03/12/2010 - 15:44

الكرملُ يحترق/ علي نصوح مواسي

الكرمل يحترق ببهائه وذكرياته ومذاقاته العذبة، وقلوبُ الاعلاميين الاسرائليين تحترق منذ أمس، وطوال ساعات البثّ، وهم يحاولونَ إصرارًا وتكرارًا الفوزَ ولو بتصريحٍ واحدٍ من أحد السّياسيين أو المسؤولين الامنيين الاسرائيليين، أو وحدات الاطفاء، تشيرُ إلى أنّ فعل الحرقِ تقف وراءه دوافع قوميّة سياسيّة، وبدا الأمر وكأنّهم منطلقون في حملةٍ فطريّةٍ غرائزيّةٍ تجريميّةٍ "للإرهاب" العربيّ، حتّى قبل السّيطرة على النّيران وإخمادها والبحثِ في الموضوع مهنّيّا.

الكرملُ يحترق/ علي نصوح مواسي

* الكرمل يحترق ببهائه وذكرياته ومذاقاته العذبة، وقلوبُ الاعلاميين الاسرائليين تحترق منذ الخميس، وطوال ساعات البثّ، وهم يحاولونَ إصرارًا وتكرارًا الفوزَ ولو بتصريحٍ واحدٍ من أحد السّياسيين أو المسؤولين الامنيين الاسرائيليين، أو وحدات الاطفاء، يشيرُ إلى أنّ فعل الحرقِ تقف وراءه دوافع قوميّة سياسيّة، وبدا الأمر وكأنّهم منطلقون في حملةٍ فطريّةٍ غرائزيّةٍ تجريميّةٍ "للإرهاب" العربيّ، حتّى قبل السّيطرة على النّيران وإخمادها والبحثِ في الموضوع مهنيًّا، فالأمر لديهم مفهومٌ ضمنًا ومؤكّد.

لم يخفّف من ألهبةِ غرائزيّتهم المندفعة المصرّة المؤكّدة، سوى عبقريّة أيّوب القرّا، الّذي تحوّل إلى عنوانٍ مركزيّ في الاعلام الاسرائيليّ لاتّهام "الارهاب" بإشعال النّيران، إذ هدّد وتوعّد وأعلنها حربًا على المتّهم "الوهميّ" في حال أثبت تورّطه في ذلك، أمّا القيادات الاسرائيليّة فالتزمت صمتًا مدروسًا، فهي على ما يبدو تخشى من أن تورّط نفسها بنارٍ أخرى ومن نوعٍ آخر.

* الكرمل يحترق، ورأسُ المشاهد العربيّ احترقت وهو يتساءل: هل سيُرسل أردوغان "البطل" طائراته لإطفاء نيران إسرائيل؟

أرسل أردوغان "الجنتل مان" طائراته، وأثبت من جديد كم هو قياديٌّ ذكيٌّ حكيمٌ بشكلٍ لا ريبَ فيه، ولا يقلُ براعةً في استخدام شعرة مُعاوية، عن معاوية نفسه.

أرسل أردوغان طائراته ليطفئ حرائق الاسرائيليين، فأشعل بها القيادة الاسرائيليّة، السّياسيّة والعسكريّة، حرجًا وخيبةً أمام السّماح التّركيّ، وأمام الهيبة القوميّة والانسانيّة التركّية في آن.. ومن يدري، فربّما يمنحُ الموقف التركيّ هذا، القيادة الاسرائيليّة قليلاً من ذكاءٍ غائبٍ، ليعتذروا عن قتلهم المواطنين الأتراك الّذين شاركوا في أسطول الحريّة لكسر الحصار عن غزّة، مقابلَ إنقاذ أردوغان لمواطنيهم ولغابات "كرملهم" الجميل.

* أهوفا، قائدة شرطة منطقة حيفا، يسألها الاعلام الاسرائيليّ صباح الخميس عن النّيران، فتجيب على عجل، وبلهجة المتحمّس الواثق الأكيد من نصره، المرتاح للنّتائج: "נראה מה נעשה – سنرى ماذا سنفعل"، ثمّ تعطيها "full" بانزين، ككاوبوي يندفع بحصانه لينتصر على وحش النّيران.

ثقة أهوفا، أوصلتها إلى قسم العناية المركّزة..

ترى هل هي الثّقة نفسها الّتي جعلت النّار تفترسُ باص السّجّانين؟!

هل هذه هيَ جهوزيّة الشّرطة الاسرائيليّة الّتي تحترف قمع المظاهرات المندّدة بالاحتلال ومجازره؟

* البرتقاليّ يسرقُ من العتمةِ سوادَها، يسيطرُ على المشهدِ، الدّخانُ رائحةُ النّهار، ويجلسُ المشاهدُ أمام التّلفاز، ويلتقي العربيُّ والاسرائيليُّ على السّؤال نفسه، يتوحّدان: "ترى لو أطلق حزب الله في أيّ حربٍ قادمة صواريخ حارقة على غابات الجليل.... فكيفَ.. ماذا..."، ولا يتابعُ المشاهدُ السّؤال.. يسكت، يفكّر..

* المواطنون الاسرائيليٌّون، القيادات الاسرائيليّة، جلّهم يتحدّثون عن الأرض، الطّبيعة، الحيوانات، الخضرة، الجمال، النّاس، البيوت، الذّكريات.. عن الجمال المفقود..

ووحدها بعض الشخصيات "القيادية" العربيّة الدّرزيّة تتحدث عن "الكارثة القوميّة الاسرائيليّة"، و"الكرمل بيتٌ لكلّ إسرائيليّ".. وبينما كلّ المجتمع الاسرائيليّ يشتم الحكومة الاسرائيليّة، هم يشكرونها: "תודה לראש הממשלה – شكرًا لرئيس الحكومة"!!

* سننتظرُ بعد السّيطرة على الحريق وإنهاء كارثة الكرمل، كيف سيقوم المجتمع الاسرائيليّ "الذّكيّ" بمحاكمة قياداته العسكريّة والسّياسيّة، وهل سيسائلها ويحاسبها عن ضخّ مليارات الشّواقل لشراء طائرات الـ F-35، وتطوير دبابات الميركافا، وشنّ الحروب على لبنان وغزّة، وبناء الجدران، وتعزيز السّجون، وإقامة آلاف الوحدات الاستيطانيّة لبضعة آلافٍ من اليمينيين المتطّرفين، وصناعة البلدوزرات العسكريّة لهدم البيوت وتجريف الأراضي، وصناعة طائرات التّجسّس بلا طيّار، بينما لا تجدُ الطّبيعةُ وسلامة المواطنين الاسرائيليين مكانًا في لائحة أولويّات الصّرف الأمنيّة، فلا تهتمّ دولة "الهايتك" والتقدّم والصّناعات المتطوّرة بشراء بضع طائراتٍ لإطفاء النّيرانن لا تساوي قروشًا مقارنةً مع أساطيلها العسكريّة.

* سرّيس، جُمّيز، خرّوب، بلّوط، صبر، تين، زيتون، دالية، سنديان، صفصاف، لوز، جرانق، مشمش، نخل، صندل، كرز، زعرور، لبّان، خوخ، كينا، شيح...

أشجارٌ عرفها الكرمل وعرفته، أحبّها وأحبّته، لائمت طبيعته ومناخ بلاد فلسطين، وهواء المتوسّط..

وعندما جاء الغريبُ أتى بالسّرو والصّنوبر الطّويل من بلاد الثّلوج والبرد في الشّمال، ليغطّي جريمته حينًا في ظلال الأخضر السّوداء، ولكي لا يعيشَ في غربةٍ عمّا تعوّده في البلاد الّتي ارتحل منها إلينا.. زرع الغريبُ في أرضنا، في الكرمل، قنابل موقوتة سريعة الاشتعال.

* الفتياتُ "يضحكنَ" وهنّ يستذكرنَ مراحل الخروج بالعبريّة، ويستعدنَ ذكريات الطّفولة عن إخلاءاتٍ سابقة، "يضحكن"..

السّيّدةُ الأنيقَةُ تتحدّثُ عن الخيارات المفتوحةِ أمامها بمحيًّا هادئ لطيف، هل تذهبُ إلى طبريّا أم إلى كيبوتس "نحشوليم" لتقضي "وقتًا جميلاً" لليلةٍ أو ليلتين ثمّ تعود.

سيّدةٌ أخرى تطلُّ برأسها من سيّارتها لتجيب على أسلئة مراسل القناة الثّانية، تصف له خروجها من بيتها، وهي لا تتوقّف عن أكل حبّة مثلّجات من نوع "ماجنوم"!!

آخر مع والده العجوز، لا يعرفُ الكثير عمّا يحصل، يقول إنّه لن يترك المكان أبدًا.. تهتمُّ لتمسّكه الشّديد بالأرض وحبّه لها..

فتكتشفُ أنّ ما يهمّه حظيرة الأبقار: من سيطعمها ليشفط الحليب!!

وأمام كلّ ذلكَ لا بدّ لك وأن تتساءل عن فلسفة العلاقة بين أصحاب الابتسامات والمزاجاتِ الهادئة في خضمّ الاشتعال، وبين هضاب وسفوح الكرمل الّتي يسكنون.

* في الاعلام العبريّ، وحتّى ساعة كتابة هذه الكلمات، ظهر الجميع، من كلّ الأشكال والألوان والمراتب والمناصب، إلاّ المواطنين العرب من غير أصحاب المناصب، من أهل عسفيا ودالية الكرمل وطيرة الكرمل وعين حوض!! أليس للعربيّ حقٌّ في أن يكون جزءًا من المأساة؟!

* ماردُ الشّرقِ الأوسطِ العسكريُّ المخيفُ، غيرُ قادرٍ على إطفاء نارٍ صغيرةٍ مشتعلةٍ في مطبخه، فهل سيدفعه هذا إلى التّواضع قليلاً قبل إعلانه إشعالَ أيّ حربٍ في مطابخ الآخرين، وقبل أن يحرقَ غابات وأحراش لبنان، وهل سيكونُ قادرًا على إطفاءِ نيرانٍ تشعلُها دولٌ يعاديها وتعاديه، تهدّدُ بالوصولِ إلى غرف نومِهِ وصالوناته الكبيرة، ومخازنه وغرف معيشته وجلوسه، في حال قام باستهدافها والاعتداء عليها؟!

* كرمِلُنا يحترق، ولا مكانَ في القلبِ إلاّ للحزنِ والألمِ على شرفةٍ تطلُّ على بهاءِ اللهِ في حيفا كنعان، ورئةٍ تفتحُ الاحتمالاتِ على كلّ العطور.

أمّا أنا.. "فأصرخُ من قاعِ الرّوح، يا كرملَ الرّوح.. اجلبْ لهُ هواءَ بحرِ حيفا، أحضر لهُ نسيمَ بحرِ يافا، يلطّفُ بردَ زنزانته وحرّها، يا كرملَ الرّوح كن حنونًا عليّ، أنت أقربُ منّي إليّ."

التعليقات