09/12/2010 - 10:32

التزام السرية يولد الفضول والتمرد../ جميل مطر

-

التزام السرية يولد الفضول والتمرد../ جميل مطر
أثارت تسريبات مراسلات وزارة الخارجية الأميركية عن طريق الشبكة الإلكترونية تعليقات شتى، وأغضبت عشرات السياسين في العالم، وهزت مكانة مبدأ السرية في أجهزة المخابرات والمؤسسات الأمنية في دول كثيرة، بعد أن كان للسرية في الأجهزة التي تتعامل مع أوراق ومستندات معينة مكانة هامة لا يقدرها إلا من عمل فيها وتعامل معها. هذا بالإضافة إلى ما هو معروف في البيروقراطية عن أن سرية الوثائق والاتصالات تعتبر في حد ذاتها مصدراً من مصادر شرعية كثيرة من مناصب الدولة السياسية والأمنية ومبرراً لإضفاء الأهمية على شاغليها.
 
تعلمت من التجربة، أن كثيراً من الناس يضفون صفة السرية على ما يقومون به من مهام بهدف تضخيم أهمية وظائفهم أو أنفسهم، آخرون يستخدمونها لزيادة نفوذهم وقوتهم عملاً بمقولة أن المعلومات في حد ذاتها مصدر قوة والمعلومات السرية قوة أعظم.

علمتنا التجربة أيضاً أن السرية تولد الفضول وتثير دائماً الرغبة لكسرها. لذلك لم تفاجئني تسريبات ما عرف بموقع ويكيليكس، كما لم تفاجئ الذين مارسوا في مرحلة أو أخرى من حياتهم العمل في سرية وكتمان. هؤلاء يدركون جيداً أن السر معرض دائماً للانكشاف منذ اللحظة التي يتقرر فيها فرض التعتيم أو الكتمان على حدث أو محادثة. وما حملة الشفافية إلا دعوة للعمل في العلن لتفادي كثير من السلبيات التي تنتج عن العمل في سرية وخلف أبواب مغلقة. يقول هؤلاء إن التعلق بالسرية يدفع إلى الشك في النوايا، فالجرائم والسرقات والرشوة والتآمر كلها يجري التخطيط لها في إطار السرية..

من ناحية أخرى يثير التمسك بالسرية الرغبة في التمرد ويتسبب في انشقاقات داخل المؤسسات التي تستخدمها. لذلك أمكن للكثيرين تفهّم ما قام به المسؤولون عن تسريبات الوثائق باعتبار أن معظم كوارث السنوات الأخيرة في العراق وأفغانستان وإجراءات الحرب ضد الإرهاب، جرى الإعداد لها في الظلام وبعيداً عن الشفافية. ولا يخفى أن جماعات أخرى سبقت ويكيليكس حين قامت بتوزيع صور التعذيب في سجون العراق وحياة المعتقلين في غوانتنامو، فكانت بما فعلته تنبئ بقرب ظهور حركة أقوى تنظيماً وتمويلاً، كتعبير عن الرفض للسرية التي صارت كالسحابة السوداء تخيم على العلاقات الدولية.

العمل في سرية يكاد يكون طبيعة ثانية من طبائع البشر وإن كان طبيعة أولى للذين يمارسون مهناً بعينها. كان الدبلوماسيون في قديم الزمن يحتفظون بالمعلومات التي يتحصلون عليها في ذاكرتهم لأنهم يتوقعون أن هناك من سيحاول تفتيش حقائبهم والإطلاع على وثائقهم التي يسجلون فيها الأحداث والمحادثات والمعلومات. وفي العصور الوسطى كان المسؤولون يدفعون مرتبات ثابتة لخدم المبعوثين الأجانب ومساعديهم ليقرأوا أوراقهم ومخطوطاتهم وينقلون فحواها إليهم. وعندما استحدثت الدول الحقيبة الدبلوماسية لنقل الرسائل العظيمة الأهمية وتوافقت على عدم فتحها تحت أي ظرف، أو لأي سبب، كانت وزارة الخارجية في إحدى دول وسط أوروبا، وكانت قوة عظمى وقتذاك، تستلم من مصلحة البريد حقائب السفارات الدبلوماسية في الساعة السابعة صباحاً. وفي الوزارة يعمل الخبراء على كسر أختام الشمع الأحمر، على المظاريف وفتحها وترجمة محتوياتها بسرعة أو نقلها حرفياً وإعادتها داخل المظاريف وختمها مرة أخرى بالشمع الأحمر قبل إعادتها إلى مصلحة البريد في التاسعة صباحاً. وأظن أن جميع الدبلوماسيين في معظم أنحاء العالم يتوقعون أن تفتح حقائبهم الدبلوماسية مرات، وليس مرة واحدة، خلال رحلتها عبر العديد من الدول من وزارة الخارجية إلى مقر البعثة في الخارج وبالعكس.

ومع ذلك لم يتوقف الدبلوماسيون ولن يتوقفوا عن تسجيل ملاحظاتهم وتحليلاتهم وإحاطتها بالسرية الممكنة وباستخدام الشفرة إن أمكن، ولم يتوقف دبلوماسيون ومتخصصون ومسؤولو أمن على الناحية الأخرى ولن يتوقفوا عن محاولة الاطلاع على هذه الوثائق وكسر شفرة ما هو مشفر، منها وتصويرها قبل أو بعد أن تصل إلى وجهتها.
 
 نعرف من الأدبيات المنشورة عن الدبلوماسية منذ أيام كوتيليا، رائد الدبلوماسية الهندية، ومبعوثي فراعنة مصر إلى ملوك الشرق، أن ما تفعله حكومة من الحكومات لتأمين مراسلاتها ستقوم حكومة أخرى بإبطاله أو كشفه، ونعرف الآن أن الشعوب تفعل الشيء ذاته، فكلما طورت الحكومات أجهزة وأساليب التجسس على شعوبها قام أفراد وجماعات بجهود ومحاولات لكشفها وفضحها والتشهير بها وإن أمكن، إبطال مفعولها.

لم تفاجئ الكثير من المهتمين محتويات معظم البرقيات والوثائق التي سربها الموقع حتى الآن. أنا شخصياً لم تضف شيئاً جديداً لم أكن أعرفه عن فساد سيلفيو بيرلسكوني رئيس وزراء إيطاليا وعلاقاته بشركات ومصالح تجارية في روسيا، أو عن غطرسة نيكولا ساركوزي رئيس جمهورية فرنسا وعناده، أو عن فلاديمير بوتين رئيس وزراء روسيا وميوله الاستبدادية واستهانته بالأحزاب وعدم اكتراثه بها، ومن بينها حزبه الذي أنشأه بنفسه ولنفسه، واعتماده المطلق على وكالة الاستخبارات الروسية وأجهزة الأمن في حكم البلاد
 
 لم يكن جديداً ما سربه الموقع من وثائق تحكي عن مواقف بعض حكام العرب من إيران وضغوطهم على أميركا لتقسو على حكومة طهران، وعن علاقاتهم السرية بإسرائيل وقادة إسرائيليين، أو عن صلابة إيفو موراليس رئيس بوليفيا ونزاهته والجانب غير المعلن في شخصية هوغو شافيز، أو عن الفظائع التي ارتكبتها القوات الأميركية والبريطانية والعراقية ضد المدنيين في العراق. لم أطلع على معلومات مثيرة تتعلق بدور إيران في إعادة بناء دولة العراق كدولة تابعة لحكومة طهران بعد انسحاب الأميركيين، أو عن عجز القوات البريطانية عن تأمين إقليم هلمند في أفغانستان ودور الاستخبارات الباكستانية في دعم فصائل أفغانية متطرفة. قليلة جداً كانت المعلومات التي فاجأتني، ومنها على سبيل المثال، حكاية حسابات أردوغان السرية في مصارف سويسرا وفاجأني أيضا رد فعله العنيف، وإن كان الرد الأعنف هو الذي جاء على لسان الرئيس بوتين في إشارته إلى القوى الخفية وراء هذه التسريبات.
 
يصعب، مع ذلك، إنكار أن هذه التسريبات دعمت قناعتنا بأهمية الدور الذي صارت تلعبه الشبكة الإلكترونية في حياتنا وضاعفت ثقتنا في أننا لن نستطيع العيش بدونها. وبهذه التسريبات تكون قد دقت الشبكة من جديد جرس إنذار حين تذكرنا بأن ما «لا نستطيع العيش بدونه يستطيع قتلنا». وقد أثبتت الشبكة الإلكترونية بالفعل أنها وإن كانت قادرة على تغيير العديد من أنماط حياة ملايين البشر فهي أيضاً قادرة على إنهاء حياتهم أو على الأقل الإضرار بها.

لا ننسى، ولا يجب أن ننسى، أن القرن الماضي خلف لنا إنجازات عديدة، أهمها على الإطلاق إنجازان هما تفكيك الذرة وشبكة الانترنت. لا جدال حول أن الاختراع الأول قدم للبشرية خدمة عظمى، حين مهد لاستخدام طاقة جديدة ونظيفة وفي الوقت نفسه مازال يعرضها للتهديد بالفناء. أما الإنجاز الثاني فقد فتح الطريق الذي يسمح للبشرية باقتحام آفاق لم يدر بخلد الذهن البشري أنه قادر على الاقتراب منها. وفي الحالتين، حالة انشطار الذرة وحالة الانترنت انشغلت عقول كثيرة في أنحاء العالم كافة بمحاولة للتوصل إلى وسيلة تساعد في إعادة «العفريت» إلى القمقم. بذلوا ويبذلون جهودا لمنع انتشار الأسلحة النووية والحد من إنتاجها وفرض الرقابة عليها، وبذلوا ويبذلون الجهود أيضا لمنع استخدام الإنترنت في تخريب اقتصادات الدول وتهديد أمنها العسكري، ولا ننسى أنه بالإنترنت وحده أصبح ممكناً الوصول إلى شفرة إطلاق الأسلحة النووية ومراكز تشغيل مرافق الحياة في المدن العظمى.

ولا يوجد أمام العالم سوى طريقين لمواجهة خطر الشبكة الإلكترونية. أمامه الطريق الصيني الذي يقضي بمنع تدفق المعلومات من أساسها ومن مصادرها، وهو طريق غير مضمون النجاح بدليل ما حدث بين الصين وشركة غوغل. أمامه أيضا الطريق الأميركي، أي فرض الرقابة والتدخل والتجسس وهو ما تحاول أميركا السير عليه منذ أحداث أيلول/ سبتمبر، وقد أثبتت تسريبات موقع ويكيليكس أنه كذلك طريق غير مضمون.

أنا شخصيا غير متأكد تماما من أن تسريبات الوثائق الدبلوماسية الأميركية سوف تحدث تغييرا كبيرا في سلوك المسؤولين، وبخاصة الدبلوماسيين، وإن كنت أتوقع تغييرات في تطبيق معايير سرية المعلومات ومحاولة ضبط توزيعها وتحديد عدد ونوعية مستخدميها. لن تغير في سلوك الدبلوماسيين لأن وظيفتهم هي الحصول على معلومات وتحليلها ونقلها إلى المسؤولين في عاصمة بلادهم، ولن تغير كثيرا في مضمون ما يصرح به كبار القادة والزعماء لأقرانهم ومبعوثيهم فالرغبة في الكلام عند أغلبهم تتغلب على الحاجة إلى الحرص. ومع ذلك لا أستبعد أن يحدث تغيير في سلوك بعض أفراد النخب المثقفة ونجوم المجتمع الذين اعتادوا قبول دعوات الدبلوماسيين الأجانب والتفاخر أمامهم بما لديهم من معلومات ونميمة وتحليلات عن كبار الشخصيات والمسؤولين في بلادهم.
"الخليج"

التعليقات