20/11/2010 - 10:24

عن تَخيُّل التسوية في الواقع الفلسطيني../ ماجد كيالي

-

عن تَخيُّل التسوية في الواقع الفلسطيني../ ماجد كيالي

واقع ما بعد الاحتلال ليس بالضرورة أفضل من سابقه

تعاملت القيادة الفلسطينية مع مسيرة التسوية، منذ انطلاقتها قبل ما يقارب عقدين، بذات الطريقة الرغبوية والإرادوية والعفوية التي تعاملت فيها مع مسيرة المقاومة، ما أوصل هذه إلى ذات النتائج البائسة والمكلفة التي وصلتها سابقتها.
 
وقتها لم يكن لدى الفلسطينيين جاهزية لعملية المفاوضات، التي انبثقت من رحم المتغيرات الدولية والإقليمية (مطلع التسعينيات)، فلا موازين القوى مؤاتية، ولا الظروف العربية والدولية مناسبة، والفلسطينيون ذاتهم كانوا في حال بائسة من الاختلاف والانقسام والضياع؛ بعد أن تهمش دورهم وتآكلت إطاراتهم. أيضا، لم يكن ثمة جاهزية لا على مستوى إعداد الملفات، ولا على مستوى تهيئة المفاوضين، لا على صعيد جسمهم التشريعي في هيكليتهم القيادية، ولا على صعيد بيئتهم الشعبية. الأنكى من ذلك أن القيادة الفلسطينية انخرطت في مسيرة تفاوضية لا مرجعية لها، وحتى دون معرفة النتيجة المتوخاة منها!
 
بالمحصلة فقد أدت هذه الأوضاع، المعطوفة على جوع الفلسطينيين المزمن لوطن، وتوقهم لكيانية سياسية تنظم أوضاعهم وتعزز هويتهم، إلى تخيّل تسوية منصفة نسبيا، تعيد لهم أرضهم المحتلة (عام 1967)، وتقيم لهم دولة يترجمون فيها حقهم بتقرير مصيرهم عليها (أسوة بالكيانات العربية القائمة)، ما يريحهم من واقع التشرد ويحررهم من وطأة علاقات الوصاية والاعتمادية المذلة في الواقع العربي القائم.
 
ولعلنا نتذكر الآمال الكبار، التي داعبت مخيّلة البعض، في مراحل "ازدهار" اتفاق أوسلو (1993ـ2000) بشأن الانتهاء من الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية متميزة ومزدهرة، بواقعها التعليمي والاقتصادي والديمقراطي، إلى حد أن ثمة من ذهب إلى الحلم بإمكان تحول الكيان الفلسطيني إلى "سنغافورة" جديدة في الشرق الأوسط. لا بل إن احد كبار المفاوضين الفلسطينيين (بدون تسمية!) كانت أخذته لحظة "العزة"، في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر مدريد (1991)، فاحتل مقعدا قبالة مقعد اسحق شامير (رئيس حكومة إسرائيل الأسبق)، فقط ليغيظه باعتماره الكوفية المرقطة، وبحركات من حاجبيه (بحسب رواية شخصية منه تفاخر بها على إحدى قنوات التلفزة!)؛ ومعلوم أن شامير هذا كان وقتها توعد الفلسطينيين بمفاوضات تستمر عشرات السنين؛ وهذا ماحصل برغم غمزات كبير مفاوضينا!
 
بالنتيجة فإن التخيلات تبقى تخيلات، إن لم يكن ثمة ما يسندها في الواقع، وهذا ماحصل، حيث ليس فقط لم يتحول الكيان الفلسطيني إلى "سنغافورة"، بل إنه لم يبلغ مرحلة الكيان السياسي بمعنى الكلمة، وكل ماحصل أن إسرائيل نجحت بالتحرر من عبء الاحتلال (المادي والأمني)، وبتحويل الأراضي المحتلة (عام 1967) إلى أراض متنازع عليها، أي أنها فرضت شرعية قيامها في مناطق 48، وتجاوزت ذلك إلى مصارعة الفلسطينيين على أرضهم في الضفة. وهذه ملاحظة ذكية انتبه إليها هنري سيغمان (يهودي ـ أمريكي)، في مقال كتبه مؤخرا، وبيّن فيه كذب إسرائيل التي استدرجت الفلسطينيين، للتنازل عن أراضيهم المقررة لهم بموجب قرار التقسيم (181)، في حين إنها لم تبد من جهتها أي تنازل في مجال الأراضي، بل إنها نازعت الفلسطينيين على أراضيهم في الضفة.
 
وقد اتضح مع الزمن بأن القيادة الفلسطينية كانت تعاملت باستهتار مع عملية التسوية، بظنها أن إسرائيل متلهفة لها، وبظنها أن الولايات المتحدة ستدعم ذلك، في تجاهل لطبيعة إسرائيل، ولحقائق العلاقات والتجاذبات السياسة الدولية. فضلا عن كل ذلك، لم يكن لدى القيادة السائدة مراكز لصنع القرار، ولم يكن ثمة من يراقبها أو يحاسبها، لا هيئات قيادية، ولا إطارات شعبية، ماجعلها متحررة ومتساهلة في قراراتها؛ في واقع كانت تستمد فيه شرعيتها من تاريخها الوطني، ورمزيتها الكيانية، ومن علاقاتها العربية والدولية، لا سيما إنها كانت تعتمد في مواردها على الخارج، أكثر مما تعتمد على شعبها.
 
وقد بلغت التوهمات عند بعض القياديين الفلسطينيين حد المراهنة على الزمن، وكأنه يلعب لصالحهم فقط، أو لكأنهم يجهدون لإعداد العدّة له، وكانت ردودهم على ثغرات اتفاق "أوسلو" مليئة بالغرور والتبجّح (والجهل)، بادعاء أن لهم "قراءتهم" الخاصة لهذا الاتفاق! والنتيجة المرّة أن القراءة الإسرائيلية هي التي فرضت نفسها على الأرض، بحكم تفوّق إسرائيل في كل المجالات، وقدرتها على التحكم وفرض الوقائع، وهو ما تجلى بتفشّي الاستيطان وبمحاولات تهويد القدس، وبتقييد الكيان الفلسطيني، ثم بالجدار الفاصل والحواجز، وبالانسحاب الأحادي من قطاع غزة وحصاره، وبتكريس السيطرة الأمنية والاقتصادية على الضفة.
 
المشكلة أن المفاوضين الفلسطينيين كانوا يظهرون على شاشات التلفاز، بأبهى حللهم، يتبادلون المصافحات والابتسامات والأحاديث الحميمة مع الإسرائيليين، دون اعتبار مشاعر شعبهم ومعاناته، على المعابر والحواجز وفي مواقع الاستيطان، ودون ملاحظة أن ما تفعله إسرائيل يوميا يكرس الاحتلال ولا ينهيه. وقد فات المفاوضون الفلسطينيون، في حمأة حماستهم، إلى أن الأوساط الإسرائيلية المؤيدة لعملية التسوية (بخاصة أوساط حزب العمل) إنما تتوخّى فصل إسرائيل والتحرر من عبء الاحتلال، وإزاحة الفلسطينيين من المشهد الإسرائيلي، لغايات ديمغرافية عنصرية، لا لمنحهم الاستقلال وتقرير المصير.
 
هكذا يبدو أن التجربة الفلسطينية تثبت بدورها بأن واقع ما بعد الاحتلال ليس بالضرورة أفضل من سابقه، مع التأكيد على أهمية التخلص من الاحتلال، والتحرر منه!
 
ليس القصد من ما تقدم تخطئة خيار التفاوض، وإنما لفت الانتباه إلى انه كان ثمة خيارات أخرى، منها ترك الأمر لوفد فلسطينيي الداخل لخوض هذه التجربة واختبارها. وثمة خيار يتمثل بعدم التماهي بين المنظمة والسلطة، وترك كل كيان يعمل في مجاله وبحسب دوره، في إطار تعاضدي وتكاملي. وبالتأكيد كان ثمة إمكانية لأن يكون الوضع أفضل حالا مما هو عليه، فيما لو تمت إدارة الوضع الفلسطيني بطريقة ناجعة ومسؤولة، بعيدا عن العقليات الفصائيلية والمزاجية.
 
مع ذلك فإن سؤالا من نوع: هل كان يمكن للوضع الفلسطيني أن يكون أحسن حالا بدون خيار المفاوضات؟ يبقى برسم التاريخ، ولا يمكن الإجابة بطريقة شافية عليه، ولكنه يبقى سؤالا مشروعا وملحاً.
 
ويمكن تصور أنه بدون خيار المفاوضات كانت إسرائيل ستظل دولة احتلال وتمييز عنصري، وربما أن وضع الفلسطينيين في مقاومتها قد يكون أفضل، وأكثر تحررا، بحسب تجربة الانتفاضة الأولى. كما يمكن التصور، أيضا، بأن صراع الفلسطينيين مع الإسرائيليين في تلك الظروف قد لا يقتصر على حجم الأراضي، والتخلص من الاحتلال فقط، وإنما هو على الأرجح قد يشمل فلسطين التاريخية وطبيعة النظام الإسرائيلي ذاته؛ أي انه ربما اتخذ أبعادا تحررية وإنسانية وديمقراطية.
 
ولعل هذا المسار هو ما تخشاه بعض الأوساط الإسرائيلية، التي مازالت تحذر من أن انغلاق حل الدولتين قد يهدد بتكريس إسرائيل أمام العالم كدولة عنصرية وأصولية، كما قد يهدد بتحولها إلى دولة واحدة لشعبين ("ثنائية القومية")، ربما بحكم الواقع، وفي مرحلة لاحقة بحكم القانون والنظام، ضمن مسارات دولية ومحلية معينة.

التعليقات