30/11/2010 - 10:24

آن للفلسطينيين مغادرة العملية التفاوضية المذلّة../ ماجد كيالي

-

آن للفلسطينيين مغادرة العملية التفاوضية المذلّة../ ماجد كيالي
حقا لقد باتت عملية التسوية، بيد إسرائيل، مجرد ألعوبة، أو مهزلة، والمسؤولية في ذلك تقع على النظام الدولي، الذي تتزعمه الولايات المتحدة، بسبب عدم حسمه بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وعلى النظام العربي، بسبب ضعفه واختلاف إراداته، كما على الفلسطينيين بسبب تهافتهم، وتخلف إدارتهم لهذه العملية، ناهيك عن ارتهانهم لها، وغرقهم فيها.
 
هكذا، لم يعد الرأي القائل بأن التسوية (التي انطلقت من مؤتمر مدريد أواخر عام 1991) ليست سوى أوهام أو نوع من تحايل إسرائيلي على الواقع، مجرد وجهة نظر، وإنما حقيقة بيّنتها التجربة المعاشة، طوال عقدين من الزمن. وقد أثبتت هذه التجربة، أيضا، بأن التسوية التي لاتتأسس على تكافؤ (ولو نسبي) في موازين القوى، وفي المعطيات السياسية المحيطة، والتي لاتتأسس على معايير الحق والعدالة والحرية والسلام، لايمكن أن تسمى عملية  تسوية، ناهيك عن التجاوز، أو التزوير، المتعلق بتسميتها "عملية سلام"!
 
ولنكن صرحاء، بعد هذه التجربة المريرة والمكلفة، فإن إسرائيل لم تكشف حقيقة موقفها من التسوية للتو، أي بعد عشرين عاما، بعد أن قالت لا لإدارة اوباما (وجوائزها)، وبعد إقرار "كنيستها" قانون الاستفتاء بشأن أي انسحاب من الأراضي المحتلة عام (1967)، وعندما رفضت تجميد الاستيطان لأشهر قليلة، فهي كانت منذ البداية مكشوفة، لكن لمن يريد أن يرى أو لمن يريد أن يدرك.
 
فقد رفضت إسرائيل منذ البداية تعريف وجودها كدولة احتلال في الضفة وغزة، وأشهرت مقولة أن "لا مواعيد مقدسة"، للتملص من أي جدول زمني للتسوية، ورفضت العودة إلى ما قبل خطوط حرب حزيران (يونيو 1967). ومنذ البداية ميزت إسرائيل بين مستوطنات شرعية وغير شرعية، وأصرت على وحدة القدس تحت سيادتها، ورفضت الاستجابة لحق العودة للاجئين الفلسطينيين؛ أو إجراء أي مقاربة (سياسية أو مادية أو معنوية) تحملها المسؤولية عن ذلك. ومنذ البداية بدا أن إسرائيل تتجاوب مع عملية التسوية للتخلص مما تسميه الخطر الديمغرافي الفلسطيني، واستجابة لبعض متطلبات السياسة الامريكية، وفقط.
 
ومنذ البداية، أيضا، ظلت إسرائيل تتذرع بحساسية أوضاعها الداخلية، وسلامة ائتلافها الحكومي، ونظامها الديمقراطي، للتملص من استحقاقات التسوية، طالبة من العالم، والفلسطينيين، تفهّم "ظروفها"، ومتطلباتها أيضا! وبين حكومة وأخرى كانت تتملص، بحجة أو بأخرى، من اتفاقات التسوية، بدعوى إنجاز المرحلة الانتقالية، أو بدعوى الانتقال للمرحلة النهائية، وبدعوى أن الفلسطينيين ليسوا ثقة وإنهم لا يجلبون الأمن لإسرائيل، وأنه ليس ثمة شريك فلسطيني للتسوية، رغم كل ما قدم من تنازلات في اتفاق "أوسلو" المجحف.
 
الآن، لقد تجاوزت حكومة نتنياهو كل منطق، فبعد أن استجاب الفلسطينيون لمطلب أمن الاحتلال، باتت تشترط لعملية التسوية اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة يهودية، وقبول مواصلة أنشطتها الاستيطانية، واستثناء القدس من أي تجميد ولو مؤقت للاستيطان. ليس هذا فحسب، فثمة لإسرائيل اشتراطات أخرى للتسوية، من الأطراف الدولية والإقليمية، أيضا، ضمنها إغداق الولايات المتحدة الأمريكية المساعدات المالية والعسكرية عليها، والاعتراف بوجود أمني لها على الحدود الفلسطينية مع الأردن، والاستجابة لسياستها بشأن تشديد الطوق على إيران، أو توجيه ضربة عسكرية لمنشآتها النووية، ودفع العالم العربي لإقامة علاقات طبيعية معها؛ وكل ذلك من أجل مجرد تسوية مجحفة وجزئية ومنقوصة!
 
واضح أن حكومة نتنياهو بموقفها هذا ليس فقط لا ترى الفلسطينيين، ولا تأخذهم في اعتبارها، بل إنها لا تبالي بالعالم العربي، لا بمعتدليه ولا بممانعية ومقاوميه، بل إنها لا تبالي حتى بالمصالح الأوروبية ولا الأمريكية في المنطقة؛ فإسرائيل، كما قال اسحق شامير (رئيس حكومتها الأسبق)، ذات مرة، هي "نصف الشرق الأوسط"؛ داعيا الولايات المتحدة والعالم للاعتراف بتبعات ذلك.
 
وفي الواقع فإن إسرائيل ترى بأن مصالحها وسياساتها ورؤيتها لذاتها أهم من كل المصالح والاعتبارات الدولية والإقليمية. وهذه الدولة التي ترى في نفسها دولة يهودية أصولية، تستخدم الأساطير التوراتية لرسم خرائط المنطقة، على الضد من كل القوانين والمعايير الدولية. لا بل إن الأمر وصل حد أن هذه الدولة باتت لا تتورع عن استخدام الديمقراطية (والاستفتاءات الشعبية) من أجل تبرير وتشريع سياساتها الاحتلالية والعنصرية؛ وكأن الديمقراطية تبرر الاستعمار والعنصرية، وتحلل السيطرة على حياة شعب آخر وقهره بوسائل القوة!
 
السؤال الآن: وماذا بعد؟ ليس سؤالا نافلا، أو للمزايدة، وإنما هو سؤال جد واقعي فقرار الكنيست الإسرائيلي ليس بمثابة صفعة للفلسطينيين، فقط، وإنما هو أيضا بمثابة صفعة للنظام العربي (ومبادرته السلمية)، كما للدول الكبرى الراعية لعملية السلام. وإسرائيل توجه رسالة صلفة من خلال هذا التصويت في الكنيست مفادها أن بضعة مئات ألوف من اليهود من ناخبي أحزاب شاس (لليهود المتدينين) لزعيمهم الحاخام عوفاديا يوسيف، و"إسرائيل بيتنا" (لليهود الروس من المهاجرين الجدد)، لزعيمهم افيغدور ليبرمان، وعصابات المستوطنين ومتطرفي الليكود، هم وحدهم من يملكون تقرير مستقبل الشرق الأوسط، وتقرير مسألة الاستقرار والسلم فيه؛ غير عابئين بالمصالح الدولية وحتى الأمريكية، وعلى الضد من حقوق ملايين الفلسطينيين، ومعهم ثلاثمئة مليون من العرب.
 
إزاء كل ذلك على الفلسطينيين أن يدركوا بأنهم لوحدهم في مواجهة مصيرهم، فالنظام العربي (على علاته) لا يمكن أن يتحرك بدون موقف فلسطيني حاسم وواضح، والمجتمع الدولي لايمكن أن يتحرك بدون موقف عربي جدي وفاعل، معطوف على موقف فلسطيني مسؤول. فلا يمكن مطالبة الدول العربية بتوحيد موقفها إزاء قضية فلسطين، ووضعهم على هذه الدرجة من التناحر والتفكك والترهل، ولا يمكن مطالبة العرب والعالم بالضغط على إسرائيل في وقت تستمر فيه السلطة بالعملية التفاوضية، فضلا عن التنسيق الأمني مع الاحتلال.
 
آن الآوان للفلسطينيين أن يخرجوا من أحبولة المفاوضات، ومن شرك التحول إلى نوع من سلطة وكيلة عن الاحتلال، آن لهم أن يلتفتوا لأوضاعهم الداخلية، مهما كان الثمن، لسبب بسيط وهو أن الضعيف، الذي لايستطيع استعادة حقه بالقوة، لا يستطيع ذلك بداهة على طاولة المفاوضات.
 
المسألة ليست مسألة ذهاب إلى مجلس الأمن أو إلى الجمعية العامة أو مطالبة العالم بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، فثمة قرار مجلس الأمن (1397 لعام 2002) يدعم ذلك. لذا فإن المطلوب من الفلسطينيين إعادة بناء مجالهم الاجتماعي، وإعادة بناء حركتهم الوطنية، وتحرير سلطتهم من الارتهانات الإسرائيلية (وليس مجرد افتتاح مبنى جديد لمنظمة التحرير في رام الله).
 
ولاشك أن ذلك يتطلب، فيما يتطلب، العودة للشعب، وإعادة صياغة الشعار الوطني، من الصراع على مجرد دولة فلسطينية محدودة ومتوهّمة في الضفة والقطاع، أي من كونه صراعا عقاريا وجغرافيا، إلى الصراع على مستقبل فلسطين.
 
طبعا لكل شيء ثمن، لكن الفلسطينيين دفعوا ثمنا باهظا، من تضحياتهم وعمرهم ومعاناتهم، خلال عقدين من عمر مسيرة التسوية المزيفة، والأجدى لهم أن يدفعوا هذا الثمن في إطار عملية ذات طبيعة تحررية وديمقراطية وإنسانية؛ فهذا ما يوحدهم، ويعزز التعاطف الدولي معهم، ويسهم بعزل إسرائيل، التي باتت مكشوفة على طبيعتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية وقهرية، تعاند التاريخ والجغرافيا وحقوق الإنسان وقيم الحرية والعدالة والسلام.

التعليقات