03/12/2010 - 08:30

"ويكيليكس" التسريبات وأوهام الإمبراطورية../ الفضل شلق

-

لو سُربت وثائق أميركية مشابهة قبل حرب العراق وأفغانستان، فهل كان ذلك سوف يمنع وقوع أية من هاتين الحربين؟ أو يمنع وقوع حروب مشابهة كما في باكستان واليمن؟ أو في منع حروب تكاد تقع كما في السودان وغيره؟ الجواب، على الأرجح سيكون لا. هل تعكس هذه التسريبات السياسة الأميركية، والسياسة المحلية العربية كما تصنعها الإمبراطورية؟ الجواب سيكون: نعم.

تعكس هذه التسريبات السياسة الأميركية ففي عداد حوالي الربع مليون من وثائق وزارة الخارجية الأميركية هناك حوالي 8000 تعميم لبعثاتها في الخارج. لا نستطيع في المقابل أن نأخذ تعليقات الحكام والمسؤولين العرب حول سياسة أميركا في المنطقة وسياستها حول إيران، وغير ذلك من المواضيع، إلا كمحاولة من هؤلاء لإرضاء الأميركيين.
 
لا ننسى أن الحاكم العربي يفتقد الشرعية التي لا تأتي عادة من دعم شعبه فيفتش تبعاً لذلك عن وسيلة لدعم حكمه من الخارج، ولا يجد خيراً من السياسة الأميركية. ففي المستطاع الاعتبار، بكثير من الاطمئنان والراحة، أن تعليقات الحكام العرب كانت استجابة للسياسة الأميركية.

أعلنت السيدة كلينتون في أول تعليقاتها أن التسريبات تضر السياسة الخارجية الأميركية وتعرض حياة البعض للخطر (من الأميركيين أم من القادة المحليين الذين كانوا يقابلونهم؟) ولم تنف صحة التسريبات بل حذرت من أخطارها على الأمن وعلى التقدم الاقتصادي!!!

ربما كانت الولايات المتحدة، بعد أزمتها المالية والاقتصادية وأزمتها السياسية حول العالم وأزمتها في تطويع الجيوش، تطلب تعاوناً عسكرياً ومادياً من الدول الأخرى. لم تستجب الصين وغيرها من الدول الناشئة لمطالب الأميركيين بخفض عملتها. لم تستجب الدول الحليفة في الحلف الأطلسي في زيادة حصتها من النفقات، ويطالب العرب (الحكام) والإسرائيليون بضرب إيران (أي فتح جبهة جديدة). إذن، فلتعلَن الوثائق وليتحمل كل مسؤوليته، وليساهم كل طرف في ما عليه من حصص وتقديمات للمجهودات في النظام العالمي الذي يعتقد الأميركيون أن الجميع يستفيدون من نتائجه من دون المشاركة في تحمل كلفته.

عوّدتنا الإمبراطورية منذ حرب الخليج الأولى ضد العراق أن يساهم الآخرون في تمويل حروبها. وعوّدتنا في الأمور الاقتصادية منذ السبعينيات على فرض أسعار عملات الدول الأخرى لمساعدة الصادرات الخارجية الأميركية، على حساب صادرات تلك البلدان.

وتعوّد الحكّام العرب وإسرائيل الطلب من أميركا خوض الحروب لصالحهم ضد كل مَن يعتبر تهديداً لهم وللإمبراطورية الأميركية. تعني التسريبات أن على كل فريق أن يذهب الآن ويقلع شوكه بيديه. لا يستطيع بلد من بلدان المنطقة مهما كان، حليفاً أو عدواً،إلا الشعور باللسعة نتيجة التسريبات الأميركية. ولن نفاجأ إذا رأينا أنظمة عربية كثيرة تتغير تبعاً لذلك. فهناك مرحلة جديدة لإعادة تكوين السلطة في المنظومة العربية. وليضع كل فريق أوراقه على الطاولة. وليتحمل كل ما عليه، شرط أن تكون القيادة إمبراطورية.

نحن نعلم أن السياسة الأميركية الخارجية لا ترسم على أساس هذه الوثائق. هناك الوثائق المدموغة «سري للغاية» لم تظهر للعلن. لكننا نعلم أن الأميركيين لا يأبهون كثيراً لأمر حلفائهم. ربما كان اعتبارهم لاستثنائية بلدهم يدفعهم إلى الاستخفاف بحلفائهم. وربما كانوا يتمنون أن يذهب معظم هؤلاء وأن يستبدلوا بجيل جديد أكثر «حداثة» كومبيوترية وأكثر اعتقاداً بصحة السياسات الأميركية وأكثر استعداداً لتطبيق وتنفيذ ما يطلب منه. ربما تفضي التغييرات أن يأتي هذا النوع الجديد من الحكام الذين ينفذون عن قناعة، من دون أن يسألوا، السياسات الأميركية.
 
أشباه هؤلاء من قادة أوروبا الشرقية هم الذين يرتاح إليهم الأميركيون أكثر من غيرهم. وربما كان المطلوب أن يفوت الناس ببعضهم في المرحلة القادمة من أجل توسيع رقعة الحروب الأهلية ليدخل الأميركيون حَكَماً لا طرفاً. ربما كانت التسريبات تخدم بهذا الاتجاه.

نحن على أعتاب مرحلة جديدة رسمت لنا معالمها كما رسمت معالم دول أوروبا الشرقية قبل سقوط الشيوعية. هناك إعادة ترتيب لأوضاع السلطات بقادة جدد في كل المنطقة كي تصبح أكثر تدجناً وطاعة. لا ينفض الأميركيون يدهم من المنطقة ولكن يعيدون ترتيب أوضاعها. وهذا ما يجب توقعه مع مقاومة أو من دون مقاومة، فهل علينا التعايش مع المرحلة الجديدة؟

إن مواجهة المرحلة الجديدة تقتضي منا تركيز السياسة والسياسات على الداخل، لبناء دولنا، اعتماداً على قوانا الداخلية؛ أن تبنى دولنا بعلاقات سوية مع شعوبها، وأن تعتمد في استمراريتها على الداخل لا على الخارج. ربما كان ذلك هو الطريق إلى الخلاص الجماعي. لكن ذلك يتطلب من كل دولة عربية أن تختار هي الأعداء ولا يُختارون هم لها، وأن تعتمد على قواها الداخلية في التعبئة والعمل، بالاستناد إلى المعرفة، وبالتطلع إلى التقدم وزيادة قوى الإنتاج من الشغل والكد والسعي. إن تطلُّب أن تبني دولنا العربية أنظمة ومؤسسات تثق بشعوبها، وتسعى إلى إقامة علاقات سوية معها لن يكون أمراً سهلاً. لكنه هو الخيار الأفضل لشعوبنا.

المواجهة لا تتوقف على مقولتي الحرب والسلم، فهما من جملة تفصيلات المنطقة. المواجهة الحقيقية تتطلب بناء مجتمعات متماسكة يأخذ الجميع فيها حقوقهم. يمكن ذلك في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية، في الدول الرجعية وغير الرجعية. المهم هوالعمل والسعي من جهة، والتماسك الاجتماعي من جهة أخرى.

إن الأخطار المحيطة بالوطن العربي تعرّض كثيراً من دوله للحروب المعلنة والحروب غير المعلنة، وحروب الانفصال، والحروب الأهلية لكثرة الأقليات. هذه أخطار داخلية. وهناك أخطار خارجية في مشاريع أوسطية، وغيرها، تذيب العروبة في بوتقة أوسع. وهذه كلها تتناسى الشيء الوحيد المطلوب وهو العرب والعروبة؛ والوجود العربي الذي يتطلب حكومات وتحالفات تخدم حاجات داخلية لهذه الشعوب. المطلوب تنمية حقيقية، ورؤى حول التنمية وعلاقتها بالقوى الاجتماعية، وعلاقة الدولة بالقطاعات المنتجة سواء كانت من القطاع الخاص أوالقطاع العام.

تفيد هذه التسريبات الأميركية أن الإمبراطورية أعلنت أن على كل فريق محلي، أن يختط طريقه، وأن يتخذ السياسات التي يريدها؛ مطالبهم متناقضة وهيتطلب من الإمبراطورية تنفيذها، والإمبراطورية لا تملك القوى السياسية أو الاقتصادية أو حتى العسكرية لحل المنازعات؛ فليقم كل بما عليه. سيكون هناك كثير من المؤامرات، وهي لم تكن غائبة. وسيحدث الكثير من الحروب الأهلية، وهي لم تكن غائبة، وستغرق المنطقة في أتون الحروب الأهلية، وهي كانت موجودة في الظاهر أو العلن أو كانت تغلي تحت الأرض. من الآن فصاعداً، على كل طرف أن يتحمّل مسؤولياته. لن يكون ذلك ممكناً من دون توحّد مجتمعاتنا داخل دولنا، ولن تتوحّد مجتمعاتنا من دون التنمية.
"السفير"

التعليقات