13/11/2010 - 11:09

المسألة الأميركية../ جميل مطر

-

المسألة الأميركية../ جميل مطر
كانت الإمبراطورية العثمانية في مرحلة من مراحل صعودها طرفا في معادلة ميزان القوى الدولية. كانت لاعبا رئيسا في وسط أوروبا وشرقها، وفي أقاليم الجزيرة العربية وشمال الخليج والمشرق والبحر الأحمر ومعظم شمال افريقيا. ولم تبدأ قوتها وبالتالي مكانتها في الانحسار إلا في أواخر القرن الثامن عشر. حدث هذا عندما اجتمعت عناصر كثيرة، أغلبها سلبي. كان واضحا، على سبيل المثال، أن الامبراطورية تحولت في سياستها العسكرية من الاعتماد على مبادئ التوسع والغزو إلى التزام عقائد الدفاع وحماية الخطوط الخلفية للامبراطورية، وكان معروفا ان الأحوال الاقتصادية في شتى البقاع الخاضعة للسلطة، وبخاصة في الأناضول قد تدهورت لأسباب كثيرة، ليس أقلها شأنا الاعتماد على أجانب في إدارة شؤون الولايات ومواقع العمل اليدوي، والفساد التي استشرى في كافة قطاعات الحكم، والوجود المتزايد للاستعمار الغربي في آسيا والممرات الدولية وفي داخل المنطقة العربية الإسلامية.

من ناحية أخرى، كان بدء التدهور إشارة واضحة لكافة القوى الاستعمارية لتتسابق على ممتلكات وأقاليم تخضع لنفوذ السلطة، وللحصول على امتيازات.

كان حلما وتحقق. وما كان يمكن أن يستمر حلما بعد أن تحقق. وقد يكون الإصرار على الاحتفاظ بالحلم هو السبب الذي جعل العثمانيين في القرن التاسع عشر أصحاب مزاج يغلب عليه الاكتئاب، ويسيطر عليه القلق على المستقبل، واليأس من إمكان النجاح في مواجهة موجات التغيير التي كانت تكتسح اوروبا الغربية.

أكاد، مزودا ببعض الخيال، أتصور حال الامبراطورية الأميركية وقد صارت كحال الامبراطورية العثمانية في أواخر عقودها. وأكاد مدفوعا بالحرص والواقعية أؤكد أن أميركا في أزمة خطيرة ومفتوحة على احتمالات شتى. وقد يبدو للكثيرين من متابعي الجدل الدائر في أميركا أن الرئيس أوباما مسؤول عنها، ولعله بالفعل مسؤول، لكن يجب علينا في كل الأحوال، أو على الأقل على أمثالنا من الذين لم يتوقعوا نجاحا مذهلا لرئيس أسمر في البيت الأبيض، أن نعترف بأنه لم يتسبب في صنع أزمة، بقدر ما كان وصوله إلى السلطة دليلا على وجود أزمة عويصة في الولايات المتحدة.

أفهم النقد الموجه إلى أوباما لأنه قدم وعودا كانت أكبر من قدراته، ولم تأخذ في اعتبارها ظروفا دولية وإقليمية عدة. لم تكن خطة حكيمة الالتزام برعاية صحية شاملة وعمالة للجميع وحياة كريمة لكبار السن، مع الاستمرار في نهج التوسع الامبراطوري في الخارج، في وقت تئن أميركا فيه من ضربات أزمة اقتصادية هي الأعظم منذ ثمانين عاما.

أفهم أيضا انتقاد الكثيرين، وعلى رأسهم بول كروغمان الاقتصادي الليبرالي الشهير للرئيس أوباما لتمسكه بإصرار بأسلوب السير بحذر في أي اتجاه ونحو أي هدف. البطء والتردد والتروي، سلوكات تفيد في أوقات رخاء مستقر وسلام خارجي، لكن كلها سلوكات تضر أبلغ ضرر في حالة مجتمع تمسك بخناقه مشكلات عديدة، ويشن حربا «شبه عالمية» في أفغانستان والعراق، وحروبا شتى في افريقيا.

أفهم كذلك غضب قطاعات في النخبة على ما اعتبرته سلوك تعالٍ وتكبر من جانب أوباما في التعامل مع خصومه في الداخل، ورأينا غضبا مماثلا للسبب نفسه من سياسيين أوروبيين.
 
أتفق مع مورين دود الكاتبة في نيويورك تايمز عندما تقول إن الخطأ الأكبر الذي وقع فيه أوباما ودفع ثمنه غاليا كان حين خصص موارد مالية هائلة لإنقاذ كبار رجال الأعمال والشركات والبنوك من الانهيار، ولم يخصصها لمشروعات صغيرة الحجم توفر عمالة أكبر ونشاطا اقتصاديا أقوى. لم تقل مورين دود إلا نصف الحقيقة. هي لم تكتب مثلا عن أن هؤلاء الكبار من رجال الأعمال والشركات، هم الذين تحالفوا لتمويل أنصار تيار حزب الشاي والمتطرفين من مرشحي الحزب الجمهوري.

أخطأ أوباما، ولعله معذور، حين ترك غالبية الناس في أميركا وخارجها يحلمون بالتغيير.
ربما تصور أوباما أن مجرد الوعد بتغيير سياسات الرئيس بوش هو أقصى ما يحلم به الناس، بينما الحقيقة كانت أن الأميركيين وشعوبا أخرى منها العرب، انتظروا تغييرا أعمق وأشمل. لذلك وقعت خيبة الأمل العظمى لدى الأميركيين، ولدى شعوب أوروبا، ولدى العرب بشكل خاص.

لم يكن خافيا أن أوباما في مرحلة من المراحل كان يعتقد أنه سيحدث تغييرا في العالم وليس فقط في أميركا. ولم يكن خافيا على مراقب كثير التجوال أن العالم كان بدوره ينتظر أن يغيره أوباما. وعندما خاب الأمل تجلى بأقصى درجة من الوضوح حجم "المسألة الأميركية".

أميركا ليست في حال تتطابق وحال الامبراطورية العثمانية عندما أصيبت بأمراض الشيخوخة. وأوباما ليس الرئيس الفاشل تماما أو غير المؤهل للمنصب والمرحلة. ومع ذلك فأميركا ليست بعيدة جدا عن احتمالات الانحدار السريع ومسؤولية أوباما عن تسريع هذا الانحدار، أو على الأقل كشف أبعاده، وفي الخارج وعلى اتساع العالم تشترك عوامل في صنع بيئة حاضنة للانحدار الأميركي. كثيرة هذه العوامل الخارجية ومنها:

أولا: تعدد متوال للقوى الصاعدة وقد تأكد أن بعضها، وبخاصة الصين، يسحب في صعوده من أرصدة القوة الأميركية، وبعض آخر مثل الهند تشكل في صعودها ضغوطا على قدرة أميركا الاستراتيجية في آسيا أكثر مما تضيف إليها، وأخرى مثل البرازيل تجر في صعودها قارة بأكملها، كانت إلى عهد قريب جزءا من امبراطورية أميركية عتيدة، ومصدرا من مصادر قوتها وعنفوانها، حين كان حقا لها أن تمنع الأوروبيين وغيرهم من الاقتراب من هذا النصف من الكرة الأرضية.
 
ثانيا: لم تعد القيادة السياسية الأميركية تتمتع بمزايا مطلقة أو نسبية كانت تحسدها عليها الدول الاستعمارية الأوروبية. كانت الجغرافيا تحرس أميركا وتشارك في صنع تاريخها وتحمي توسعاتها الامبريالية، كانت الجغرافيا رصيدا لأميركا لا تتمتع بمثله دولة أخرى. وتشاء الصدف، أو عبقرية الجغرافيا، ان تؤدي الى انحسار دور العامل الجغرافي، شاهدناه ينحسر في 11/9 وما بعدها ونشاهده متسرعا منذ يوم وقعت فيه بريطانيا وفرنسا حلفهما العسكري خلافا لمنطق التاريخ، أقصد تاريخ العامل الجغرافي. لقد تأكد للكافة بدون شك أن أراضي الولايات المتحدة وأجواءها لم تعد حصنا حصينا تعتمد عليه بنية الامبراطورية ودفاعاتها، وأنها كي تحافظ على فلول امبراطوريتها الشاسعة يتعين عليها أن تبحث عن حصون أخرى بديلة للموقع الجغرافي الفريد.
 
ثالثا: كانت الاستثنائية الأميركية أقرب شيء ممكن للاستثنائية التي قامت على أكتافها الامبراطوريات الأيديولوجية والدينية مثل الامبراطورية العثمانية. الاستثنائية وعي خالص يختلط فيه الدين بالحلم بالعنصرية بالتطرف. كتبت سارة بالين، المرشحة دائما لمنصب الرئاسة أو نائب الرئيس في موقعها على الفيس بوك ما معناه أن الوقت حان لإنقاذ الاستثنائية الأميركية من رئيس لم يؤمن بها.

رابعا: لم يعد ممكنا أن تزعم النخبة الحاكمة الأميركية التمسك بأصولها العرقية المنتسبة لجنس أبيض وبروتستانتي العقيدة، فقد حدث لأميركا ما حدث لامبراطوريات عديدة تجنست بجنسيتها أقليات عرقية عديدة، ووصلت إحداها إلى مراكز القرار السياسية وإدارة شؤون الامبراطورية. حدث بالفعل في أميركا أن سيطرت جماعة من قادة اليهود سيطرة تكاد تكون تامة على شؤون الامبراطورية وصاروا يديرونها لمصلحتهم في الداخل ومصلحة إسرائيل في العالم بأسره.
 
كان مارتين لوثر كينغ يقول إن المظلومين يحمّلون من يضع فيهم أملا مسؤولية خيبة الأمل إذا لم يتحقق الأمل. هكذا ينتقل كره المظلومين للظالم إلى كره المسؤول عن زرع الأمل. شيء من هذا يفسر ظاهرة كره الشعوب لأميركا، رغم أنها قد لا تكون السبب في الظلم الواقع على هذه الشعوب.
 
لقد دأبت أميركا على تقديم نفسها لشعوب العالم كنصير لها ومدافع ضد الظلم والقمع والاستعمار والاستبداد، وعندما عجزت عن نصرتها أو الدفاع عنها أو تواطأت مع الظالمين انتقل الكره لها. أكاد أرى أوباما نفسه يحتل هذا المكان بعد أن رفع مستوى الأمل عند الفلسطينيين والعرب والمسلمين عموما، ولم يفعل شيئا يذكر، بل ترك الأمور تزداد سوءا. لا يهم في هذه الحالة أن يكون أوباما وعد ولم ينفذ، أو أن أميركا منهكة ومرتبكة، أو أنها أصيبت بداء تصلب الشرايين، بحسب تعبير جوناثان رابان الكاتب في جريدة الغارديان البريطانية. المهم هو أن الكره سيتوجه إلى من وعد ولم ينفذ، وهو في حالتنا العربية سيتوجه إلى أميركا وليس إلى المسؤولين العرب لأنهم، والحق يقال، توقفوا تماما منذ زمن عن تقديم الوعود أو التعهدات.
 
راقبوا وتابعوا جيدا تفاصيل رحلة باراك اوباما في آسيا وقمة العشرين في كوريا الجنوبية وقمة دول آسيا والباسيفيكي، ففي هذه التفاصيل ستتجلى حقيقة "المسألة الأميركية". 

التعليقات