21/11/2010 - 12:02

إسرائيل ستنهار إذا طبقت المساواة../ عوض عبد الفتاح

-

إسرائيل ستنهار إذا طبقت المساواة../ عوض عبد الفتاح
إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي إذا تبنّت وطبقت المساواة الكاملة أو المواطنة الكاملة لمواطنيها ستنهار. هذا ما يستشفّ من أيدلوجيتها وما يوحي به قادتها ونخبها من اليمين ومن اليسار (الصهيوني). إن فرادة إسرائيل ناجمة، ليس لأنها واقعا كولونياليا، فهناك كيانات أخرى في العالم قامت على الاستيطان أوالكولونيالية في أوطان تسكنها شعوب أصلية، كالولايات المتحدة الأميركية وأستراليا وغيرها، إنما لأنها تقوم على ادعاءات "توراتية – دينية" و"وعد الهي لشعب مختار".

هذه الادعاءات ومعها هذا "الوعد" تشكل مصدرا أساسيا للتشريع ولوجود الكيان اليهودي الصهيوني. أما قيم الحداثة كالديموقراطية والمساواة التي حملتها الحركة الصهيونية إلى فلسطين من القارة الأوروبية، باعتبارها حركة أوروبية في الأساس، فقد جاءت لتخدم الأكثرية اليهودية والمشروع الصهيوني لا غير. ومن أجل تطبيق هذه القيم الحديثة، وتسويق الكيان الجديد ككيان ديموقراطي يحظى بالشرعية من الغرب وبالتالي بالدعم المالي والسياسي والاستراتيجي، كان لا بدّ من ضمان أكثرية يهودية ساحقة. ولكن كيف؟ عبر الطرد والتهجير. ومع ذلك برزت الحاجة من جديد لتأكيد يهودية الدولة وللاحتفاظ بالامتيازات الخاصة التي يتمتع بها المستوطنون اليهود على حساب المواطنين العرب. هكذا وضعت الحركة الصهيونية نفسها منذ البداية في تناقض صارخ مع فكرة المساواة والديموقراطية الغربية.
 
لم يتخيّل قادة الحركة الصهيونية عند إطلاق فكرة الوطن القومي لليهود، ولا حكام إسرائيل حين احتفوا بإعلان الدولة اليهودية في الرابع عشر من أيار 1948، أي دولة المهاجرين اليهود ودولة يهود العالم، أن هذه الفكرة ستصبح بعد ستة عقود من إقامة إسرائيل، مدعاة للتشكيك بمجمل المشروع الصهيوني وبجوهره العرقي.
 
منذ سنوات تتعرض فكرة الدولة اليهودية لهجمات متتالية، ومحاججات غير مسبوقة، بعد أن كان احتلالها للأرض المحتلة عام 1967 محور الاهتمام العالمي واهتمام أوساط صهيونية ليبرالية، كان ولا زال هدفها التغطية على مخطط التطهير العرقي الذي نجم عن إقامة إسرائيل في إقليم عربي فلسطيني، عبر استخدام القوة العسكرية وارتكاب المذابح.

بالنسبة إلى العالم الغربي، كانت المعادلة مفهومة وبسيطة؛ حركة قومية يهودية تقيم دولتها أو وطنها في أرض احتلها الغرب في إطار حركة الاستعمار العالمي، وتحت راية "التنوير الأوروبي لشعوب الشرق الهمجية".

أما بالنسبة إلى الفلسطينيين والعرب، المعادلة بسيطة أيضاً ولكن بمفهوم معاكس؛ حركة استعمارية تحتل الأرض وتشرّد الشعب ولا بدّ من التصدّي لها ودحرها.

بعد احتلال بقية فلسطين عام 1967 وما ترتب على ذلك من تبدل في خطاب التحرير وتبنّي الدولة المرحلية والانزلاق الى هاوية أوسلو وما تخلل هذه الحقبة من انهيارات عالمية وعربية وفلسطينية، انزلق الخطاب السياسي العربي والفلسطيني الرسمي الى خطاب نزاع على حدود بين دولتين قائمتين، دولة قائمة هي إسرائيل ودولة افتراضية هي فلسطين.

لقد بدت هذه المرحلة لاسرائيل ذهبية، بل هناك من توّج الصهيونية بالنصر خاصة بعد اتفاقية أوسلو سنة 1993، إذ ان قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية اعترفت بإسرائيل كدولة يهودية مع ما يترتب على ذلك من إسباغ الشرعية على الرواية الصهيونية. كان هذا الاعتراف يعني ضمنًا الاعتراف بيهودية الدولة. لم تكن إسرائيل آنذاك بحاجة لتشترط هذا الشرط للتوقيع على اتفاق مع القيادة الرسمية للمنظمة.
هكذا استطاعت اسرائيل طيلة عشرات السنين أن تنجح في مواصلة عرض صورتها أمام المجتمع الدولي المتهادن، كدولة ديموقراطية من دون أن يتصدى لذلك إلا الأصوات الراديكالية القليلة التي لم يكن يسمعها أحد. لقد عومل احتلال الضفة الغربية والقدس والقطاع (22% من فلسطين)، كحالة موقتة وباعتبارها حالة خارجية للدولة اليهودية. وحين يزول الاحتلال تعود إسرائيل إلى حالتها الطبيعية التي كانت قائمة بين عام 1948 وعام 1967، وهي حالة كانت طبيعية فقط في نظر من ساهم في إقامتها ودعمها بالسلاح والسياسة والمال. وقد ساهم العجز العربي والتواطؤ العربي الرسمي، والانتصارات الاسرائيلية في تغذية هذا الوهم أو هذا التشويه للحقائق.

الآن تنكشف إسرائيل على حقيقتها أمام أوساط واسعة من المجتمع الدولي، وبشكل خاص أمام المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، وأصبح من المتعذر الدفاع عن الصورة الوهمية لإسرائيل، ويعترف بذلك الاسرائيليون أنفسهم خاصة العاملين في بوقها الإعلامي. لقد ساهمت إسرائيل بسلوكها الأرعن، وبرفضها مبادرات السلام العربية، وبعدم احترامها لاتفاقية أوسلو، حتى المذلة للفلسطينيين، وبحروبها الوحشية وعدم احترامها لقواعد الحرب المعترف بها عالميًا، في الوصول إلى الحالة التي تعيشها.
 
ماذا تعني الدولة اليهودية لعرب الـ48
 
إعلان إسرائيل نفسها دولة يهودية ليس نصًا في وثيقة استقلالها فحسب، بل هو مصدر مجمل السياسات الإسرائيلية المعادية للشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده. لم تكن الدولة اليهودية لتقوم من دون تنفيذ تصفية لأهالي البلاد الأصليين أو لجزء منهم. الحركة الصهيونية ليست حركة استعمارية تقليدية تهدف الى السيطرة على موارد البلاد وتحويل البلد المستعمر إلى سوق لفائض منتوجات الرأسمالية الاستعمارية، بل إن خطتها منذ البدء تصفية الوطن الفلسطيني. ولذلك يُقال إن عرب الداخل، الفلسطينيين داخل اسرائيل، وكذلك اللاجئين هم ضحية يهودية الدولة وضحية ديموقراطيتها. عرب الـ48 جزءان؛ الجزء الأول هم الذين بقوا في الوطن ويحملون المواطنة الاسرائيلية، والجزء الثاني هم اللاجئون أبناء شعبهم وأقربائهم.
 
إن الحركة الصهيونية، وحكام الدولة العبرية أصرّوا على أن تكون إسرائيل دولة ديموقراطية حتى تتجنب إقامة نظام فصل عنصري سافر (أبارتهايد). ولم يكن ذلك ليتم إلا عبر طرد أكثرية العرب الذين بقوا في حدود الـ48. فتمّ طرد 80% منهم، وهكذا حققت اسرائيل أكثريتها اليهودية الحاكمة ليس عبر صيرورة طبيعية بل عبر سفك دماء السكان الأصليين، وخفض عددهم حتى لا يشكلوا تهديدًا أو عاملاً مزعجًا ليهوديتها. كان قادة الحركة الصهيونية بحاجة إلى الظهور أمام الغرب الداعم لهم بمظهر أصحاب رسالة تنويرية، وأنهم جزء من العائلة الديموقراطية لأوروبا.

إذًا الدولة اليهودية بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني تعني الطرد والتهجير والقتل وهدم الوطن بأكمله. ذلك تغاضى عنه حلفاؤها في الغرب والشرق، وقبلوا ادعاءات الحركة الصهيونية القائلة بأن ذلك كان دفاعًا عن النفس في وجه العرب الذين رفضوا قرار التقسيم في سنة 1947.

لم تصل مفاعيل الانتفاضة الأولى الفلسطينية السلمية عام 1987 التي أسقطت أكذوبة  "الاحتلال المتنور" في الأراضي المحتلة عام 67، إلى تناول جوهر الدولة اليهودية. فظل النقاش أو التداول، لفترة سنوات مع ذلك، مقتصرًا على ضرورة أن تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة أو من أغلبها. وجاء اتفاق أوسلو منسجمًا مع هذه الحالة وظروفها ومتطلباتها.

يعود ذلك إلى عدم وصول النخب الفلسطينية إلى معرفة الفكر السياسي الحديث، فكرة الدولة الوطنية والديموقراطية، فكرة التناقض بين الديموقراطية والدولة الدينية ـ دولة الـ"هلاخا" أو الشريعة.

لقد تبيّن فيما بعد لدى جزء من النخب الفلسطينية داخل "إسرائيل"، أهمية إبراز التناقض بين يهودية الدولة وديموقراطيتها. كان من المفترض أن يتنبّه اللاجئون أو حركات العودة إلى خطورة أوسلو وتبعاته على مصيرهم، ولكن ظروف اللجوء وإهمال القيادة لهم بعد أوسلو حالت دون ذلك. لكن بعد فترة وجيزة بدأت قضية اللاجئين تستعيد بعضًا من مكانتها عبر الناشطين الكثيرين.

وربما كان طبيعيًا أن أول من يتنبّه الى هذه المسألة ويستخدمها سلاحًا في محاججة الدولة العبرية وحلفائها هم فلسطينيو الـ48، ذلك انهم مستهدفون بشكل مباشر وكونهم يحملون المواطنة الاسرائيلية التي تُسهل لهم القيام بهذه المحاججة التي تلعب دورًا مهمًا في تحشيد هؤلاء الفلسطينيين ضد مخططات طمس هويتهم وتمزيقهم إلى طوائف وقبائل، وضد سياسات تهميشهم وإخراجهم من الدائرة الفلسطينية ودائرة الحلّ، وفي إسقاط الأوهام بإمكانية تحقيق المساواة والحقوق القومية من دون إسقاط الطابع الصهيوني لاسرائيل. لقد سرّع اتفاق أوسلو الذي تركهم وشأنهم عملية بلورة الخطاب السياسي الذي يتحدى يهودية الدولة، وهي عملية كانت قد بدأت تأخذ أبعادها الأولية في أواخر الثمانينيات على يد عدد من الأكاديميين الوطنيين والناشطين السياسيين.

لم تكتفِ الدولة اليهودية بضمان الأكثرية وامتيازاتها عن طريق التطهير العرقي بل عبر سن قوانين وتفعيل سياسات تهدف الى احتكار موارد الوطن وتهويد معالمه وتقييد حرية العمل السياسي.

ليست القوانين العنصرية التي تسنها الدولة العبرية أو التي تقترحها مؤخرًا أمرًا جديدًا. الجديد أن إسرائيل كانت متوقفة عن سن هذه القوانين منذ عام 1967، وعندما أدركت أن تلك القوانين التي سنتها منذ النكبة، ما عادت تكفي لردع العرب سياسيًا وديموغرافيًا تقوم الآن بوضع قوانين جديدة حتى تكون إجراءات تنفيذها مدعومة قانونيًا. كما أن النهج الذي اتبعه مؤسس دولة إسرائيل وأول رئيس لحكومتها، دافيد بن غوريون، ضد العرب، كان يعتمد على السياسات العامة بالإضافة الى القوانين. ولكن اليمين الاسرائيلي الذي ازداد قوة في العقدين الأخيرين يريد أن يحوّل هذه السياسات العنصرية إلى قوانين رسمية.
 
 
 
 
 
القلعة تسقط أخيراً
 
 
لقد اكتشف قادة إسرائيل بمن فيهم بعض من كان محسوبًا على اليمين وعلى معسكر الاستيطان، كشارون، انه ما عاد في الإمكان السيطرة على عرب الضفة والقطاع، وتحقيق فكرة أن الأردن هو الدولة الفلسطينية. وأدركوا ضرورة التضحية ببعض الجغرافية لحساب الديموغرافيا والديموقراطية (طبعًا الديموقراطية اليهودية). بكلمات أخرى قالوا بضرورة رسم الحدود النهائية للدولة اليهودية (دولة يهودية موسعة)، إلى جانب دولة بانتستونات فلسطينية.

إسرائيل تعتقد اليوم أنها تسيطر على الوضع في الضفة والقطاع، نسبيًا، عبر الحصار على قطاع غزة، وعليها أن تتفرّغ لعرب الـ48، والتعامل مع التحدي الذي يشكلونه. وتتراوح الحلول المقترحة بين الترانسفير أو نقل المواطنة إلى كانتونات الضفة وغزة، وبين إعلان الولاء لدولة إسرائيل كشرط للمواطنة.
الفلسطينيون في الداخل أعلنوا مواقفهم بصوت لا لبس فيه، وأصبح خطابهم السياسي كما اجترحه حزب التجمع الوطني الديموقراطي، عدم الاعتراف بيهودية الدولة والإصرار على الهوية القومية والمواطنة الكاملة وتحقيق حق العودة.

إن إسرائيل لا تدرك أنها عبر تشديدها على يهودية الدولة وتمرير قوانين عنصرية سافرة لا تقودها إلى الخروج من المأزق الأيدلوجي، بل توفّر سلاحًا للضحية ولأنصار الحرية في العالم لمواجهتها على الساحة الدولية التي أصبحت مؤخرًا تزخر بالنشاط والحركات والأصوات التي تطالب بمحاسبة إسرائيل على جرائمها، وتدعوها الى احترام حقوق الإنسان وقيم العدل.

إسرائيل تحاصر الفلسطينيين ولكنها تحاصر نفسها أيضًا داخل قلعة اسبارطية مسوّرة بالحواجز والجدران. والقلاع تسقط أخيراً.

التعليقات