12/01/2011 - 10:42

أبوماهر: الملح الذي لم يفسد../ رشاد أبو شاور

-

أبوماهر: الملح الذي لم يفسد../ رشاد أبو شاور
تساءل السيّد المسيح: إذا فسُد الملح فبماذا يُملّح؟!
والملح الذي سأتحدث عنه هو أحمد اليماني( أبو ماهر)، الذي لو وصفته بالمناضل الكبير لما وفيته قدره، ولما أنصفته، لأن وصف المناضل بات مبتذلاً، وصفة الكبير باتت تمنح لأي صغير غير ذي شأن.
 
أقول والحزن لرحيله يثقل على نفسي: لست من جيله، ولا من الجبهة الشعبية التي هو أحد مؤسسيها، ولا من حركة القوميين العرب التي أسهم في بنائها ونشر مبادئها، وأنا وإن كنت عرفته عن قرب فلست من أصدقائه المقربين، ومع ذلك لعلّي أحد أكثر الناس حزنا على رحيله.
 
لم يكن السيّد المسيح يمتدح في تساؤله الاستنكاري أهمية الملح في حياة البشر، بل كان يتحدث عن أولئك الذين يؤمنون، ويمضون شاقين الدروب للبشر، فهؤلاء هم الملح الذي به يصبح للحياة طعم، فهم على قلتهم، وأحيانا ندرتهم: الملح الذي لا يفسد.
 
أبو ماهر، وهنا أوّد التنبيه إلى أنني لا أرثي الرجل، بل أدعو لوراثته، فقد ترك ثروة يمكن أن تتسلّح بها أجيال تحرر وطنها، وتنقذ أمتها، هو الفقير منشأ، الغني بكنوز يقدرها حق قدرها من يهبون حياتهم للقضايا الكبيرة..وهل أكبر وأجّل من قضية فلسطين؟!
 
يموت الإنسان، فيوارى الثرى في حفرة تضم جسده الفاني، ويهال عليه التراب..ثمّ تقبل التعازي، وتطوى سيرة الفقيد، وينتهي غالبا ذكره، إلاّ إذا...إلاّ إذا ترك خلفه ما يُذكّر به.
 
هناك من افتعل لهم ذكر، وهناك من سرقوا ذكر غيرهم، وهناك من وروا الثرى فانتشرت سيرتهم العطرة، فبقوا أحياء، يمّلح بما تركوا!
 
أبو ماهر اليماني، ابن الفلاّح من قرية سحماتا قضاء عكا، ابن حسين اليماني، الرجل الفقير الذي حض ابنه البكر على التعلم، واقتطع القرش عن الأسرة ليتعلم أحمد، لم يكن مجرّد أب عادي، بل كان المعلّم الأوّل لابنه، فهو اصطحبه لأوّل مرة إلى عكا، ورفعه بيديه عاليا، ليريه وهو في السادسة مشهدا لا ينسى: إعدام أبطال فلسطين الثلاثة على مشانق علّقهم عليها الإنكليز عام 1930: الزير، جمجوم، حجازي!
 
أحمد الطفل رأى الجنود الإنكليز وهم يهاجمون الأب وهو يحرث أرضه وينهالون عليه بمنساس الحراثة، ويدمونه، ثمّ يختطفونه ويمضون به إلى السجن..مع كثيرين غيره من أبناء قرية سحماتا والقرى المجاورة، بتهمة التستّر على الثوّار.
 
لاعجب أن الأب باع بقرته واشترى بثمنها بندقية لينضم للثورة!
سيرة حياة أحمد اليماني هي سيرة فلسطين في القرن العشرين، وحتى يوم دفن في ثرى لبنان قبل عشرة أيّام، وهذه السيرة ستكلّل بالانتصار إذا ما استمر الملح نقيا عصيا على الفساد.
 
كتب أبو ماهر اليماني سيرة فلسطين منذ وعاها، وسيرته مضفورة بها، مرّ على بعض تفاصيل حياته، ولكنه في الأجزاء الخمسة من( تجربتي مع الأيّام) دوّن كل ما تعرّضت له فلسطين في القرن العشرين..حتى أوسلو!
 
لم يصدر الجزءان الموعودان السادس والسابع، ولا أدري إن كان الرجل وقد بات هدفا لأمراض أنهكت جسده، قد كتب منهما شيئا..وكلي أمل أن يكون قد فعل.
 
ما هو الملح الذي تكوّنت منه سيرة حياة هذا القائد الفّذ؟
التجربة المعيشة في حقبة اضطراب أحوال فلسطين مع بدء الغزوة الصهيونية، والانتداب البريطاني..ممزوجة بالمعرفة وهي عنده الوعي، والوعي هنا يعني القدرة على فهم ما يدبّر لفلسطين، وتحديد الأعداء، وكشف أساليبهم، وهو ما تبدى في سلوك الرجل منذ يفاعته، وانتقاله للمدارس الثانوية في عكا، والقدس، والتقائه بأساتذة خلّد ذكرهم في مذكراته، وتحديدا الجزء الأول المعنون بـ( في فلسطين).
 
لو قيّض لي أن أضع عنوانا شاملاً لمسيرة هذا الرجل الفّذ لكانت من كلمتين: سيرة الملح.
فهو رغم الفقر، والفاقة، ظلّ وفيا لما نشأ عليه على يدي والده، وأساتذته، وهو بدأ رحلة الزهد يوم تخلّى عن الراتب الكبير الحكومي لينتقل للعمل في( جمعية العمّال العرب الفلسطينيّة).
 
ولأنه متواضع، ونزيه - وهذه من صفات الملح الإنساني النقي - فإنه يتحدّث عمّن تعلم منهم، ينصفهم، يشهد لهم، يُثبّت صفاتهم ليتعلم منهم أبناء شعبنا جيلاً بعد جيل.
 
كثيرا ما سمعنا باسم قائد الحركة العمّالية الفلسطينيّة الشهيد سامي طه، ولكننا لم نعرف عنه سوى القليل، إلى أن قرأت مذكرات أبوماهر، فدهشت لعظمة سامي طه، ومسيرة حياته هو الفتى اليتيم، الذي لم يتعلّم سوى المرحلة الابتدائية، وعمل في جمعية عمالية مراسلاً، وأتقن الإنكليزية، وطوّر نفسه ثقافيا، إلى أن أخذ دورا بدأ يكبر مع نمو الحركة النقابية العمالية الفلسطينية بفضله هو، بجده وجهاده، بدفعه للكفاءات لتأخذ دورها وتبدع، لا لتكون أدوات يحركها لمصلحته الشخصية!.
 
سامي طه اغتيل عام 47..وفي شهادة أبوماهر نكتشف خلفيات جريمة الاغتيال، ونتعرّف على سامي طه العقل المبدع، والوعي المبكّر، والمبدئية التي لا تساوم.
 
يكتب أبو ماهر: ويشرفني شخصيا أن أسجل أنني خلال تجربتي النقابية كنت مدينا للشهيد سامي طه ببلورة الذات التنظيميّة لدي.. وما تستلزمه هذه الذات من صدق وإخلاص وبذل وعطاء. حقا لقد تأثرت بتجربة غنية معه، وتتلمذت على يديه ( ص 141 الجزء الأوّل في فلسطين).
 
أليست هذه بعض صفات الرجال – الملح، الذين بهم تنتصر الشعوب في معاركها لنيل الحريّة، وتحرير الأوطان؟
 
أنا عرفت أبا ماهر عن قرب لفترة في عمل ضمنا معا، فعرفت التواضع، ونبل النفس، وطهارة اليّد، وصلابة الموقف، وهو ما نفتقده في زمن رجال الملح الفاسد المُفسد!
 تخلّى عن كل مواقعه عندما أطلّت حقبة ( أوسلو)، ولكنه لم ينزو في بيته، لم يتقاعد كما خيل لبعض من جهلوا مكوناته الشخصية الفكرية، والروحية، والخلقية، والنفسية.
 
أبو ماهر بما هو الملح الذي يُملّح به، يحرج الملح الفاسد، لأنه تأبّى على الفساد، وحافظ على نقائه ونصاعته، فهو قيم تمشي على ساقين!
أبو ماهر اليماني تأصّل في مدرسة الفلاّح الفلسطيني المحب للأرض، المتعلّق بها، المتواضع ، الصلب، العنيد .. وهذه بعض صفاته التي انصقلت في معمعان الاشتباك مع المشروع الصهيوني البريطاني!
 
أبو ماهر طوّر وعيه بالتجربة، والعمل الميداني.
رأى أن فلسطين قضية قومية، ولذا بنى مع البُناة الأوائل حركة القوميين العرب...
وآمن دائما أن الصراع لا يحسم مع العدو الصهيوني إلاّ بالكفاح المسلّح، ولا غرابة أن يكون شقيقه محمد من أوائل شهداء الثورة الفلسطينية عام 66...
 
مشى دائما في الشارع بلا حرس، ولا سيارات مرافقة، ورغم أنه كان يشرف على المال، والمال الكثير، فقد بقي في نفس الشقة بجوار الإطفائية في بيروت، بمنطقة الجامعة العربيّة. ورغم أنه تبوّأ عضوية اللجنة التنفيذيّة، فقد تخلّى عنها في وقت مبكّر رافضا سياسات الانحراف والفساد.
 
آمن أبو ماهر أنه لفلسطين، على كتفيه يحملها، وبيديه يرفع رايتها، وتلك رسالته التي أشاعها في مدارس الوكالة في مخيمات لبنان.. فأبو ماهر الملح قام بدور المعلّم بتلقائية، ودون أن يدعي أنه معلّم، هكذا ببساطة، وتواضع.. فلا عجب أن من أبرز تلاميذه ناجي العلي!
 
أمّا وأن جسده ووري الثرى وهيل التراب عليه، فما الذي يبقى منه؟ الملح الذي يصون الثورة من الفساد، ويحمي النفوس والعقول من التعفّن لتبقى عصيّة على التخريب المستشري في أيامنا.
لنصن قيم أبي ماهر فبملحه الذي لا يفسد نُطهّر ثورتنا من الفساد والانحراف.
هذا قائد مضى مرفوع الرأس.. تتشرف به فلسطين.

التعليقات