19/01/2011 - 09:30

مرحى للشعب التونسي وانتفاضته../ علي جرادات

-

مرحى للشعب التونسي وانتفاضته../ علي جرادات
   "حتى في المنطقة العربية، يمكن للشعوب أن تغيّر الأنظمة"، هكذا علقت صحيفة لوموند الفرنسية على نجاح انتفاضة الشعب التونسي البطلة. تعليق يعكس ما في الوعي الغربي من نمطية وعنصرية عن العرب، وكأن العرب أصبحوا خارج التاريخ البشري وقوانينه، وأن تحررهم السياسي والاجتماعي بمثابة معجزة، لا تتحقق إلا على ظهر الدبابات الأجنبية الغازية، وأن فك ارتباطاتهم، (التبعية)، مع النهب الاقتصادي والسيطرة السياسية والأمنية الأجنبية، لا يفضي إلا إلى أصولية متطرفة ظلامية جاهلة، تعيدهم قرونا إلى الوراء، بل كأن المغرب العربي تحديداً لم ينجنب ابن رشد وابن خلدون.
 
   وفي التشخيص، فإن هذا الوعي النمطي والعنصري، ليس بريئاً، ولا هو نبت شيطاني، بل نما وترعرع في مصلحة، وبفعل، تحالف مصالح نظامين سياسيين:
 
الأول: نظام نهب وسيطرة إمبريالي غربي، احتجز مشروع العرب التحرري السياسي والاجتماعي لعقود، مرة بآليات الاستعمار المباشر بقيادة بريطانيا، ومرة بآليات التبعية غير المباشرة بقيادة أمريكا، سبقت هذا وذاك أربعة قرون من التخلف والانحطاط في ظل الإمبراطورية العثمانية.
 
والثاني: أنظمة عربية قُطرية تابعة، عبثت بالاستقلال السياسي الوطني، وحولته باطراد إلى استقلال شكلي، وفصلته عن شرطه الديمقراطي الاجتماعي، حين ساوت بين "السلطة" والثروة، وحكمت خارج القانون والدستور، وفضلت الحُكْمَ بنظام السلطان والرعية الاستبدادي التعسفي الوراثي والتوريثي، أي نُظُم سياسية تابعة، "لا تثقل كاهلها بالأزمنة المتتابعة إلا بالهرب من زمنها الجوهري، الذي همشه التاريخ، ولا تلج الزمن الحديث إلا من باب قديم، ولا تلج الزمن القديم إلا فوق طائرة مستوردة"، كما أنشأ ببلاغة وعمق المفكر الفلسطيني فيصل دراج.
 
 لقد تنامى هذا الوعي النمطي والعنصري، وسكن في التكوين النفسي والعقلي للقيادات الرسمية العربية، بل، ولا يخلو الأمر من تسلله، (بوعي أو عن جهالة)، إلى أوساط حركات التحرر الشعبية العربية، وكثير من مثقفيها، بعد أن أعياهم عمق واستطالة تخلف التجربة العربية عن التجربة الأوروبية في جانبي التحديث والحداثة في القرنين الأخيرين، بل وتخلفها حتى عن المشاريع القومية الهندية واللاتينية والصينية، التي أحرزت خطوات نهضوية تنموية بعيدة المدى بعد أن انتفضت على المحتل الأجنبي، وحققت تحولات اجتماعية لصالح المرأة وضرب العشائرية والخرافات الغيبية، وأفضت إلى إنجازات ملموسة لصالح الطبقات الشعبية في الصين وفيتنام وحلقات مهمة في أمريكا اللاتينية، ناهيكم عن بلورتها لحركات اجتماعية وصيغ قانونية تكفل حياة ديمقراطية بهذا القدر أو ذاك.
 
   بلى، بفعل كل ما تقدم، تعزز ذاك الوعي النمطي والعنصري عن العرب، لكن ما غاب عن الحوامل السياسية لهذا الوعي، هو ما كان يتراكم تحت السطح على طول وعرض الساحة العربية مِن غضب شعبي، يرفض نظام التبعية واستذلال العرب ونهب ثرواتهم، إلى درجة أن يقول تقرير للأمم المتحدة "إن أفريقيا تتصنع والعرب لا، والأمية تندثر في جنوب آسيا فيما هي 40% لدى العرب"، رغم أن عائدات العرب من النفط وحده تناهز 700 مليار دولار سنويا.
 
  لقد تناسى أصحاب هذا الوعي النمطي والعنصري، حقيقة أن احتجاز الشعوب العربية في ويلات نظام النهب والتبعية، يؤجج ما لا يحصى من التناقضات الداخلية والخارجية ويستدعي إرادة التغيير، بحسبان أن الموضوعي يستحث الذاتي، ويجعل باب الحالة الشعبية العربية مفتوحاً على كل الاحتمالات، في ضوء اتساع الفجوة بين شارع مقموع جائع وغاضب، وبين قصور مستبدة متخمة وتابعة.
 
   عليه، فإن انتفاضة الشعب التونسي الظافرة، ناهيك عما سبقها، وما سيتلوها، (بالتأكيد)، من انتفاضات شعبية عربية، ليست معجزة، اللهم بمعنى "أن المعجزة ليست أكثر من الجنين الذي ينمو في رحم اليأس، ثم تولد، وعلى غير توقع من أحد، بحيث تكون الأشياء ثمة ناقصة من دونها"، كما أنشأ بإبداع غسان كنفاني، الذي ظل حتى استشهاده "غزالا يبشر بزلزال"، في رواية الأعمى والأطرش.
 
   قصارى القول، لقد شكل نظام التبعية الرسمية العربية لعمليات النهب والسيطرة الغربية، مع كل ما أفرزه من إفقار وبطالة وقمع وإعاقة للتحرر والتنمية بالمعنيين السياسي والاجتماعي، الظرف الموضوعي لاندلاع انتفاضة الشعب التونسي الشجاعة، لتكون حادثة إحراق شاب لنفسه، بمثابة الشرارة التي أشعلت السهل كله، كإجابة صحيحة على هذا الواقع، دمجت بين مطالب رغيف الخبز والحرية والكرامة. واستطاعت أن تبعث الأمل في التغيير في الوطن العربي، وتعطي مشهده وجهاً تغييريا حقيقيا مشرقا، تجاوز قتامة ما يعانيه من عمليات تذبيح وتفتيت طائفي ومذهبي وجهوي وإثني، تمارسه حركات جهل وتطرف وظلام فكري وسياسي، تخدم بوعي أو عن جهالة، مشاريع النهب والسيطرة الأجنبيين والتبعية لها.
 
   خلاصة القول، إن انتفاضة الشعب التونسي الشعبية السلمية، ورغم ما يحدق بحصادها السياسي والاجتماعي، من مخاطر داخلية وخارجية، جراء غياب جهوزية شرطها السياسي المنظم، قد حققت حتى الآن الكثير من الإنجازات التحررية السياسية والاجتماعية، لا الصعيد الوطني التونسي فقط، بل، وعلى الصعيد القومي العربي أيضاً، وأظن أن الباب ما زال مفتوحاً أمامها، لإحراز المزيد من هذه الإنجازات الملموسة، فمردود هذه الإنتفاضة على الصعيد الوطني، كما إرتداداتها على الصعيد القومي، لم تنته بعد، وهذا وذاك، يبقيان مجال صراع معقد ومتشابك بين حوامل دفع هذه الإنتفاضة وإنجازاتها إلى الأمام، وبين حوامل محاولات التقليل من آثارها وإنعكاساتها وإنجازاتها، وكل هذا لم يكن ليكون، لو أنه توفر لهذه الإنتفاضة شرط جهوزية التنظيم السياسي الواعي المتماسك، (الأحزاب)، أي لو توفر لها جسر التوسط، بين النظرية، (الفكر)، والتطبيق، (السياسة)، باستعارة استخلاص لوكاتش النظري. لكن، ورغم الغياب النسبي لهذا الشرط، فإنه ما زال هنالك فترة انتقالية، بإمكان النقابات والأحزاب والفعاليات والشخصيات السياسية التونسية، استغلال فترتها في رص الصفوف، وإعداد النفس، لتكون على أتم الاستعداد لخوض معركة الانتخابات، التي أصبح أمر عقدها على منظومة دستورية وقانونية جديدة، أمرا محسوما، خاصة بعد حيادية الجيش الوطني التونسي، ورفضه، أن يكون جزءاً من منظومة قمع الانتفاضة الشعبية، بل ومساهمته، في التصدي لمحاولات فلول الجهاز الأمني القمعي، تخويف الشعب التونسي البطل، وثنيه عن مواصلة مشوار انتفاضته التحررية السياسية والاجتماعية، عبر نشر عمليات الفوضى والتخريب والسلب والنهب.
 
وفي الختام، مرحى للشعب التونسي البطل، ومرحى لانتفاضته الشجاعة.          

التعليقات