09/11/2010 - 12:51

عن حملة المقاطعة والأسطول الثاني وأشياء أخرى../ نهلة الشهال

-

عن حملة المقاطعة والأسطول الثاني وأشياء أخرى../ نهلة الشهال
تكمن ميزة إيلي فايزل، الحائز على نوبل للسلام، في سعيه الدائم لتجديد الصهيونيةعبر محاولات منحها إنسانوية تفتقدها بشدة بعد التطبيق (وقبله تأكيداً، ولكنالإيديولوجيات كلها لا تتجسد إلا عندما "تنزل" لتسكن في الواقع)، وعبر تغليفهابكثافة فكرية، ولو أنها شكلية، لأنها غير ذات صلة بالموضوع، تغرف لهذه الغاية منإلفة الرجل مع الفلسفة والأدب والموسيقى، وهو يوظف كل هذا في خدمة الصهيونيةوإسرائيل، تعينه في ذلك بشدة الهالة التي تمنحها نوبل لأصحابها.

وخلال الأسبوعالمنصرم، وبشكل متزامن فعلاً، صدر موقفان لافتان للنظر، نشرا على نطاق واسع: واحديقوده إيلي فايزل ذاك، وعنوانه "لا لخرافة ـ ميث ـ الأبرتايد"، وعنوانه الفرعي "تصريح حاملي جوائز نوبل رداً على حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات  BDS،ونداء المقاطعة الأكاديمية"... لإسرائيل طبعاً. ويلي ذلك توقيع 38 شخصية حائزة علىجائزة نوبل في اختصاصات متنوعة، كلها علمي، كالفيزياء والكيمياء. ويعني ذلك أنهؤلاء، هم الآخرون، يلوون عنق جوائزهم لتوظيف هالتها، في ما لا صلة له بالسبب الذيمُنحوا نوبل لأجله، وهذا اعتداء أخلاقي على الجائزة. ولكن دعونا من ذلك. وقد بداالأمر صاخباً، وإنما، ومن دون التقليل من شأن هذا الحدث، فعلينا أن نعرف أن هناك علىالأقل 200 حائز على نوبل ما زالوا على قيد الحياة، وقد توجه إيلي فايزل إليهمجميعاً، فلم يستجب له إلا هؤلاء العلماء.
 
 ومن دون تبرئتهم من مسؤولية الموافقة علىمنح أسمائهم، ومجددا على توظيف جوائزهم في ما لا علاقة له بالموضوع، فيمكن تفسيرموقف معظمهم بجهله التام بالمواضيع السياسية والفكرية، كما أن يهودية الموقعين قداستُنفرت تجاه ما يقال له اليوم "نزع الشرعية عن إسرائيل" الذي تهدف إليه حملةالمقاطعة، واتهامها بأنها تبني نظام تمييز وفصل عنصريين (أو الأبرتايد)، دفع إلىالحملة العالمية ضد نظام جنوب أفريقيا السابق، وهو مدان في شرعة الأمم المتحدة. وحصيلة ذلك تُصوَّر باختصار ديماغوجي على أنها تهديد جديد بإبادة اليهود. ولم يحصلفايزل على توقيعات آخرين من حملة نوبل، في الأدب والاقتصاد والسلام، مع أن بينهمأيضا نسبة من اليهود، ما يسجل لأهمية دلالته.

الموقف الثاني صَدَرَ ونشر فيجريدة لوموند الفرنسية العريقة يوم 2 نوفمبر/ تشرين الثاني، وهو يتخذ عنواناً يقول "مقاطعة إسرائيل سلاح مشين"، ووقعه رئيس بلدية باريس السيد دولانويه، ومعه بضعةنواب، وكذلك السكرتير السابق للحزب الاشتراكي السيد هولاند (وهو عادة موضع سخريةعامة في فرنسا بوصفه أبله، ولكنه يسعى رغم ذلك، وبكل الوسائل ومنها التزلفللصهاينة، إلى استعادة مكانته في حزبه، وربما إلى ترشحه لرئاسة الجمهورية فيانتخابات عام 2012! ما يثير مسألة "المقلب" الذي يبتلعه بعض السياسيين حين يعجزونعن تقييم أنفسهم ومعرفة حدودهم، وهو مرض شائع جداً لدى هذه الفئة من الناس فيالعالم كله، ولكن هذا أيضاً موضوع آخر).
 
وهناك طبعاً الأسماء التقليدية، ممنيقال لهم "الفلاسفة الجدد"، وعلى رأسهم الآفتان في السطحية، الآن فينكلكروت وبرنارهنري ليفي، وحشد من الفنانين من الدرجة الرابعة، وأخيرا سكرتير حملة النداء اليهودي (أو "جي كول")، الذي صُور عند صدوره، مثله مثل نداء "جي ستريت" الأميركي، على أنهخطوة إيجابية باتجاه السلام، بل دعا بعض الكتاب العرب إلى تبنيه على هذا الأساس!

ما يهمنا من ذلك كله، عدا العلم بالشيء، هو إدراك مبلغ وهن إسرائيل رغمامتلاكها لرؤوس نووية ولأسلحة فتاكة بالتأكيد، واستعدادها لاستخدامها بشكل متفلت منأي خشية من عقوبات، وبشكل وحشي بلا رادع ولا حدود، وبرغم تمتعها بتأييد القوىالعالمية النافذة، لتلاقي المصالح، وبرغم ابتزازها العالم بمعاناة اليهود، وبوقوعالمحرقة، فقد كفى أن تنطلق حملة شعبية عالمية تطالب بمقاطعة إسرائيل وبسحبالاستثمارات منها وبمحاسبتها، وتسعى إلى ذلك عبر أشكال مفتكَرة وذكية ومنهجية منالنضال، حتى تولول هذه الأخيرة وتستنفر أتباعها. علماً أن الحملة تلك تقوم علىأكتاف مناضلين ومناضلات من أرجاء العالم، يتبرعون بوقتهم وجهدهم وذكائهم، بلاإمكانات مادية على الإطلاق ـ مما يجعل كل عمل يقومون به أشد صعوبة، فخذ مثلا ماذايعني طبع ملصقات جميلة، تكلف بضعة آلاف من اليورو، غير المتوفرة، فيستعاض عنها بجمعما في الجيوب، وبملصقات أقل إتقاناً لأنها أزهد ثمناً، أو بمناشير عوضاً عن الملصق،وهكذا...).
 
تجن إسرائيل لأن الحملة تميز بينها وبين اليهود، الذين تصادر هذهالأخيرة تعسفياً النطق باسمهم، وباسم الاضطهاد التاريخي الذي لحق بهم، وهو بند واضحموجود في الشرعات التي بلورتها الحملة في كل مكان، وحتى في الدعوة الأصليةللمقاطعة، الصادرة عن الهيئات الأهلية الفلسطينية.
 
وتجن اسرائيل لأن هناك يهوداً فيحملة المقاطعة: هيئات كاتحاد المنظمات اليهودية الأوروبية للسلام، وشخصيات كثيرة هيأعمدة في بلدانها، إلى حد معبر نكتفي منها بذكر الأستاذ الجامعي البريطاني وأحدمؤسسي منظمة ماتزبن اليسارية المناهضة للصهيونية في السبعينيات، حاييم برشيت،والسينمائي الاسرائيلي إيال سيفان، وحقوقيين بريطانيين، وغيرهم في الولايات المتحدةوكندا وكل أوروبا. ويقف اليوم في مقدمتهم ستيفان هيسيل، وهو من معالم فرنسا، لأنهكان من أقرب رفاق ديغول إليه وأبرزهم، وواحد من قلة قليلة من بينهم ما زالت على قيدالحياة، ولأنه كان سفيراً لفرنسا الى الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانيةمباشرة، ولأنه أحد محرري الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، ولأنه كان معتقلاً فيمعسكرات الاعتقال النازية، ولأنه يهودي من أصل ألماني!
 
هذا العَلَم يؤيد حملة ال BDS بلا تحفظ! وقد جنت إسرائيل والمنظمات الصهيونية من موقفه هذا، فلم تتورع عنالقيام بحملة بذيئة ضده، من اتهامه بالخرف لتقدمه بالسن، إلى دعوة البعض من أصواتهالـ"سحق رأس الأفعى السامة" الذي يمثله... هكذا حرفياً على لسان الكاتب تاغييف، وعلىأثير إحدى الإذاعات الفرنسية.

ألا تستدعي هذه الوقائع التفكير بهشاشة إسرائيل،وهي هشاشة خطرة قد تدفعها لارتكاب أعمال إجرامية كبرى، وإن انتحارية. وهذا اتجاهمتزايد القوة اليوم في الطبقة السياسية وحتى العسكرية الحاكمة في تل أبيب، وهو نتاجتحول في نشأة هذه الأخيرة وفي مكوناتها، يزيد منسوب الجنون الذاتي فيها على حسابالخدمة الوظيفية للغرب الذي أنشأها.
 
ولكن العامل الأهم والأعمق هو ما يمكن تسميتهبدقة بوصول المشروع الإسرائيلي إلى نهاياته واصطدامه بحدوده التاريخية. لا بد منإدراك ذلك من أجل النجاح في تعيين المتوقَع، وهو إدراك غير ممكن ما لم يتم التحررمن دراسة ما يجري على المستوى الفوقي في الساحة الدولية، والتنبه إلى الوقائعالمتسارعة على المستوى الشعبي والعام لأرض الصراع.
"السفير"

التعليقات