07/11/2010 - 00:01

ثقافة "نحن أولا"../ ناصر السهلي

ليس خفيا أن خطابا ساد في الفترة التي سبقت اجتياح العراق، هدف إلى تشويه الحالة العربية وتحويلها عبر نخب معينة إلى حالة تلين المزاج الشعبي وتروضه باتجاهات تخدم ما صرنا عليه. مؤخرا عبرت الأزمة اللبنانية عن هذه الحالة الخطيرة التي وصلت إلى حد تعميم الخطاب الشعبوي الضيق، ونبش في مخلفات التاريخ السحيق لاستنباط هوية وطنية مشوهة ومبتورة، تقطع مع العمق والإرث الثقافي القريب والحاضر.

ثقافة

 

منذ سنوات وبعضنا يحذر من انتشار ما وصلنا إليه في تشويه العقل العربي على مستويات مختلفة، أهمها الثقافي والسياسي.

ليس خفيا أن خطابا ساد في الفترة التي سبقت اجتياح العراق، هدف إلى تشويه الحالة العربية وتحويلها عبر نخب معينة إلى حالة تلين المزاج الشعبي وتروضه باتجاهات تخدم ما صرنا عليه. مؤخرا عبرت الأزمة اللبنانية عن هذه الحالة الخطيرة التي وصلت إلى حد تعميم الخطاب الشعبوي الضيق، ونبش في مخلفات التاريخ السحيق لاستنباط هوية وطنية مشوهة ومبتورة، تقطع مع العمق والإرث الثقافي القريب والحاضر.

ثمة من كان يشتغل على هذا "الفكر" ليصير بديلا عن حالة أخرى للعرب، فبرزت في الشأن العراقي وقبله الكويتي، ولم يستثني الطرق على عقل وعاطفة الناس، لا الأردن، ولا فلسطين، ولا مصر، ولا حتى دول الخليج و دول الشمال الإفريقي، وبعض الفئات الثقافية والسياسية في الأقطار العربية الأخرى، فقد كان القول مثلا: "الأردن أولا"، و"العراق أولا"، و "لبنان أولا"، و "فلسطين أولا" مقدمة لما بات لاحقا كتلاً برلمانية وتحالفات جهنمية ثقافية وسياسية، تعزيزا لنهج آخر يعبر عن خيبة وطنية بطريقة مجروحة ودامية، فلم يسعف أي من شعارات "نحن أولا" العراق من بحيرة ودوامة الدماء والفوضى والتخريب..

في لبنان، كونه المثل الأقرب لما نعيشه من حالة الانفصام التي تعبر عن أزمة العقل العربي في البحث عن الانتماء الوهمي للخلاص بفكرة واهمة، قد لا يفاجئك أن نقاشا يدور في الظل حول الهوية اللبنانية، وفي العلن بخجل ( لكن بقوة) يعبر البعض عن الفكرة. لا حاجة لنا للخوض كثيرا في انقلاب الصورة المفجعة، فيصير الادعاء على "العرب" سمة من سمات "الوطنية"..

العرب متهمون بالتدخل بالشأن اللبناني الداخلي، لذا مطلوب القطيعة مع هؤلاء.. لكن، المذهل أن كتلا سياسية ونخبوية من مثل "لبنان أولا"، وبينما يغرق مريدوها في حفلات الشتم والضرب تحت حزام العرب، صارت بوصلة هؤلاء تغرف من "البداوة" العربية المتهكم عليها اليوم.. البعض أرادها يوما أن تُرجع إلى الجزيرة العربية على الحمير، واليوم يريد آخرون إعادتها عبر البحار، لقد تطورت وسائل الاتصال والتنقل، وعبر أثير الفضاء الرقمي والالكتروني لم يعد هناك من داع للعمل البطيء ليسود هذا الخطاب.

"فينيقيية وفرعونية"

هل كان التقوقع والانعزالية يوما حلا؟

لا تهمني الإجابة، وما يهمني أكثر تحول الهوية من " أنا فينيقي" إلى "نحن فينيقيون"، و"فرعوني" إلى "فراعنة"، فالصورة الصارخة لدولة متوسطية صغيرة بحجم مالطا، تؤشر إلى أن الانضمام للاتحاد الأوروبي لم يكن ترفا ولا ذوبانا، فالشعور بالانتماء للفضاء الأوروبي الأوسع اعتبر حصانة للبقاء والاستمرار ضمن نظام اقتصادي وثقافي تاريخي، إلا أننا أمام صورة أخرى حين يتعلق الأمر بمنطقتنا.

لم يكن الطرق على العقل العراقي في البحث عن هوية بعيدة عن المحيط العربي سوى هذا المشهد الكارثي، لم يكن مطلوبا أن يكون الكردي منبوذا في الفضاء العربي الواسع، بل جزءا أصيلا في المجتمعات العربية، إلا أننا في العراق نجد مجتمعا قادته أفكار الانعزالية إلى التخبط في بحر ودوامة لا يبدو أن نهايتها قريبة.

المطلوب إذن للبنا،ن ليس أن يصبح "معرقنًا"، بل "مصوملا"، وتجاوزا لمشقة مراحل "العرقنة"، صرنا نسمع تبريرات للارتداد إلى منطق الانتماء العشائري والقبلي عند أصحاب البدلات الراقية ولوردات حرب وكارتيلات النهب؛ "منطق" يسوده توزيع الاتهامات على"العرب"، لغة وثقافة وتاريخا، ليس حاضرا فحسب، فتصبح العلاقة مع عمق تاريخي، اجتماعي/ ثقافي/ ديني، كسوريا، موازية للعلاقة مع دولة احتلال صهيوني، من باب أنه "أمر طبيعي"، وتُجند للدفاع عنه صحف وتيارات سياسية وثقافية.

البحث عن "كبش فداء"، أو تزوير للتاريخ والحاضر الماثل أمامنا في "تدخل العرب"، أمر يثير إعجاب فئات ويدغدغ المشاعر عند البعض الآخر.

قبل أيام معدودة انفجرت قنبلة في أطراف مخيم البداوي للاجئين الفلسطينيين، ذهب ضحيته طفل وجرح آخرون؛ فجأة وبدون سابق إنذار وجد البعض ضالته عبر أثير النقاش الالكتروني: الفلسطيني أساس المشكلة ويجب رميهم جميعا عبر البحرـ يتهكم أحدهم بأنه لا يجب أن يُمنحوا سترة نجاة!

العجيب في الأمر ليس فيما إذا كانت هذه الشعارات والإشارات الفاشية والعنصرية تصدر في غرفة " القوات اللبنانية " عبر برنامج في الانترنت، ولا في أن رفاق "الحكيم" من وزن ستريدا وجورج عدوان، ضيوف شبه دائمين، ولا في أن بعض العرب الموحدين والعكاريين والطرابلسيين والبقاعيين والبيروتيين، يصفقون ويتأهون فرحا لهذه الترهات، بل استطرد لأقول: نعم يبدو بالنسبة للبعض غريبا أن يكون نقاشا من هذا المستوى قد تسلل موحدا فئات مختلفة في الأساس على تعريف الانتماء والهوية، لكنه في الحقيقة انعكاس لصورة صارخة ومشوهة للبنان، وقد يكون الأغرب في أمر هذه الشعارات العنصرية، التي تحمل الخناجر، البدائية، أنها تصدر ممن يقيمون كمهاجرين في بلاد "العرب" الخليجية، المطلوب منها أن "تحمل تخلفها إليها"، تماما كشعار "النفايات البشرية" الذي أطلقه وزير في كنف الرئيس الراحل رفيق الحريري.

هذه الخناجر البدائية أضحت وصفة قبلية وعشائرية، فالحزب والجماعة السياسية تتحول في الخواء الآيديولوجي وغياب الهدف الناظم إلى مجرد ولاء قبلي تسوده روح الاستعلاء الفارغ من مضمونه وأسسه، وهي وصفة "نحن أولا" بامتياز، قبل أن تتوجه لصدر حامليها من "الرفاق والأخوة"، باعتبار أن "المسؤولية" تقع على "الغرباء"!

البحث عن الهوية في غمرة البحث عن مبررات الضياع لا تستحق عند تلك الفئة أن تعود قليلا إلى التاريخ مع منتصف القرن التاسع عشر والعشرين، ما يهمها هو تعزيز الأدوات والفرز والاصطفاف.

لقد ساد خطاب فلسطيني بعيد مرحلة اجتياح لبنان 1982، وذلك كمقدمة للانخراط في تسوية شعار "يا وحدنا" مرتكزا على خيبة أمل بالعالم العربي، حتى وصل الأمر إلى حد الدعوة للتحالف مع شارون والقبول بما هو مطروح من الاسرائيليين بأي طريقة.. ارتدادات رمي تلك الأفكار لم تتوقف عند خيبة وحيدة بل تحولت رويدا رويدا إلى ما يشبه نهجا لتبرير خط سياسي معين.

لا يختلف النقاش كثيرا في الحالة المصرية، فشعار "مصر أولا" أخذ على عاتقه تبرير كل ظواهر الأزمات التي عاشتها وتعيشها أكبر دولة عربية بسبب الانتماء العربي، وكل تفسير يأتي على حل لغز المشاكل الطائفية مثلا، يكون في نظر أصحابه عقيما إذا لم يستند على الشرح السابق لقضية الانتماء، وحتى في مسائل نقد الناصرية يتحول كل شيء إلى "كارثة" بسبب دور مصر القومي، حتى استيقظنا على اختراق الدوائر الاستراتيجية لهذا الأمن القومي المصري بدءا من الماء وحتى آخر رصاصة تصيب من يحاول اختراق حدود فلسطين من المهاجرين الأفارقة.

لست مضطرا الآن لأخذ لعبة كرة قدم للدلالة على إشاعة وتركيز مسألة الكرامة الوطنية، بالطبع للجزائر أيضا، في مستطيل أخضر،  فالكرامة أوسع قليلا من مستطيلات خضراء.

 ولم تكن الدعوات التي تطل بين الفينة والأخرى للانسحاب والتقوقع بعيدا عن "العرب" وليدة لحظة بعينها، بل فعل مستمر ومتراكم، البحث عن أسباب الأزمات في "الغير" ( وهل صدفة أن يكون دائما وأبدا في الانتماء العروبي وقضاياه الكبرى؟) لتفسير حتى الكوارث الطبيعية.

لا مشكلة أبدا في "فينيقية"، ولا "كنعانية"، و"لا بابلية"، و "لا فرعونية" تاريخ المنطقة، بل لا مشكلة في التعمق بهذا التاريخ على الصعيدين الفردي والجماعي، إنما تكمن المشكلة في عملية تفكيك ذليل لهذا التاريخ وإعادة تركيبه بما يتوافق وقراءات النخب التي هُزمت مشاريعها فعادت تتحالف مع الاستشراق لتبرير عجزها الانساني والحضاري في مستنقع التقوقع والانعزالية.

لا مشكلة مع التاريخ في "نحن أولا"، لكن المصيبة في أن نعيد ترتيب هذه الـ"نحن" وسحبها من محيطها الأوسع إلى جداول ضيقة، يعتقد أصحابها أنها قد تجعلهم جزءًا مما هو أبعد.

"نحن أولا" ليست حالة صحية حين تستخدم شعارات عنصرية واستعلائية وبلغة فوقية، لأنها كانت دوما وعبر التاريخ مشكلة لمن يمارسها وللمحيط القريب والبعيد، سقطت واندثرت امبراطوريات كثيرة تحت طائل الاعتقاد بالقدرة على الاستمرار بفكر استعلائي.

بلغة اليوم، حين يأخذ كبار رؤساء تحرير صحف عربية إشاعة هذا الفكر الانعزالي والانهزامي في آن واحد، فسنكون أمام خلق مزاج عربي يرى في عروبته المشكلة؛ فحين نسمع مثلا وزير خارجية أكبر بلد عربي يتحدث بلغة تكسير الأرجل، وحين تنبري النخبة الموالية للأنظمة في سوق مبررات، بل ومباركة "بلدنا أولا"، ليس في الحقيقة لإشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان وتأمين لقمة العيش والكرامة والبنى التحتية والقضاء على الجهل والأمية ومعدلات الفقر وموت الرضع، وكافة آفات التخلف وحماية الإنسان من مافيات وكارتيلات الرأسمال الجشع، بقدر ما هي محاولة إقناع المواطن العربي بأنه في خندق واحد مع حكامه.

الحاكم ليس بالضرورة رئيس وملك وأمير، في حالتنا حتى زعيم حزب وميليشيا يصير حاكما يشبه من يدعي أنه يعارضهم، فتكون له جمهوريته ومملكته وإمارته وجمهوره من المحكومين والتابعين، في حالة " بلدنا أولا" لا مشكلة إن كان الشعار ينسجم مع كل ما تقدم لخير البش، كل البشر في رقعة الوطن، وليس وفق أهواء الانتماء للفكر الانعزالي، ولا يمكن أن يشبه هذا الشعار سوى القبيلة والعشيرة، وليس أبدا كما يصوره أصحابه منذ عقدين بأننا "سنكون مثل السويد"!

التعليقات