26/01/2011 - 16:00

في الذكرى الثالثة لرحيل الحكيم../ هيلدا حبش

تأتي الذكرى السنوية الثالثة لرحيلك أيها الحكيم على دوّي الثورة الشعبية وعلى وقع رياح التغيير التي هبت من تونس والمغرب العربي لتنشر لهيبها في جميع أرجاء الوطن لتؤجج شرارة التمرد على كل الأوضاع المزرية التي يعاني منها المواطن العربي أينما وُجد، إنها ثورة على الظلم والاستبداد والقهر، ثورة على إستغلال ثروات الشعوب، ثورة على الديكتاتورية لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والإصلاح السياسي و الديمقراطي والقضاء على الفقر والبطالة

في الذكرى الثالثة لرحيل الحكيم../ هيلدا حبش
تأتي الذكرى السنوية الثالثة لرحيلك أيها الحكيم على دوّي الثورة الشعبية وعلى وقع رياح التغيير التي هبت من تونس والمغرب العربي لتنشر لهيبها في جميع أرجاء الوطن لتؤجج شرارة التمرد على كل الأوضاع المزرية التي يعاني منها المواطن العربي أينما وُجد، إنها ثورة على الظلم والاستبداد والقهر، ثورة على إستغلال ثروات الشعوب، ثورة على الديكتاتورية لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والإصلاح السياسي و الديمقراطي والقضاء على الفقر والبطالة.
         
إن الدماء التي سالت في شوارع تونس والضحايا الذين أحرقوا أنفسهم كأقصى أنواع التضحية بالذات وذلك تعبير مرير عن رفض الذل والإهانة والدفاع عن الكرامة والحرية قد أحدثت هزة سياسية لا مثيل لها.
 
          إن الشهيد محمد بوعزيزي الذي أقدم على حرق نفسه ليشعل الأمل بالتغيير وينتقم لكرامته، كان أقصى طموحه في الحياة أن يؤمن لقمة العيش لأبنائه وإخوانه فتحول من شاب جامعي إلى بائع للخضار وانتفض على الذل والهوان وأصبح رمزاً للعزة والكرامة.
 
 إنها إنتفاضة على الطبقة الحاكمة وأعوانها الذين نهبوا ثروات الشعب وتركوا الآف الشباب الجامعيين والمثقفين في مهب الريح. مشهد مؤلم لكنه يثير الفخر والاعتزاز بشعبنا المعطاء الجبار. كيف يمكن أن يحدث ذلك في بلد يستقبل أكثر من إثني عشر مليون سائح سنوياً ودخله السنوي من السياحة يقدر بالمليارات؟ كيف يمكن في بلد مثل الجزائر يتدفق فيه النفط كالشلال الهادر ويملك مئة وخمسين مليار مــن احتياط النقد الأجنبي أن يعاني شعبه من الفقر والبطالة وأزمة السكــن الخانقة؟ أين الخلل في ذلك ومن يتحمل المسؤولية؟ وقس على ذلك في معظم الدول العربية فالمعاناة نفسها والسبب واحد الا وهو تفشي الفساد على أعلى المستويات.
 
لكن ما حصل في تونس سيبقى درساً لمن لا يتعظ وشعلة تنير درب الحرية والعدالة الاجتماعية. إن صرخة الغضب التي أطلقها شعب تونس العظيم ستبقى صفحة مجد في تاريخ الأمة العربية.
 
          كنت تردد دائماً يا حكيم ان الثورة الفلسطينية قامت لتحقق المستحيل لا الممكن. وها هو شعبنا في تونس كما في فلسطين يرفض الحلول الوسط ويرفض الممكن القابل للمساومة والتفاوض و التنازلات المجانية و تبادل الأراضي و كل ما يمس الثوابت الوطنية بالصميم. لا تفاوض مع الظلم ولا مساومة على الحقوق مهما غلت التضحيات حان الوقت للحلول الجذرية، فكفى مهادنة وكفى لف ودوران على حقوق الشعب العربي والفلسطيني واستغلال تضحيات جماهيرنا لمصالح ذاتية ضيقة، فإن شعبنا قادر على انتزاع حقوقه وتقرير مصيره فوق أرضه ليعيش حراً سيداً فإرادة الشعوب هي الأقوى. هكذا علمتنا يا حكيم وهكذا ستبقى تعاليمك مغروسة في وجداننا كالنقش في الحجر.
 
كم أتمنى أن يتمكن الشعب التونسي من حماية الثورة والإنجازات التي حققها بدمه حتى لا يستطيع الإنتهازيون الالتفاف على مكتسبات الشعب وانتفاضته المجيدة.    
 
تأتي الذكرى السنوية الثالثة لغيابك أيها الزوج المحب ورفيق الدرب الوفي والأب الحنون والجد الاستثنائي الذي كان قلبه يتدفق حباً وحناناً ولهفة على أحفاده الذين أناروا حياته وسط الظلام الدامس وادخلوا البهجة إلى قلبه بعد رحلة عذاب وشقاء استمرت عشرات السنين قضيتها مدافعاً أميناً عن كرامة شعبك وأمتك. ثلاث سنوات كنت الحاضر دائماً وابدأ وصورك لم تفارق مخليتنا وتحتل ذاكراتنا وكل ركن من أركان البيت الذي كنت تعشق الإقامة فيه معنا وبيننا وتملأ الأجواء فرحاً وسروراً.
 
          إن صورك ما زالت معلقة على جدران المنازل في شوارع القدس ورام الله ونابلس والجليل وغزة وفي كل المدن الفلسطينية وأزقة المخيمات في فلسطين وسوريا ولبنان والأردن، وفي قلوب الملايين من أحرار العالم الذين يساندوننا ويتضامنون مع شعبنا في مرحلة النضال الوطني التحرري. إن المواجهات اليومية التي يخوضها شعبنا مع عدو همجي لا يرحم يعمل ليلاً نهاراً على مصادرة حقوقنا وابتلاع أرضنا وإقامة المستوطنات في القدس وفي الضفة الغربية ليخلق واقعاً جديداً ويقطع الطريق على كل الذين يراهنون على المفاوضات العقيمة التي لا تلبي الحد الأدنى من طموحات شعبنا. إن المقاومة ليست إرهابا ولا عنفاً كما يعتقد البعض بل هي الخيار الوحيد وحق مقدس ومشروع لاستعادة الحقوق المسلوبة.
 
          إن الانتهاكات التي يقوم بها العدو الإسرائيلي يومياً من تعد على الممتلكات وهدم البيوت وتشريد السكان ومصادرة الأراضي وقتل وجرح كل من يعترض مخططاته، مشهد يتكرر أمام الصمت والتخاذل العالمي. قهر لا مثيل له فلو حصل هذا المشهد في أي بقعة في العالم لقامت الدنيا ولم تقعد. هذه هي ازدواجية المعايير التي يتبعها العالم المتحضر. إن المناضلة جواهر أبو رحمة التي استشهدت في بلعين أثناء الاحتجاج السلمي على جدار الفصل العنصري قضت بقذيفة غاز سامة كتب عليها " صنع في " USA" وإن جماعات السلام الإسرائيلية سلمت السفير الأميركي في تل أبيب فراغات قذائف الغاز التي حملت سموماً، وكانت الإصابة مباشرة في قتل الشهيدة الشابة جواهر.
 
وكذلك الشهيد القواسمة في الخليل الذي أطلق عليه جنود الاحتلال رصاصات الغدر وهو نائم في فراشه، واعترفوا بعد ذلك أنه قُتل عن طريق الخطأ أثناء حملة اعتقال ستة من المناضلين الذين أفرجت عنهم السلطة الفلسطينية، وفي اقل من 24 ساعة كانت إسرائيل تعيد اعتقالهم! وعشرات الشباب الأبرياء الذين يقتلون على الحواجز لا لذنب ارتكبوه إلا أن جنود الاحتلال يعيشون حالة إرباك وخوف من كل شيء يتحرك من حولهم.
         
إن المشهد الأخير للجرافات الإسرائيلية وهي تغرس مخالبها لتقتلع وتدمر فندق شيبرد الشهير في حي الشيخ جراح في القدس منظر يثير الغضب والإستفزاز فهو معلم من معالم القدس وله مكانة سياسية وتاريخية فكان مقراً لمفتي القدس ورئيس الهيئة العربية العليا الحاج أمين الحسيني. إن عائلة الحسيني عائلة مقدسية عريقة تمتد جذورها في أعماق الأرض في فلسطين.
 
          كان بيتنا في القدس قريباً من حي وادي الجوز ومجاوراً لبيت الشرق المعروف ويطل على منطقة الشيخ جراح، وكان مشهد فندق شيبرد تحيط به أشجار السرو والصنوبر الباسقة والبيوت الحديثة المترامية من حوله، تلك المرتفعات والتلال كانت من أجمل المشاهد التي كنت استمتع بها يومياً من شرفة المنزل، مناظر جميلة وإطلالة خلابة ما زالت تشغل مخيلتي وذاكرتي. لكن ذاكرتنا عصية عن التدمير مهما جرفت ومهما اقتلعت الجرافات الإسرائيلية لن تستطيع أن تجرف الحق والحقيقة فهي واقع موجود وذكريات لن تمحى رغم الإبعاد القسري والسنين الطويلة من الغياب. ستبقى القدس عاصمة أبدية لفلسطين التاريخية بتلالها ومبانيها وأسوارها ومعالمها ومقدساتها وكل شارع في القدس يشهد أني وأبناء جيلي قضينا اسعد أيام الطفولة البريئة والمراهقة وأن أقدامنا وأقدام أجدادنا وطأت تلك الشوارع العتيقة قبل أن تدنسها أقدام الاحتلال، فلترحل إسرائيل عن هذه الأرض المقدسة فإن صرخة الغضب الشعبية آتية لا محالة وإن إرادة الشعوب لن تقهر.
 
تحية إلى الشعب التونسي العظيم وإلى الشعب الجزائري البطل والشعب العربي في كل مكان، تحية إلى شعبنا الفلسطيني داخل الوطن المحتل وفي غزة الأبية الصامدة وأينما وجد في المنافي والشتات، تحية إجلال و إكبار لجميع الشهداء الأبرار في الوطن العربي الذين قدموا أرواحهم قرباناً في سبيل الحرية و العدالة والمساواة. المجد و الخلود لك يا حكيم ولك منا كل المحبة والوفاء.

التعليقات