01/11/2010 - 06:55

خلفيات التفرقة والوهن لدى العرب في العالم المعاصر (1)../ جورج قرم

-

خلفيات التفرقة والوهن لدى العرب في العالم المعاصر (1)../ جورج قرم
لا يشكّ في أي محلل مطلع على تاريخ المجتمعات العربية المعاصرة بأنَّه تاريخ مليءبالفتن في ما بين الأقطار العربية، كما داخل العديد من المجتمعات القطرية، مما وضعمعظم المواطنين العرب في حالة حيْرة وقلق، بلْ بالنسبة إلى الجيل الشاب، في الرغبةالشديدة إلى هجرة الوطن نظراً لصعوبة الظروف المجتمعية والاجتماعية فيه. لذلك،وأمام هذا المشهد المفجع، لا بدَّ من أن نسعى إلى استيضاح أسباب التفرقة والفتنالتي أصبحت سمة رئيسية من حياتنا العربية المعاصرة، لكيْ نتمكّن من المساهمةالفكرية المتواضعة من أجل تسريع ظهور نهضة عربية، قطرية وقومية، تغيّر من المسارالانحطاطي الذي نحن فيه، منذ الحرب العربية ـ الإسرائيلية في عام 1967، والقضاء علىما سمَّيْتُه في مؤلَّفي "انفجار المشرق العربي. من تأميم قناة السويس إلى غزوالعراق 1956-2007" "دينامية الانحطاط".

وسنستعرض هنا معطيات أزمة الوجود العربيالمتواصلة على محوريْن. يتعلَّق الأوَّل بما يمكن أن أسمّيه الأسباب الأنتروبولوجيةالتراثية في تاريخ المجتمعات العربية؛ والثاني سيركّز على المعطيات الحديثة التي قدتتشابك مع المعطيات التاريخية لتجعل من الدول العربية والمجتمعات التي تديرها دولاًرخوة غير متعاونة في ما بينها، مما يحطّ من شأن العرب في النظام الدولي ويعرِّضالأمة بشكل متواصل إلى الفتن والقلاقل والتدخل الخارجي الذي يمكن أن يأخذ أشكالاًاستعمارية متجددة من الغزو العسكري والاحتلال.

أولاً: المعطيات التاريخيةوالانتروبولوجية
 
أـ ضرورة تجنُّب النظرة الأنتروبولوجية الجوهرانية

يجب أننعالج تلك المعطيات بدقة متناهية لتجنّب الوقوع في النظريات الغربية حول العلمالانتروبولوجي الذي يدّعي تبيان سمات وطبائع وعقليات تميِّز المجموعات الإنسانيةبشكل ثابت لا يتغيَّر عبر التاريخ، وهو طرح مهيْمن في علوم الانتروبولوجيا التيتمارس بأشكال مختلفة نوعاً من الرؤية الجوهرانية إلى طبائع الشعوب والمجتمعات، بحيثنعتقد أنَّ لكل شعب أو مجتمع أو ملّة أو إثنية أو مذهب ديني عقيدي موروث جينيالطابع لا يتغيَّر عبر التاريخ. هذه الجوهرانية قد اعتُمِدَت في كثيرٍ من الدراساتالاستشراقية حول المجتمعات العربية أو المجتمعات الإسلامية، وكأنَّ المقولتيْنمترادفتان أيْ كأنَّ هناك «مجتمع إسلامي» متطابق من أقصى شرق آسيا والقارة الهنديةإلى المحيط الأطلسي، لا فرق بين عربي وأعجمي وتركي وأجزاء الشعوب الهندية أوالصينية المختلفة التي اعتنقت الإسلام ديناً.

وفي المجادلات الصاخبة بينالمثقفين العرب في العصر الحديث، نرى البعض منهم ـ كما سيظهر لاحقاً في الجزءالثاني من هذه الدراسة ـ متأثرين إلى درجة كبيرة بهذه النظريات، فيتماهى عندهم صفةالعربي وصفة اعتناق الديانة الإسلامية.

غير أنَّ المشاهدة التاريخية الدقيقةتفيد بأنَّ ليس من شعب إلا ونجده يتغيَّر عبر الأزمنة بفعل الظروف والأحداثوالفتوحات والغزوات والحروب والتغيير في العادات الاجتماعية وفي المستوى العلميوالتكنولوجي. لذلك لا بدَّ من تجنُّب الوقوع في القول باستحالة تغيير الشعوبوحضارتها وعلومها عبر المراحل الزمنية الطويلة. ومما لا شك فيه أنَّ العرب اليوم همغير العرب أيام ما يُسَمَّى بالجاهلية، وهم غير العرب في ظل هيْمنة العنصر العجميوالتركي على مقدّراتهم، وكذلك هم ليسوا تماماً كما العرب الذين قبعوا تحت الهيْمنةالاستعمارية البريطانية أو الفرنسية.

ب ـ من هم العرب؟ وما هو دور النظامالقبلي والبطريركي في مجتمعاتهم

وعندما نتحدَّث عن العرب، فنحن في الحقيقة نشملالشعوب العديدة المستعرَبة على أثر الفتوحات العربية، خاصةً في بلاد ما بينالنهريْن ومصر وشرق المتوسط وغربه؛ كما نشمل في كلمة العرب الشعوب الأخرى التيحافظت على كيانها اللغوي الخاص مثل العنصر الأمازيغي في غرب المتوسط والعنصر الكرديوالآشوري والسرياني في شرقه. ولا شك في أنَّ مثل هذا التعريف قد يثير حساسية كبيرةلدى أبناء المجتمعات التي لم تُستعرَب، وإنْ اعتمدت الإسلام ديناً لها، لكننيأتحدّث هنا عن مجتمعات مركّبة حيث تعايش وتداخل كل من العرب والمستعرَبينوالمجموعات الإثنية التي لم تتعرّب بحالة أمان وسلام خلال قرون طويلة. وأنا أعنيهنا أيضاً بكلمة «العرب» من تعرَّب من الطوائف المسيحية الشرقية، لكنَّها بقيَت علىالديانة المسيحية تحت نظام قرآني المصدر، الخاص بأهل الكتاب الذين يصبحون بذمةالحكّام المسلمين، كما أعني الطوائف اليهودية التي كانت في المغرب العربي في كثيرمن الأحيان أمازيغية الأصل. أما في المشرق، فقد كانت متجذّرة منذ آلاف السنين،وبشكل خاص في الأرياف اليمنية وفي المدن العراقية، وهي أيضاً استفادت من مزايا نظامالملل، بالإضافة إلى العديد من اليهود من الأصل الأوروبي، وبشكل خاص الإسباني،الذين هربوا من أوروبا ليعيشوا باطمئنان وسلام في ديار المسلمين.

وهذه الدقائقفي استعمال كلمة «عرب» هي مهمة للغاية لأنَّ المعنى الضيِّق للكلمة يشير في الأساسإلى مجموعة القبائل من البدو الرُّحَّل التي كانت تقطن شبه الجزيرة العربية، وبشكلخاص في شمالها، بينما في جنوبها كانت المجتمعات أكثر تنوّعاً نظراً لوجود بيئةزراعية ومدينية هامة. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو ما إذا كان العنصرالقبلي في الحياة العربية هو الذي ما يزال يسيطر على الطبائع والعقليات في الزمنالمعاصر وهو الذي يفسِّر المشاحنات والتفرقة والتنافس الفوضوي في ما بين العربالذين بقوا قبائل غير منضبطة في إطار الدولة الحديثة؟ وهذا ما طرحه المفكرالفلسطيني الراحل هشام شرابي عندما فسَّر التخلُّف العربي عن ركب الحضارة الحديثةبالبنية العائلية البطريركية الطابع، وهذا ما يعتقده العديد من المثقفين العربالمتأثرين بالأدب الأنتروبولوجي والإثني الأميركي الذي يركّز في ما يختص بالعرب علىالبنية القبائلية للمجتمعات، وكذلك على سلطة الرجل ضمن العائلة كسلطة مطلقة علىجميع أفراد عائلتها.

ج ـ الأسباب الوضعية للانحطاط العربي

وباختصار، فأنالا أؤمن بمثل هذه المقاربة التفسيرية لمصدر التخلّف ودينامية الانحطاط العربيالمعاصر، إذْ أرى أسباباً أخرى موضوعية وتاريخية يجب أن تُؤخَذ بالحسبان عند تحليلوضع العرب في ركب الحضارة العالمية الحديثة، وسأكتفي بذكر أهمها:

  1. خروج العربمن القيادة السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط منذ القرن العاشر

إنَّ ظاهرةخروج العرب من التاريخ خلال العصر العباسي عند بلوغ الحضارة العربية الإسلامية أرقىالمستويات لهيَ ظاهرة لافتة للنظر، لكنّها قلَّما تمّ درسها بشيء من الإمعان. كيفنرى فجأة العنصر العربي يبتعد عن إدارة دولة الخلافة التي أسسها بإنجازات عسكريةوحضارية عظيمة وترك الأمر للوزراء والقيادات العسكرية غير العربية؟ وهذا الخروج منالحكم سمح للممالك التركية والعجمية بممارسة الحكم الفعلي إلى نهاية القرن التاسععشر وبدايات القرن العشرين، عندما تفكَّكت السلطنة العثمانية وانحصرت قوة وسطوةالدولة الفارسية. وقد كانت الدولتان في حالة حروب متواصلة في ما بينها منذ بداياتالقرن السادس عشر، مما أضعف الدولتيْن معاً وفتح الباب أمام الهيْمنة الأوروبيةالمتعاظمة على الشرق الأوسط. وهذه ظاهرة قلَّما تحظى بانتباه المؤرخين الذين أصبحواأسرى منهج تأريخ الدول الإسلامية وليس منهج تأريخ العرب، وبالتالي فإنَّ الهويةاللغوية والثقافية للحكام لم يكن لها وزن في مقاربة تاريخ يركّز على الشعوبالإسلامية، وليس على الشعوب العربية طالما أنَّ الحاكم يدين بالإسلام.
ويبقىالسؤال المطروح حول ما حصل في الأندلس من حروب ملوك الطوائف المدمِّرة والتي سهَّلتإعادة سيطرة المجموعات الإيبيرية المختلفة على شبه الجزيرة وطرد كلٍّ من اليهودوالمسلمين العرب منها، أو إجبارهم على التنصرُن.

  1. ظروف نيْل الاستقلال أعادتالعرب وشركاءهم من الإثنيات الأخرى إلى الحكم دون سابق تجربة

لا أودّ هنا أنأحمِّل فقط العوامل الخارجية مسؤولية ما حصل من تقسيم المجتمعات العربية إلى دولمتفرِّقة تعاني من مشاكل كبيرة في ترسيم الحدود في ما بينها. وقد تمَّ تثبيتالانفصال الجغرافي بين المشرق والمغرب العربي عبر إنشاء الكيان الصهيوني، ومن ثمكثافة التدخلات الخارجية في أمور الدول العربية الناشئة، خاصةً في المنافسة الدوليةبين الدول الكبرى لوضع اليد على مصالح اقتصادية استراتيجية، وخاصةً النفطية منها؛ولكن هذه العوامل الخارجية لا يمكن إنكارها، فمنطقة الشرق الأوسط هي منطقة عالميةاستراتيجية على مفترق طرقات التجارة الرئيسية وتتمتع بثروات ضخمة. هذا بالإضافة إلىزعزعة الروابط التاريخية بين المسلمين واليهود من العرب بفعل إنشاء الكيان الصهيونيوالضغط على العرب اليهود في المغرب العربي كما في المشرق لترك البلاد التي ينتمونإليها منذ أقدم الأزمنة وهم فيها شركاء المسلمين للهجرة إلى الكيان الصهيوني أو إلىالدول الأوروبية أو الولايات المتحدة.

وفي هذا المضمار بالذات لا بدَّ منالإشارة إلى أنَّ العالم العربي قد يكون المنطقة الوحيدة في العالم، حيث تمَّ زرعوإنشاء كيان اصطناعي سياسي وعسكري، وهو الكيان الصهيوني ما يزال حتى الآن يتمتعبدعمٍ مطلق وأعمى بالسلاح والعتاد والمواقف السياسية المؤيِّدة لكل أعمال العنفالذي يقوم به تجاه الفلسطينيين واللبنانيين.

  1. أسباب التقوقع والانغلاقالهويتي

إنَّ التقوقع الذي حصل على الهوية الدينية في نصف القرن الأخير علىحساب الهوية الثقافية والحضارية العربية المنفتحة بطبيعة الحال على ثقافات الاثنياتالأخرى التي تعايشت بسلام على مدى القرون مع العنصر العربي والمستعرَب، قد ترافقأيضاً مع التقوقع على الهويات الإثنية والقبائلية والمناطقية والدينية والمذهبيةعلى حساب كل عناصر الهوية الجامعة للمجتمعات العربية داخل كل قطر عربي أو في مابينها. وهذه الظاهرة المعقدة لهيَ تعبّر عن فشليْن:

·         العجز في تنمية حضارةعربية ـ أمازيغية في المغرب العربي وتنمية ثقافية عربية ـ سريانية في المشرق العربيوثقافة عربية ـ فرعونية في مصر، وعدم الانفتاح على اللغة الكردية واللغة الأمازيغيةوتراثهما والاهتمام بهما.

·          عجز الدول الناشئة عن بناء مجتمع يسود فيه العدلوالمساواة، وتزايد الفوارق بين فئات اجتماعية مختلفة بشكل عملاق في العقود الأخيرة،وذلك عبر إثراء بعض أفراد المجتمعات بشكل فجائي ودون مساهمة في الإنتاج والإبداعالاقتصادي أو التكنولوجي والعلمي.

ومما لا شك فيه أنَّ في ظل مثل هذه الظروفالقاسية، يمكن أن نفهم تقوقع أبناء المجتمعات العربية حول زعامات تقليدية، دينية أومذهبية، وبروز النزعات الانفصالية لدى الفئات غير العربية لغوياً، ومن جانب التطرّفظهور حركات عبثية مسلَّحة تمارس الإرهاب في مجتمعاتها وترفع اتهامات التكفير يميناًوشمالاً وتطالب بمزيد من التقوقع على هوية دينية متخيَّلة تنفي كل التطور التاريخيالذي حصل في العالم وفي المنطقة منذ قرون.

وهذا هو الوضع الذي يجب أن نأخذه فيالحسبان عندما نحلل الانحطاط الذي يصيبنا ونزعات الفتنة والتفرقة التي لا تنتهي. ومن أجل معالجة هذا الوضع لا بدَّ من النظر بإمعان ودقة في القضايا الفكرية الكبرىالتي اختلفت النخب العربية عليها، أشد الاختلاف في بعض المواقع، مما حال دون بناءنظام معرفي وإدراكي عربي موحَّد يسمح بإدارة تعددية الأهواء واستيعاب ما تأتي بهالحداثة من أفكار وتوجهات وطموحات مختلفة، وهذا ما سنستعرضه في الجزءالتالي مندراستنا.

ثانياً: الخلافات الفلسفية ـ السياسية المثيرة للفتن في ما بين العرب

هناك العديد من المواضيع الخلافية الحادة بين العرب أدَّت إلى فتن وقلاقلمتواصلة منذ مرحلة تفكك السلطنة العثمانية، وحريٌّ بنا أن نستعرض هذه المواضيعونتفحّص مصدرها ونحدد الآليات المغذِّية للخلافات عبر هذا الاستعراض. وسنرى في مايلي التشابك المفسِد بين إشكاليات تاريخية داخلية في الوجود العربي وبين إشكالياتمستورَدة من التصورات الفلسفية الكبرى الأوروبية، إذْ أنَّ هذا التشابك أدَّى إلىظهور حركات راديكالية بتلاوين مختلفة.

1)      الإشكاليات الداخلية التاريخية الطابع

سبق أن ذكرنا في الجزء الأوَّل من هذه الدراسة خروج العرب من التاريخ السياسيوالعسكري للمنطقة ابتداء من القرن العاشر، وبشكل خاص في المشرق العربي، بينما ظلالمغرب العربي نشيطاً رغم ما أصاب قوة العرب والامازيغيين المتحالفين من تراجع أدىإلى انهيار الوجود العربي الأمازيغي في الأندلس.

وقد أصبح العرب يعيشون مطمئنينفي كنف السلطنة العثمانية ابتداءً من بداية القرن السادس عشر بعد أن كانوا قدتعوَّدوا على العيش في كيانات تديرها قيادات تركية الأصل في معظم أنحاء المشرقالعربي (وكذلك عجمية الطابع في أجزاء واسعة من بلاد ما بين النهريْن).
 
ومنذبداية القرن التاسع عشر بدا جلياً مدى تعرُّض المجتمعات العربية إلى الهجماتالاستعمارية الفرنسية في المغرب العربي والإنكليزية في المشرق العربي، وكانتالسلطنة العثمانية قد دخلت في طور الانحلال بدءاً بمقاطعاتها البلقانية والقوقازية. وإذْ بالعرب يجدون أنفسهم دون حماية لمجتمعاتهم من الغزوات الاستعمارية الأوروبية. فظهرت بالتالي بدايات الانقسام بين من كان يرى من العرب ضرورة تقوية الروابطالدينية بين العرب والقيادات المسلمة من غير العرب لصدّ الهجمات الاستعمارية منجهة، وبين من كان يرى ضرورة إعادة إحياء هوية عربية مستقلة تناضل من أجل كسباستقلال المجتمعات العربية عن أية قوة خارجية، أوروبية كانت أم عثمانية أو عجميةالطابع، من جهة أخرى. وقد وقف في المشرق العربي جزء هام من النخبة في موقف وسطي،أيْ موقف يطالب السلطنة العثمانية بمنح العنصر العربي ومقاطعات السلطنة ذاتالأغلبية السكانية العربية اللامركزية والحقوق الثقافية واللغوية.

وخلافاًللرؤية الاستشراقية التي تبنّاها بعض المثقفين العرب، فإنَّ النخبة العربيةالمشرقية المسيحية لن تنصب العداء المطلق للعنصر العثماني لكونه مسلماً، بلْ انخرطتفي تيارات سياسية تؤكّد الولاء للسلطان، إنَّما تطالب بالحقوق العربية في إدارةالسلطنة وذلك إلى جانب العديد من الشخصيات العربية المسلمة. غير أنّ الرواياتالاستشراقية المتتالية طوَّرت سردية حول النهضة العربية وتطوير الهوية العربية تبرز "دور الأقليات" المسيحية أو الكردية أو اليهودية في العمل من أجل تنامي شعور قوميعربي منفصل عن الرابط الديني مع الشعوب المسلمة الأخرى، وهذا بطبيعة الحال مخالفتماماً للوقائع التاريخية، إذْ ستنخرط جماهير واسعة من كل الطوائف ليس فقط فيالأحزاب العروبية الطابع التي ستنمو بعد انهيار السلطنة والقضاء على مؤسسة الخلافة،بلْ أيضاً في الحركات التقدمية الطابع المتأثّرة بالأدبيات الماركسية وبالحداثةالأوروبية وما كانت تحتوي عليه في حينه من قيَم وضعية ودنيوية الطابع.

غير أنَّالتناحر المستتر أو الظاهر قد تنامى منذ بداية تلك المرحلة التاريخية بين أنصارالحفاظ على الرابط الديني كأساس مزدوج للحياة المجتمعية العربية، كما للعلاقات معالمجتمعات والدول الإسلامية الطابع من جهة، وبين المتحمّسين إلى الحداثة الأوروبيةثم الأميركية الأصل من جهة أخرى. وقد رأى أنصار المدرسة الأولى المحافِظة أنَّالتأقلم مع الحداثة هي أداة لتقويض المجتمعات الإسلامية، نظراً لما تحتوي عليه هذهالقيَم من قيَم لا تتفق مع القيَم التقليدية الإسلامية.

والجدير بالذكر هناأنَّ إنشاء المملكة العربية السعودية في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، علىأساس اعتماد المذهب الوهابي المتشدّد كعقيدة للدولة الجديدة سيصبح عاملاً أساسياًفي تقوية النظرة الإسلاموية الطابع إلى أمور الدنيا بكل أبعادها الحداثويةوالاستعمارية. أما الحداثويون العرب فقد رأوا في جمال عبد الناصر بطلهم ومحط آمالهمالمستقبلية في تحقيق دولة الوحدة التي ستؤمِّن الحياة الكريمة لكل العرب. وقدتصادمت عند العرب رؤيتان للعالم، رؤية دنيوية وضعية ورؤية دينية ميتافيزيقية ماورائية غيبية للعالم.

ولا بدَّ من الإشارة السريعة إلى ما أصاب النظرة العروبيةالدنيوية من انتكاسة كبيرة بعد نكبة حرب 1967 وإفساح المجال أمام نشر المبادئالوهابية، وكذلك مبادئ سيد قطب في مصر. وجميع هذه التطورات سهَّلت نجاح أطروحةالباحث الأميركي الراحل صامويل هانتينغتون حول صراع الحضارات التي حلَّت محل الصراعبين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الليبرالي تحت قيادةالولايات المتحدة، وذلك بالرغم من وجود العديد من الشخصيات العربية وغير العربية فيتبنّي الطرح المضاد في تحالف أو توافق أو تحاور الحضارات. وهو طرح يعزز بشكل غيرمباشر طرح الصراع، إذْ يطالب بالحوار بدلاً من الصراع وكأنَّ وجود صراع بينالحضارات هو مسلَّمة ومسبِّب للحروب بدلاً من الأطماع الاستعمارية وحبّ الهيمنةوالسيطرة والطموحات المجنونة لبعض القادة.

نتج عن هذه الإشكاليات الداخلية، وهيبدورها نبعت من الظروف الموضوعية التي أتاحت عودة العرب إلى الوجود الكياني فيالنظام الدولي بعد غيابهم على مدى قرون، خلافات وحساسيات كبيرة بين الكياناتالمختلفة التي أخذت تستقل الواحدة تلو الأخرى ابتداءً من الخمسينيات من القرنالماضي. وكان قد سبق موجة الاستقلالات عن المستعمر الأوروبي صراع حادّ في موضوع منيرث من الكيانات العربية الناشئة مؤسسة الخلافة الإسلامية بعد إلغائها من قبَلمصطفى كمال أتاتورك سنة 1923؛ وكانت العائلة الهاشمية والعائلة السعودية وملك مصرفي صراع مرير لإعادة مؤسسة الخلافة انطلاقاً من قاعدة سياسية عربية. أما بعدالاستقلال، فقد عصفت خلافات كبيرة بين الدول العربية الهامة للزعامة على كتلة الدولالعربية المنضوية في جامعة الدول العربية؛ هذا بالإضافة إلى قضايا ترسيم الحدود بينالكيانات العربية الجديدة التي أنتجت قضية الصحراء الإسبانية سابقاً من بين قضاياأخرى متعدّدة تمَّت تسويتها على مر السنين دون ضجة.

أما أهم عنصر للمناحرة بينالأنظمة العربية، فقد أصبح الانقسام بين أنظمة تقدمية تمارس سياسات اقتصاديةمعيَّنة لنشر التعليم والصحة في مجتمعاتها وتقوم بالتأميمات وبالحدّ من الحرياتالاقتصادية وتأييد حركات التحرر العربية وغير العربية من جهة؛ والأنظمة المحافِظةالقريبة من مراكز القرار في الولايات المتحدة والمتحالِفة معها والتي تمارس سياساتاقتصادية تعتمد النظام الرأسمالي والمبادرة الفردية والانفتاح على الاستثماراتالأجنبية، من جهة أخرى، وتتكل هذه الأخيرة على معونات الدول الغربية، بينما تتكلالأنظمة التقدمية الطابع على معونات المعسكر الاشتراكي.
 
وكما هو معلوم، ودونالإطالة في هذا الموضوع، فإنَّ نتائج الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 بدلاً منأن تُتَرْجَم نصراً مبيناً، أدَّت إلى مزيد من احتلال الأراضي العربية من قبَلإسرائيل والفراق بين مصر وسوريا وانقسام عربي متجدّد بين أنظمة الصمود والتصديوأنظمة مهادنة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، ممّا أفسح المجال أمام السلامالمنفرد بين مصر وإسرائيل، تلاه مباشرةً وصول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت عام 1982لاقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من الأراضي اللبنانية وإقامة نظام يسيطر عليه حزبالكتائب المتحالف مع المحور الصهيوني ـ الأميركي في حينه.

وكلما ظهرت بشكل مفجع علامات الانقسام الحادة بين الأنظمة العربية، توسّعت دائرة نفوذ رؤية العالم بالمنظار الإسلامي المتشدّد، بلْ والتكفير في بعض صيَغه كبديل للتعاضد العضوي بين المجتمعات العربية. وهذا بدوره خلق قلاقل داخلية في العديد من المجتمعات، حيث أصبحت أجهزة الحكم تقمع وتسجن قيادات تلك الحركات الدينية بعد أن كانت قد شجعتها في بسط نفوذها للقضاء على النفوذ الناصري العروبي الطابع والدنيوي.
"السفير"

 

التعليقات