30/12/2010 - 12:23

صحوة أوباما تبعث أملا بصحوة أمريكية../ جميل مطر

-

صحوة أوباما تبعث أملا بصحوة أمريكية../ جميل مطر
أحببناها أم كرهناها، تبقى أمريكا شاغلنا كما هي شاغل غيرنا من أمم العالم، إلى أن يأتي يوم تنحسر فيه الإمبراطورية الأمريكية فنعاملها عند ذاك كما نعامل بريطانيا العظمى الآن. عندما يأتي هذا اليوم لن تكون الولايات المتحدة الدولة الأعظم، ولن تكون مصالحنا القومية مرتهنة أو تابعة للمصلحة القومية الأمريكية، أي لن تكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بها. وغير خاف على المتابعين للشأن الأمريكي أن كل أسبوع يمر يحدث تطور جديد على هذا الصعيد، صعيد انحسار العظمة الأمريكية. بل إنه في الأسبوع الأخير وحده وقعت أربعة تطورات لفتت الانتباه وفرضت التوقف أمامها للربط بينها، وصولاً إلى صورة أوضح للحالة الأمريكية.

حدث هذا الأسبوع أن ناقش القادة الأوروبيون التقرير المرفوع من المفوضية الأوروبية عن مكانة أمريكا في العالم. أعدت التقرير أشيتون منسقة السياسات الخارجية لدول الاتحاد وقيل إن الهدف الذي سعت إليه من وراء وضع التقرير هو تنبيه حكومات دول الاتحاد إلى ضرورة انتهاج سياسة خارجية، واتخاذ مواقف دولية تستعيد بها أوروبا مكانتها ونفوذها، فتعود وتحتل موقعها المناسب في التأثير في عملية صنع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة. ويلمح التقرير إلى أن أوروبا، في وضع التابع، تضر بنفسها وبأمريكا. أما أوروبا صاحبة الرأي الواضح والمستقل في شكل مستقبل النظام الدولي، وسرعة صعود الصين والمسألة الروسية، فستكون كياناً أعظم قدرة على مساعدة أمريكا على تطوير سياستها الخارجية، والاحتفاظ بموقعها في القيادة الدولية.

يشير التقرير أيضاً إلى احتمال أن تجتهد أمريكا قريباً في البحث عن شركاء جدد يحلون محل الشركاء الأوروبيين إذا لم تفلح أوروبا في صنع سياسة خارجية موحدة، وتخلق انطباعاً في العالم، وبخاصة في أمريكا بأنها تحوز قوة لها اعتبارها. واستطيع أن أفهم دوافع أشيتون منذ اليوم الذي وقف فيه العالم بأسره يشهد على تفاهم أمريكي  صيني في مؤتمر المناخ الذي عقد في كوبنهاجن، وعلى تجاهل شبه كامل من جانب أوباما لقادة أوروبا، ليس فقط خلال المؤتمر، بل وخلال معظم العام المنصرم.

بمعنى آخر، تعتقد قيادات في أوروبا وبخاصة قيادات المفوضية في بروكسل أن نزيف الانحسار في النفوذ الأمريكي لم يتوقف، وتعتقد أن أمريكا قد تبحث قريباً، أو هي تبحث بالفعل عن شركاء خارج المعسكر الغربي، بما يعني أنها ربما فقدت الأمل في أن تساعدها الشراكة الأوروبية الأمريكية على وقف الانحدار، وتعتقد، ثالثاً، أن الوقت أزف لتضع أوروبا سياسة موحدة تجاه الدول الناهضة، وهي بالتحديد الصين والهند والبرازيل وروسيا، أو على الأقل تعمل بجدية للتنسيق بين السياسات الخارجية لدول الاتحاد.
 
* * *
 
وفي تطور ثان عادت تظهر وبكثافة ملحوظة دراسات أكاديمية في العديد من مراكز العصف الفكري الأمريكية، وفي الصين وانجلترا، تركز على سيناريوهات السقوط الأمريكي بعد العام 2025، تكشف هذه الكثافة عن حالة اكتئاب يبدو أنها أصابت بعض قطاعات المجتمع الأمريكي، ومنها انتقلت إلى حلقاته الأكاديمية. تكشف أيضاً عن مدى انشغال الطبقة الحاكمة في أمريكا بالتفكير في الوسائل والسياسات التي تضمن انسحاباً أو سقوطاً ناعماً أو غير مدوٍ، كانسحاب بريطانيا من موقع الإمبراطورية العظمى إلى موقع الدولة العادية. وبيننا في مصر والعالم العربي كثيرون يعرفون عن المجتمع الأكاديمي الأمريكي قدراته الفائقة وكفاءته عندما يحزم أمره على الغوص في أعماق مشكلة تقلق بال الطبقة الحاكمة، أو مشكلة يجب أن تقلق بالها. خبرنا هذه الحقيقة عندما انشغلت الأكاديمية الأمريكية بقضايا روسيا في ما عرف وقتها بدراسات الكرملين ثم الصين، وقبلهما اليابان وألمانيا، وفي كل حالة لم يكف الانشغال إلا بعد تحقيق المراد.
 
* * *
 
وقع تطور ثالث، أيضاً لافت للانتباه. إذ حدث في الأيام الأخيرة ما يشبه طوفان من مقالات "صحافية" لكتّاب ومعلقين، أغلبهم يكتبون في كبريات الصحف الأمريكية. كل المقالات تعيد تقويم باراك أوباما وتقديمه كرئيس حقق إنجازات خلال شهر واحد، وهو الشهر اللاحق لهزيمة الحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية، فاقت إنجازات على امتداد عامين من ولاية مترددة ومرتبكة.

فجأة، خرجت حملة مقالات وتعليقات في الصحف والتلفزيون تعلن أن نجاحاً ملحوظاً تحقق لأوباما بالتصديق على اتفاقية الحد من التسلح المعروفة باسم "ستارت"، متغلباً على صعوبات جمة في الكونغرس الأمريكي، وحقق نجاحاً لا يقل شأناً باستصدار تشريع يمد في أجل تشريعات الرئيس بوش الضرييبة، في ظل اتهامات بخيانته للوسط اليساري والمعتدل في حزبه، وبأنه استسلم لضغوط اليمين الأمريكي. من ناحية ثانية اعتبر بعض المعلقين صموده في الدفاع عن كوريا الجنوبية ومواقفه من إيران عزيمة متجددة وتعبيراً عن إرادة صلبة. آخرون مجدوا عمليات تسريع معدلات الخروج من العراق وصنع نمط جديد من الحروب، تلعب فيه الطائرات من دون طيارين الدور الأساسي، وتوقع أحدهم أن يلتصق اسم أوباما بهذا النمط من الحروب في سجلات التاريخ العسكري.
 
* * *
 
نستطيع ولا شك فهم دوافع المعلقين الأمريكيين ورغبتهم في تحسبن صورة الرئيس الأمريكي، في وقت عصيب بالنسبة لوضع أمريكا الدولي. ونستطيع كذلك تقدير حجم الضرر الذي وقع على سمعة الولايات المتحدة، بسبب تسريب برقيات دبلوماسية أكدت بأشكال مختلفة الحالة غير المرضية للسياسة الخارجية الأمريكية.

لذلك أعتبر تداعيات تسريب البرقيات الدبلوماسية التطور الرابع في سلسلة التطورات الأخيرة التي لفتت الانتباه وارتبطت بموضوع انحدار العظمة الأمريكية. كشفت الوثائق، بين ما كشفت، عن أمور وثيقة الصلة بحالة أمريكا ومكانتها، من هذه الأمور:
* أولاً، سقوط حلم اليمين الجديد، كما سجلته وثائق "مشروع القرن الأمريكي الجديد"، وكان على الدبلوماسية الأمريكية، حسب هذا المشروع، واجب استثمار القوة العسكرية الأمريكية والثروة المادية والتراث الناعم لبناء أعظم إمبراطورية في تاريخ البشرية. تشهد الوثائق المتسربة بسقوط هذا الحلم. لم يتبق منه سوى إصرار عدد من سفراء أمريكا على التغني برسالتها وترديد أن أمريكا هي الوحيدة العفيفة والنظيفة والطاهرة والشجاعة والصبورة والحكيمة. إلا أنه بات واضحاً من عدد من البرقيات أن الخارجية الأمريكية لم تتخذ قرارها بعد في الأسلوب الذي يجب اتباعه لاستعادة ثقتها بنفسها. كتب نيال أشرتون في صحيفة "الأوبزرفر" البريطانية يقول إن هذا الشعور بعدم الثقة في النفس سائد بين الدبلوماسيين الأمريكيين وموجود أيضاً داخل القيادة الدبلوماسية في واشنطن، بينما يؤكد المؤرخ الأمريكي البريطاني الأصل نيال فيرجسون في كتابه الصادر حديثاً بعنوان (colossus)، أن هذا الشعور كان جزءاً من الضرر الفادح الذي أصاب الدبلوماسية الأمريكية، عندما سمحت لوزارة الدفاع بتولي أمر العراق، قبل الغزو وبعده، حتى طغت مصالح المؤسسة العسكرية وجماعات اليمين المحافظ على المصالح القومية الأمريكية.
 
* ثانياً، كشفت الوثائق عن أن السياسة الخارجية الأمريكية مغروسة في الوحل في أكثر من إقليم، فهي "موحولة" في "إسرائيل" ولبنان والعراق وأفغانستان وكوريا وجورجيا ودول أخرى في القوقاز، إلى حد تبدو فيه عاجزة، كذلك أكدت الوثائق على كثير مما كان معروفاً سلفاً مثل أن أمريكا، وهي الدولة الأعظم تفقد نفوذاً، بينما تزحف الصين بسرعة وتقضم شيئاً فشيئاً من "عظمة أمريكا"، ومثل أن أمريكا وهي الأقوى عسكرياً وصاحبة أكبر ميزانية تسلح في العالم تبدو ضعيفة في حروبها ضد العصابات، وحالات التمرد المسلح والمنظمات والتيارات القومية والدينية المتشددة. كشفت أيضاً عن حقيقة رددها كثير من علماء السياسة وخبرائها وهي أن أمريكا فقدت البوصلة لتحديد مسارات المستقبل.
 
* ثالثاً، تسببت الوثائق المتسربة في أن فقدت الدبلوماسية الأمريكية، وفقد الدبلوماسيون الأمريكيون بوجه عام بعض الرصيد من المصداقية والاحترام، ليس فقط داخل أمريكا ولكن أيضاً بين الدبلوماسيات الأجنبية الأخرى. حدث هذا عندما نشر أن وكالة المخابرات الأمريكية كلفت دبلوماسيين أمريكيين التجسس لصالحها على زملائهم من الدبلوماسيين الأجانب في الأمم المتحدة، وطلبت منهم سرقة أرقام بطاقاتهم الانتخابية، والتدخل في خصوصياتهم. حدث أيضاً الفقد وبضوضاء أشد، حين نشر أن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون طلبت من سفارتها في بيونس أيرس الإفادة عن تطورات الحالة العصبية والنفسية لكريستينا فرنانديز كيرشنر رئيسة جمهورية الأرجنتين، واستفسرت عن الظروف التي تدفع الرئيسة وتفصيلات عن حالة زوجها، الرئيس الأسبق للأرجنتين، عندما يواجه استفزازاً.
 
* رابعاً، ولسوء حظ الدبلوماسية الأمريكية المعاصرة، لم يطلع القراء والمتخصصون بين كل البرقيات المتسربة على برقية واحدة يتجرأ فيها سفير أمريكي فينتقد قراراً سياسياً أمريكياً انتقاداً موجعاً، أو يقترح اقتراحاً يهز أركان أجهزة صنع السياسة الخارجية، مثلما فعل أكثر من مرة دبلوماسيون من وزن جورج كينان، وافريل هاريمان. كان أقوى انتقاد قرأناه في البرقيات ذلك الذي صاغته السفيرة سكوبي في توجيه مهذب منها كسفيرة أمريكا في القاهرة إلى كلينتون وزيرة خارجيتها. تقول السفيرة إن وزير خارجية مصر لن يفتح مع الوزيرة خلال زيارته لواشنطن موضوع حقوق الإنسان والديمقراطية والإصلاحات السياسية، وتنهي تقريرها بعبارة "يجب عليك أن تثيري هذا الموضوع معه". كانت سكوبي، مثل غيرها من سفراء عديدين، تعرف أن أمريكا تخلت عن وعودها بالتزام ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنها اختلفت عن غيرها من السفراء حين استخدمت لهجة متشددة لتوجيه رئيستها وزيرة الخارجية.
"الخليج"

التعليقات