12/01/2011 - 10:31

من "الرجل المريض" إلى "المنطقة المريضة"../ علي جرادات

-

من
بعد نصف قرن ويزيد على الاستقلال الوطني من ربقة الاستعمار المباشر، فشل العرب في بناء دولتهم القومية، ويفشلون اليوم حتى في الحفاظ على دولهم القُطرية، التي تتقدم على قدم وساق، وبخطى حثيثة، على طريق التفتيت. فبعد سنوات على محاولات "عرقنة" العراق، و"لبننة" لبنان، و"يمننة" اليمن، و"صوملة" الصومال، و"سودنة" السودان، (والحبل على الجرار)، جاء دور مصر، وتفجير الإسكندرية الإجرامي مجرد فاتحة في استهداف وحدة هذه الدولة العربية المركزية. فاستهداف كنيسة القديسين في الإسكندرية ليس حادثا معزولاً، ذلك لسببين:
 
الأول: لا يمكن فصله عن العبث في خاصرة مصر السودانية، واللعب في اتفاقية منابعها المائية، ناهيك عن تخريب عمليات التجسس الإسرائيلي عليها.
الثاني: لا يمكن فصله عن تفجيرات الكنائس العراقية، كتجليات لظاهرة تأجيج نيران التطرف الطائفي والمذهبي والإثني والجهوي في أكثر من دولة عربية.
 
   إذاً لسنا أمام حدث مصري معزول، بل إزاء ظاهرة تعم المنطقة العربية، يفاقم مخاطرها تداخل أسبابها الداخلية والخارجية وتكاملها، في خلق أزمات في أكثر من دولة عربية، عنوانها الأبرز فقدان هذه الدول لاستقلالها النسبي، وتحوله إلى استقلال شكلي، لم يعد كافيا توصيف غالبية، (إن لم نقل كل)، نظامه السياسي بالنظام التابع، كما كان عليه الحال على مدار عقود. ففي العقدين الأخيرين، تعمقت تبعية النظم الرسمية العربية، وزاد تفككها، إلى درجة تجرؤ القوى الخارجية، والأمريكية منها خاصة، على التدخل في مكونات نسيجها المجتمعي، وإذكاء نيران الفتن الطائفية والمذهبية والإثنية والجهوية فيه، واستغلالها لتجزئة المجزأ، وإخضاعه، لزيادة النهب الاقتصادي، والسيطرة السياسية والأمنية، ناهيك عن الهيمنة الثقافية.
 
   هذا هو المشهد العربي في العقدين الأخيرين، اللذين شهد العالم خلالهما ولادة العديد من التكتلات الإقليمية والقومية، في مواجهة تفرد أمريكا كقطب أوحد في السياسة الدولية، وضخامة ما تملكه مِن عوامل قوة، وتحول سياستها إلى مزيج مِن التعسف والطغيان، وانفلات غرائزها للسيطرة والهيمنة والنهب مِن عقالها، وتفجيرها لأشرس الحروب العدوانية المدمرة، وخلقها لأبشع أشكال الفوضى والركود والمجاعة والبؤس والمافيا وتجارة الجنس والبطالة والفقر وحرمان الشعوب مِن حقها في الاستقلال والحرية والتنمية الحرة، وفرض التخلف الحضاري والاجتماعي على شعوب بأكملها على نحو غير مسبوق منذ عقود.
 
   فانتصار واشنطن في الحرب الباردة، لم يؤدِ إلى عالم أكثر أمناً واستقرارا ورخاء، بل قاد إلى مزيد مِن التقاطب، حيث 30 شركة معولمة تمتلك 70% مِن السوق الدولية، وفي المقابل 32% مِن البشرية دون خط الفقر و850 مليون دون ماء صالحة للشرب، ومديونية ناهزت 1.8 تريليون على بلدان "العالم الثالث"، التي لا تقوى على سداد الفوائد، هذا ناهيك عن العودة إلى النظام الاستعماري، ووقوع أكثر مِن 40 حرب محلية، بما يعاكس تنظيرات "المتعولمين" في أن العالم أصبح سوقاً واحدة، وأن هناك نهاية للحروب وتنمية شاملة للكرة الأرضية. وكان للمنطقة العربية حصة الأسد من ويلات هذه السياسة الأمريكية.
  
وفي هذا يتجلى رياء ونفاق وخداع وازدواجية معايير الخطاب الليبرالي الجديد حول مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والشرعية الدولية، حيث يجري رفعها إلى مرتبة المبادئ المقدسة حين تخدم مصالح رأس المال الاحتكاري المعولم بهيمنة أمريكية، ويجري التغاضي عنها حين تتعارض مع هذه المصالح.
 
   قصارى القول، في مناخ السيطرة الأمريكية وأحلامها الإمبرطورية وتبعية العديد من النظم الرسمية العربية لها، تولدت تربة خصبة لتنامي حركات التحرر الوطنية والاجتماعية، كإجابات صحيحة على هذا الواقع، وإلا ما معنى ما يجري في تونس والجزائر هذه الأيام، (وقبل ذلك في أكثر من دولة عربية)، من هبات شعبية، تنادي بالحق في رغيف الخبز والحرية والكرامة؟؟! لكن ذات المناخ، وبالنظر إلى عدم الاستجابة الرسمية العربية لهذه المطالب الشعبية، والإصرار على معالجتها معالجة أمنية قمعية، شكّل مفرخة لتنامي حركات الجهل والتطرف الفكري والسياسي، كإجابات وهمية على الطغيان الأمريكي والتبعية له. وإلا ما معنى ولادة "البنلادنية"، وغيرها من الحركات الظلامية، وخروج "عفريتها" مِن قمقم أفغانستان، حيث زرعته واشنطن، إلى كامل منطقة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية بخاصة؟؟!!
 
   وهنا حريُّ التذكير بحقيقة مساهمة جهاز المخابرات الأمريكية الـCIA، وبعض الأنظمة التابعة للسياسة الأمريكية في خلق ظاهرة "البنلادنية"، في مواجهة الغزو السوفييتي لأفغانستان، خلال حقبة "ثنائية القطبية" في السياسة الدولية، رغم انقلاب السحر على الساحر، الانقلاب الذي بلغ ذروته في "الغزوة" "البنلادنية" غير الميمونة لواشنطن في 11 أيلول 2001، التي تحولت الى ذريعة لإحكام السيطرة الأمريكية على المنطقة العربية ومستقبلها، عبر نشر بدعة "الفوضى الخلاقة" لكل صنوف الحروب والفتن الطائفية والمذهبية والسياسة، وإغراقها في بحر مِن الدماء، وزرع الدمار والتخريب وعدم الاستقرار وفقدان الحرية والأمن والأمان.
 
   والحال، فإنه كدفن الرأس في الرمل، معالجة ما يجري في المنطقة العربية، من عمليات تذبيح طائفي ومذهبي، وآخرها مجزرة كنيسة القديسين في الإسكندرية، معالجة أمنية صرفة، هي ليست غير مجدية فحسب، بل وضارة أيضاً، إن هي لم تأت ضمن قراءة، وبالتالي معالجة، فكرية سياسية أشمل وأعمق وأدق.
 
   إذ يذكّر تراجع الاستقلال النسبي لأكثر من دولة عربية، والتدخل الغربي، والأمريكي بخاصة، في شؤونها، بذريعة الدفاع عن الأقليات، (فيما الهدف تفتيتها)، بما كان يوماً من ضعف للإمبرطورية العثمانية، والتدخل الغربي في شؤونها كـ"رجل مريض" بنفس الذريعة. يومها كانت النتيجة وبالُ تقسيمات اتفاقية سايكس بيكو الجغرافية والسياسية للأمة العربية. فهل يعيد التاريخ نفسه، مع فارق أن التدخل يجري اليوم في شؤون "منطقة عربية مريضة"، يبدو أنها لم تتشافَ بعد من أمراض ذاك "الرجل المريض" الذي سيطر عليها لمدة أربعة قرون من التخلف والانحطاط؟؟!!
 
   بلى، إن الأزمات العربية أكثر قتامة من أن تقوى الإجراءات الأمنية على معالجتها، بل هي واحدا من أسباب ولادتها، وواحد من دواعي تفاقمها.          

التعليقات