف أنه "يعمل موظفاً" على الدوام في يد القوي، "ولا تمكن رشوته،" ولم يحدث في تاريخه أن "اشتغل قاضياً،" وإن كتم بعضُ كُتَّابه تلك الأمنية المستحيلة! وما دامت تلك وظيفة الشعر، فهي وظيفة الشاعر "الحائر بين النثر والشعر،" ليكون تصحيح الخطأ والخطيئة مهمة النثر والشعر على حد السواء. فأين كان الخطأ؟ ومن اقترف الخطيئة؟ ومن رسم الخط الْـمِنْ ذهب بين "ألف" الخطأ و"ياء" الخطيئة، إلاك يا درويش؟

"ليس التاريخ قاضياً، التاريخ موظف! ماذا كان الهنود الحمر سيقولون لو هزموا غزاتهم؟ والذين يتباهون بالحضارة والتمدن هم غالباً ما يكونون القتلة... القتلة. أنظروا هذا الثالوث: الأول، أباد شعباً في الماضي، ويبيد اليوم شعباً وتربة في جنوب شرق آسيا، ويفجر علامة تحضره الكبرى، القنبلة الذرية، في شوارع العالم. والثاني، ليس من الحكمة أن نذكره بماضيه: لقد أحرق عشرات الملايين من البشر باسم الحضارة والتمدن، والآن يتعانق القاتل والضحية وينجبان وليداً جديداً، هو الثالث! فماذا ينتج عن زواج الإرهاب إلا الإرهاب؟ وجاء الثالث، المدجج بالتوارة والسلاح، واقتلعني من جبالي وسهولي، ودحرجني من الحضارة إلى الحضيض. هذا الثلاثي يطالبني بالخروج من الكرة الأرضية لأنني (إرهابي)!"... هنا، يكمن الخطأ، ومن هنا جاءت الخطيئة، من ولادة مشروع الاستعمار الممركز أوروبياً، وتناسخه لينتج الكارثة بعد الكارثة في مغارب الأرض ومشارقها، وليكون الفلسطينيون وفلسطينهم ذِبحَ التوبة ومذبحها على يدي "الصهيوني-سمسار الدم اليهودي"!
م

مديح الحروف يغوي درويش دائماً بالسخرية من دروس الدال والمدلول، ومن المسافة المترفة، الباقية دائماً رغم اختلاف التسميات كـ"كرم نابوت" المغدور، بين المسمِّي والمسَمَّى: "تضحك في سرِّك من قدرة الأخطاء الأولى على الحفر في الصخر. وتسأل: متى أشفى من تعريف الكلي بالجزئي؟ فالريشة ليست هي الطائر، والشجرة ليست هي الغابة، والعتبة ليست هي البيت؟" ونقيس على معادلة الجزئي والكلي، فنقول: الدولة ليست الوطن، والوطن ليس فكرة الفردوس، وفكرة الفردوس ليست الفردوس...

تُواصل استدارة حدقة "الميم" اتساعها لتبرهن أن الشفاء الوحيد الممكن من "تعريف الكلي بالجزئي،" لا يكون إلا بمحافظة الفلسطيني على ذاته كإنسان عصي على التوحُّش وهو يصارع الوحش مدركاً الفرق بين "الموظف" و"القاضي" كوصفين حسم التاريخ أيهما "أليق" به! ينتج الفلسطيني الشاعرُ، الذي حل في الشاعر الفلسطيني، نص وثيقة الاستقلال، وينده الكون في ذكرى النكبة: "من منطلق الإيمان بالسلام قيمة إنسانية عليا ومصلحة وطنية، كان علينا أن نميز بين حدود وطننا التاريخي وبين حدود حقنا المعترف به دولياً في إقامة دولتنا المستقلة على جزء من أرض فلسطين."

و

وباتساع حدقة "الميم"، تُستَنفَرُ الغيرة في حدقة "الواو" حدقةَ "الواو" التي في الجوار ليمارس الحاضر حق السخرية في تعليم الغائب درساً في تربية الحنين إلى المعنى الأول: "وتسأل: ما معنى كلمة "لاجئ"؟ سيقولون: هو من اقتلع من أرض الوطن. وتسأل: ما معنى كلمة "الوطن"؟ سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز، والسماء الأولى. وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات...وتضيق بنا؟" لا يجيب الغائب، ولكن غائباً آخر يذكر ما قاله الحاضر الأبدي: "تعلَّمت كل الكلام وفككته لكلي أكتب مفردة واحدة هي الوطن."

ويطل غائب ثالث، حاملاً خمسة وثلاثين عاماً من الحب والحرب، ومذكراً الحاضر بـ"القمر الذي لم يسقط في البئر"-البروة، بالفردوس: "إحذر هذا المصطلح. لأن القناعة به تسليم بحالة قانونية ووجودية بلغت حد النهاية. الفرق بين الفردوس المفقود بالمعنى المطلق وبين الفردوس المفقود بالمعنى الفلسطيني هو خلو حالة الحنين والانتماء النفسي والشرعي من منطقة الصراع. ما دام الصراع قائماً فإن الفردوس لا يكون مفقوداً، بل يكون محتلاً وقابلاً للاستعادة. لا أعني الارتكاز إلى مفهوم خسارة المعركة وعدم خسارة الحرب الذي ينطوي على دفاع عن النفس أمام خسارة المعركة. ولكني أعني أنه ليس بوسع الفلسطيني أن يعامل وطنه بهذا المفهوم كما يعامل العرب الأندلس وكما ينتظر المؤمنون الجائزة. إن بين فلسطين والأندلس فرقاً يشبه الموت. وإن بعض السياح الثوريين ممن ينظرون إلى المسألة من زاوية التشابه حسن النية وسيء النتيجة ينطلقون من موقع الجمالية الشكلية وضبط التضامن. إنهم سيبكون أكثر منك لو سلمت بهذا التشابه وحاصرت حقوقك ووجودك بسياج الحنين. ولكن حين يلجأ الحنين إلى البندقية تعبيراً عن بعض المسافة بين فلسطين والأندلس، فستجد هؤلاء السياح المغرمين ببكائيات الشعوب القديمة يحتجون على انتهاك جمال الانسجام التاريخي. إن فكرة الفردوس المفقود تغري الشعراء المفتقرين إلى موضوع مؤثر ولكنها تصيب الحالة الفلسطينية بتراكم الدموع وفقر الدم. وهذا هو تفوق وطني على الجنة، لأنه يشبهها، ولأنه ممكن."

د

دولة الشاعر، إذاً، أكبر من وطن الفيلسوف، وأقرب من جنة النبي حين لا ينحال الحنين إلى سياحة ثورية، وفلسطين ليست أندلساً، هناك ولا في القصيدة، بل جنة ممكنة وقابلة للاستعادة. من هنا، تماماً، يبزغ الفرق بين الشاعر والنبي المتفلسف، أو الفيلسوف المتنبي. إذ لا فرق بين الشاعر والنبي، العاديين، سوى في حجم رأسمالهما الرمزي وشعرية النبوة، أي الفرق بين حركية البلاغة السياسية وفاعليتها في جعل اللغة تقول ما لا ينقال، وفي جعل الساهر يقبل ما لا يُقبَل، أو يصدق ما لا يقبله العقل دون الانبهار بهالة الشعر أو هول النبوة. ولكن الفرق بين الشاعر والنبي، عند من طردوا من الأندلس معنا، ثم كانوا غزاتنا مع قراصنة البحر، يتلاشى لدرجة يتمتع الشاعر والنبي برأسمال رمزي متساو، وبحركية متماثلة لبلاغتهما السياسية، وذلك لسبب واحد، بسيط، هو أنهما صنوان في حالة الضياع ذاتها، وهما يُعَبِّران بمفردات تتشابه حدَّ التطابق عن تلك الحالة من الخسران الأزلي للآن وهنا، ويَعْبُران بالمرثاة، وحدها، إلى الحنين الأبدي للماضي وهناك-إلى الفردوس المفقود... بالأمس، واليوم، وفي الغد تحكم اليهودية على نفسها بأن تظل حالة انتظار سرمدي في "المنفى" وفي "البيت،" ومقولة حاضرة في الغياب، وشرط توقٍ دائم للانوجاد في أرض حرام، عليها مدينة غير قائمة، وفيها هيكلٌ خَرِب (تحل ذكرى خرابه، للمفارقة، يوم رحيل درويش!)...وأما الصهيونية، فهي "حمار المسيح" الذي لا ينقل المنتظِرين والمنتظَرين إلا إلى محطات أخرى... للانتظار!

بميزان الذهب والعقل الخالص، يدشن درويش المقولة الناظمة التي لا تَتَبَّع، بل تُشَخِّص علاقة اليهودي، تاريخياً، بالمكان (التوراتي)، كجغرافيا، قبل أن يتحول إلى فضاء (صهيوني)، كأرض. وكأنه يستدعي شعرية خصمٍ جمالي يوصد القصائد ويفتحها في وصف "السَفَر اليهودي إلى الله-التغيير، والموت-نبيُّه." يقارب يهودا-الخصم بين يهودا هاليفي، شاعر اليهود واليهودية بامتياز، و"رئيس أركان اللغة العبرية" في عصرها الذهبي في أندلس القرن الثاني عشر، وموسى النبي على جبل نبو شرق البحر الميت. يقارب السَّفَر اليهودي كلعبة قلوب من حيث الوجهة، ولعنة قلوب من حيث المصير، أي قدرية اللاوصول. يقول يهودا هاليفي: "في الشرق قلبي، وفي أقاصي الغرب أثوي،" أما موسى النبي الذي صعد إلى طور سيناء، لا مسكوناً برغبة ركوب القمة كالمتسلقين الهواة، بل مزهواً بكونه كليم الله (وكَلْمُهُ!) فقد صعد، ثانيةً، إلى جبل نبو لا لينزل منه بل ليموت بعد أن يؤسس إحداثيات جديدة للعبة قلب جديدة بين الشرق والغرب، بين الذات والقلب، بين مِنْ وإلى، ومِنْ بلا إلى، وإلى بلا مِنْ: "في الغرب قلبي، وفي أقاصي الشرق أنا" ...لم يجئ موسى النبي إلى الغرب بل إلى الشرق ذهب، واصل مسيرته-الضياع أربعين عاماً ليكتب التوراة كتاباً في السَّفَر اللانهائي الذي لم يتجرأ يهودي واحد، بعد موسى النبي ويهودا هاليفي الشاعر، أن يسأل "لماذا؟" كما تساءل الفلسطيني: "...لماذا نحاول هذا السَّفَرْ؟ وكل البلاد مرايا، وكل المرايا حَجَرْ!" يبدو اليهود وكأنهم دائماً في المكان الخطأ، تماماً بعكس أمثولة دارما كيرتي البوذية "إن كنت في داخلك في المكان الصحيح فأنت في المكان الصحيح أينما كنت، وإن كنت في داخلك في المكان الخطأ، فأنت في المكان الخطأ أينما كنت،" ويبدو الفلسطينيون في المكان الصحيح بلاغياً وإن أوقعتهم السياسة في دوامة الانتظار "على الماء" لتعبر شمس إلى القدس، ويعبر قمر إلى عكا.

د

تتجاور "الدالات" في الاسم لتحقق تجاور الدلالات، وكأنها تحيل، هي الأخرى، إلى حنين للالتحاق بالجد-الأب المصلوب فوق صبار البراري من يديه، وعليه صقر من مخاوفنا عليه. "دال" المخاطِب تناغي "دال" المخاطَب علَّ اللغة تجمع عظام الأحياء إن لم تجمع أرض البروة عظام الموتى! لكن "السيد الأبيض" الذي هنا يستكمل مهمة "السيد الأبيض" الذي هناك، فـ"لا يسقط القمر في البئر،" رغم انحياز شوك الصبَّار لأغنية المصلوب، وعين الصقر!

لقد غافلتَ الموت، وأقنعته باستعارة الترجيء البسيطة التي اخترعتها، كما اخترعتَ وهم الخلود لتحيا... رجَّأته في بيروت، وفينا، وباريس ... لكن قنَّاص قلبك، "السيد الأبيض"-الموت، نال منك هناك. مِلَّة البياض واحدة، كما يبدو، فلربما غار "سيد الموت الأبيض" من ابتهاجك بخطبة سياتل في واشنطن قبالة صنوه-القرصان، فاقتصَّ منك في هيوستن حيث لم يحتمل حسده مشهد قلبك وهو يعلو خفيفاً، قبالة ريشة الهندي الأحمر-"معات الجديدة" معلناً الحقيقة القصوى التي أزعجت الموت الذي لم تكن في صراع معه بقدر ما كنت في صراع على الحرية. ربما أزعجه استخفافك به، ولربما أزعجه حفظ الساهرين للأغنية، وأن لم يلمحوا شهاب الغناء يصعد إلى البئر. ربما صدَّقك الأصدقاء القدامى حين رأوا صورة القمر في الماء فأغاظوا "سيد البيض،" وأغظته حين قلتَ كاشفاً جهله بأن الهند تكمن في الشرق: "لو لم تكن الأرض كروية، لواصلتُ السير،" وقالوا: "ولواصلناه معك،" فقلت: "إذا سألوك عن المنازلة بين الشعر والموت، فانظر إلى العشب، وقل ما لا يجانب الحقيقة: لا شعر يهزم الموت في ساعة اللقاء، لكنه يرجئه، يرجئه إلى وقت ضروري لاختبار جدوى الغناء في حفلة طويلة إلى أن تكتمل الأغنية، ويقع المغني في قبضة قنَّاصه الواقف خلف الباب، وقد لا ينتبه أحد إلى موت المغني، ما دامت الأغنية قد صارت جماعية، يغنيها الساهرون."

ر

رام الله تجمع البر والبحر على رأس جبل. واحد يفاجئ المحبين بأنه لم يفاجئهم، والآخر يحيل المفاجأة إلى تمرين على السخرية من الخلود، ومن أحفاد (سارة) الذين طردت أمُّهُم أمَّنا (هاجر) إلى الصحراء! واحدٌ في شرق رام الله، قريب من القدس بعيد عنها، وبعيد مثله ضوء أخضر كان يشير إليها، فأطفأوه؛ وآخر في غربها، قريب من عكا بعيد عنها، وبعيد مثله قمر ناظرٌ إلى أصله، في بئرها، خَسفوه. عرفات ودرويش، كلٌ يرنو إلى إقليمه وندبة قلبه الأثيرة: واحد إلى القدس-أجمل المدن القديمة، وآخر إلى عكا-أقدم المدن الجميلة؛ ذاك قائم على الماء يضحك، وهذا غائر في التراب يسخر من دلالات الكلام،يبحث عن مائه في بئر-البروة القريب!

لسنا "سماسرة حنين يقودون العائدين إلى خطاهم المعاكسة" كالذين تبرَّمت منهم مرةً، ولا مبشرين بـ"عودة العنصرية للتراب،" لكننا نبشر بـ"عودة العناصر" إلى ترابها، إننا "عنصريو العودة" بعد أن "سقط الحصان عن القصيدة" و"عناصرها،" وبعد أن "سقط القطار عن الخريطة." لا زلنا هنا، ولا نعرف الآن، مثل صديقك كفافي، "ماذا سيحل بنا من دون برابرة؟" لكننا لا نعتقد "أنهم كانوا نوعاً من الحل" يا هندينا الأخير، لأننا، مثلك، لاجئون، لم نذهب إلا مجازاً، ولم نعد إلا مجازاً، ولكن المجاز لا يحيل "الحق" إلى مسألة لـ"إبداء الانزعاج" إذ "لا السعيد هو البعيد، ولا البعيد هو السعيد،" ولكنه شرف القلب الذي لا يأبه بالخلود، ولا بالأبدية التي تتقن التناوب. ولربما لأننا صدّقنا "راء" المخاطِب-الحاضر الذي فيك، أكثر من "راء" المخاطَب-الغائب الذي فينا، حين نصحتنا بالعودة، لكنك نهيتنا عن وهم الخلود... "تعانق صاحبك النحات الذي يهددك: هذه آخر مرة أرشحك فيها للخلود. تضحك من تواضعه ومن الخلود معاً: ألم أقل لك إن الخلود علف الحمار المفكر، ورشوةٌ يعرضها على تاريخ ماكر. يتدخل النادل، وهو يضع فنجان القهوة: الخلود ورقة يانصيب رابحة مات صاحبها قبل إعلان النتيجة بدقائق. يسألك النحات: لماذا ترفض أن أصنع لك تمثالاً صغيراً تضعه إلى جانب ألبوم الصور. تقول له: ليس عندي ألبوم صور ولا أرشيف. يسأل بدهشة: وإن مت، فأين سيجدونك؟ تقول: في قبري. يلحُّ بالسؤال: لماذا ترفض التمثال؟ تقول: لأني أريد أن أتحرك...أن أمد يدي لأكش الذباب عن وجهي، وأن أمد لساني ساخراً، وأن أنزل رجلي إلى الشارع. يقول: ثق بي، سأجعل الحركة مرئية. تقول: ولا أريد أن يكسرني أحد. أنا من يفعل ذلك. والتمثال غير قادر على النقد الذاتي. يقول لك: أنت إذاً حمار. تقول: كخلودك هذا! تفترقان بمودة... تعود إلى شقتك لا على أربع لأنك لست حماراً!"

و

"ولادة على دفعات،" وموت على دفعة واحدة! وكأن النتيجة قد غارت من السبب فطارت! مفارقةٌ "واو" هذا الاسم، مفارقةٌ ولادته، مفارقةٌ رحيله... وتأسيس لبلاغة الفوارق مسيرتُه. لم يكن إرميا الفلسطيني، لكنه أصر على أن يكون المرثي والراثي دون أن يشير إلى الفرق الحقيقي بين من "يحبونه ميتاً" ومن "يموتون في حبه" من فرط ما وهبهم من حياة أمَّنتها رحابةُ اللغة وفسحةُ المثال لضيق الأرض وكربة الواقع. ولد على مفارقة "تفتح لفعل الماضي الناقص باب المدائح على مصراعين: المكان المفقود، والزمان المفقود" بين محنة الخروج من البروة-البئر، وحنين العودة إليها دون أن تلتبس "العودة" بشوائب "الرجوع،" ودون أن ينزلق "الوصول" إلى درك "المجيء." وحين أدرك الهندي الأحمر الفلسطيني صعوبة المهمة، لم يبتسم ابتسامة العارفين الذين يؤدلجون الهزيمة، بل أصر على كتابة إلياذة الفلسطينيين وأوذيستهم في آن، رغم قناعته بأن بينيلوب، وإيتاكا، وطروادة الظافرة لم تكن إلا أوهام الخلود اللازم كشرط ضروري للوجود، لا العكس عند من يعرف ذاته ويعرِّفها بأنه "أول القتلى وآخر من يموت."

يؤمِّنُ هذا اليقين لقصائد هومر-المغلوبين الذين يرفضون قصة الغلبة، الطرواديين من غير سوء الذين يعرفون أن "الهزيمة والنصر وهمان يحسنان لعبة التناوب،" يؤمِّنُ لهم طاقة فائقة على تغيير وظيفة العين من "الإبصار" إلى "السمع" لتنصت إلى ولوولات اللاجئين المطرودين إلى البحر والصحراء قبل أن تقنعهم البلاغات العالية بضرورة "استدراج الذئب إلى حفلة عزف على الغيتار." ولذا، فقد رفض درويش الشهادة على "مسرحية فاشلة باطلة" أحالت سؤال الفلسطينيين من "بحث عن بيت" إلى "بحث عن قبر" دون أن يكون الحصول على الأخير مؤمَّناً! ولذا، فقد كتب هندينا الأخير خطبته الأخيرة على شكل "استقالة" اعتبرها "الحسنة الوحيدة لاتفاقية حلَّت مشكلة الأمن الإسرائيلية ولم تحل المشكلة الفلسطينية!" لقد كان عائداً حائراً، أو حائراً عائداً، لكنه لم يعد، لا يكذب على أحد ولا على نفسه، ويبقى حائراً في: "أي داهية قانوني أو لغوي يستطيع أن يصوغ معاهدة سلام وحسن جوار بين قصر وكوخ، بين حارس وأسير،" ثم لا يخفي خيبته، ويقول: "أتيتُ ولم أصل، وجئتُ ولم أعد." لأنه لم يضمن مقعداً، ولا مرقداً تحت سدرة المنتهى (متران من ذاك التراب: متر و75 سنتمتراً): قرب فيصل في القدس، وإبراهيم في يافا، وتوفيق في الناصرة، وإميل في حيفا... وإدوارد في أعالي الساحل الفلسطيني. كان خروجه من فلسطين، و"رجعته" إليها أصعب ما يكون: مات والده بضربة شمس وهو في الحج، ورحل هو بضربة قمر لن يزال باحثاً عن بروته-البئر التي التهمها "يسعور" أو يكاد لولا وقوع البئر في قمر النشيد، ولولا أن وفَّر ابن الريب مطلب أن تُرفع جنازة درويش علياً: "أقول لأصحابي ارفعوني فإنه، يقرُّ بعيني أنْ سهيلٌ بكانيا"!

ي

الياء لم تأت إلى الوجود إلا لتظهر الوظيفة الوجودية للألف! وهي، كما الموت، ما جاءت إلا لتوضح معنى الولادة التي يستخدمها أساتذة المنطق البلهاء مثالاً على مفهوم "السبب!" الياء عِلَّة الألف، والألف سبب الياء، والولادة سبب الموت، والموت يحتاج إلى جنازة لم يمت سيدها بالمصادفة، بل بقي حياً بالمصادفة إلى أن مات، بعد النجاة التي في بيروت، وفينا، وباريس... حين خاتله "سيد البيض" في أمريكا. لقد عرَّفَتْ "ياء" المخاطِب-الحاضر "ياء" المخاطَب-الغائب أنـ(نا) "نجونا من موت كثير، وهزمنا النسيان، وقلت لي: نحن ننجو ولا ننتصر، وقلت لك: النجاة هي انتصار الطريدة الممكن على الصياد. الصمود هو البقاء. والبقاء هو أول الوجود،" ولذا، لم تكتب وصيتك لأنه لا يوجد ما توصي به، إذ لا سر في حياتك، ولا مخطوطة سرية، ولا رسائل خاصة، وناشرك معروف، وحياتك فضيحة شعرك، وشعرك فضيحة حياتك... هكذا طار الحمام، وأنت تحاول كتابة الوصية، وهكذا يحط الحمام ليطير، ثانيةً، وقد حفظ الساهرون الأغنية، ولم ينتبهوا ساعة "الانتباه"!

لكن أحداً لم يسألك عن تفاصيل الجنازة التي قد لا تعد من مقتضيات الوصية، ولا من "مقتضيات النشيد." غير إن "ياء" المخاطِب-الحاضر الذي فيك، استدخلت ابن الريب في "ياء" المخاطَب الذي فينا، وأراحتنا من البحث عن وصية خاصة، وكل ذاكرتك، التي للنسيان والتي للحفظ، صارت ملكية عامة: "أريد جنازة حسنة التنظيم، يضعون فيها الجثمان السليم، لا المشوه، في تابوت خشبي ملفوف بعلم واضح الألوان الأربعة، ولو كانت مقتبسة من بين شعر لا تدل ألفاظه على معانيه، محمول على أكتاف أصدقائي، وأصدقائي-الأعداء. وأريد أكاليل من الورد الأحمر والورد الأصفر. لا أريد اللون الوردي الرخيص، ولا أريد البنفسج لأنه يذيع رائحة الموت. وأريد مذيعاً قليل الثرثرة، قليل البحة، قادراً على ادعاء حزن مقنع، يتناوب مع أشرطة تحمل صوتي بعض الكلام. أريد جنازة هادئة، واضحة، وكبيرة ليكون الوداع جميلاً وعكس اللقاء. فما أجمل حظ الموتى الجدد، في اليوم الأول من الوداع، حين يتبارى المودعون في مدائحهم. فرسان ليوم واحد، محبوبون ليوم واحد، أبرياء ليوم واحد... لا نميمة ولا شتيمة ولا حسد. حسناً، وأنا بلا زوجة وبلا ولد. فذلك يوفر على بعض الأصدقاء جهد التمثيل الطويل لدور حزين لا ينتهي إلا بحنو الأرملة على المعزي. وذلك يوفر على الولد مذلة الوقوف على أبواب المؤسسات ذات البيروقراطية البدوية. حسن أني وحيد... وحيد... وحيد، لذلك ستكون جنازتي مجانية وبلا حساب مجاملة، ينصرف بعدها المشيعون إلى شؤونهم اليومية. أريد جنازة وتابوتاً أنيق الصنع أطل منه على المشيعين... أسترق النظر إلى طريقتهم في الوقوف وفي المشي وفي التأفف وفي تحويل اللعاب إلى دموع... سأبتسم في التابوت، سأبذل جهداً لأن أقول: كفى، وسأحاول العودة فلا أستطيع."

ش

شعراً أقول، وتربتُ اليدُ في وداعِ محاربَيْنِ استدرَجا ديكَ النِزال لِحَقْلِهِ، وتَغافَلاْ حيلَ الغيابْ... شعراً، يقولْ:
- "خفف من الغلواءْ!"، وكذا يقول: "لـِمَ يدفن الأمواتُ موتاهم، حَزانى؟ قد يرجعونْ. قد يرجعونَ، ويَنْشُدُونَ ظِلالَهُم، من غيرِ سوءٍ، كي يروا فِعْلَ الزمانِ بأهلهِمْ، وظلالِهِمْ في أهلِهِمْ، ويغادرونْ"
- وأنا أقول: هو "فخُّنا الروحيٌّ،"هذا الموتُ، حقَّاً، يا أبي. تأوي إليهِ ظلالُكُم، وظلالُنا تأوي لمنزِلِ ظلِّكُمْ... في الليلِ تتسعُ المتاهةُ، والأسى ينمو، وتنحَسِرُ الطريقْ. تتراصف الأحزان في قلبي قناطرَ للعبورِ، فتعبرُ "الصورُ البهيَّةُ" نحوَ قلبيْ. يعبُرُ "الروحُ الأثيريُّ" الـمُعّنَّى-أيها الَمعنى الذي غارت نجومُكَ في المجازِ، ولم تزل غراً على بابِ الكنايةِ، يا أبيْ، عُدْ بي إلى هذا الصباحِ، ودع قرينيْكَ السماويينِ يُهاديانِ الشمسَ للغسقِ الأخيرْ. عُد أيها الظلُّ الذي حارت شموس الله في موَّالِهِ، وتَلَتْ لهُ الأقمارُ "سِفْرَ الجامعةْ": الآنَ تولَدُ، من جديدٍ، عندَ فَرْجِ الكونِ-تَخْرُجُ من صميمِ "الواوِ"، لا بشراً تُبَشِّرُ بالبدايةِ، لا نبياً، أنتَ، تُنبِؤُ بالنهايةِ. بل ضياءٌ ضاغَ سورَتَهُ، وتمَّمَ صورَتَهْ... الآنَ تُوْلِدُ نفسَكَ الكُبرى، وتعرِفُهَا، وتَطلُعُ نحوَ نفْسِكَ، في النهارِ، سُدَىً، ستطلُعُ في النهارْ. أنتَ يا "مرآةَ نفسِكَ"، يا خفيَّ الهيئةِ، الـ للتوِّ..قبلَ هُنيهتنِ..الآنَ، فارَقْتَ اليدينِ الطاهراتِ البيضَ، أيدي اللهْ. يا هبةَ المحبَّةِ، يا بِذارَ اللهِ، هيِّئْنَا لأيامِ الحصادْ. كُن بذْرةً تغفو بجوفِ الأرضِ كيْ تبقى نديَّا. جرِّبْ حُظوظكَ، في الترابِ، تصيرُ حيَّا. واقرأ خطوطَ الموتِ في كفَّيكَ، لا تلجأ لرملٍ، لا تخفْ، تكن النبيَّا. الضوءُ أنتَ، ولستَ تفنى، لستَ، تُبنى، لستَ تحترفُ البقاءَ، ولستَ تمكثُ في اليبابْ. كلُّ الجهاتِ بكفِّكَ، العذراءِ ماثِلةٌ، وإبهامُ اليمينِ يديرُها، ويقلِّبُ الكرةَ الصغيرةَ، في أناةٍ، كي يرى ظلاً لهُ في ماءِ هذا الكونِ يضحكُ... في الغيابْ: لا ظلَّ للضوءْ-السرابْ.

التعليقات