27/01/2011 - 11:27

بوحي تونس، هواجس وفرص. / جوان ريناوي

في 17 كانون الأول من العام 2010، أقدم محمد البوعزيزي وهو شاب يعمل بائعا متجولا في الجنوب التونسي المحروم على إحراق نفسه غضبا واحتجاجا أمام مبنى المحافظة، بعد أن قامت دورية محلية بضربه وإهانته على الملأ، كأنها لوحة غاضبة رسمها ناجي العلي. ولم يكد ينقضي شهر واحد حتى استقل رأس النظام طائرته باحثا عن ملجأ يقبل استضافته

بوحي تونس، هواجس وفرص. / جوان ريناوي
في 17 كانون الأول من العام 2010، أقدم محمد البوعزيزي وهو شاب يعمل بائعا متجولا في الجنوب التونسي المحروم على إحراق نفسه غضبا واحتجاجا أمام مبنى المحافظة، بعد أن قامت دورية محلية بضربه وإهانته على الملأ، كأنها لوحة غاضبة رسمها ناجي العلي. ولم يكد ينقضي شهر واحد حتى استقل رأس النظام طائرته باحثا عن ملجأ يقبل استضافته.
 
ستبقى الثورات عموما مادة ثرية للمؤرخين وعلماء الاجتماع وللأدباء، وستظل تلهب مخيلة الجماهير وعاطفتها، وسيسفك حبر كثير ولن يغطي ما حصل في تونس خلال هذا الشهر المثير وقبله وبعده، ولن يعطي الدم الذي سفح حقه ولا البطولات، ولن أطرق في مقالتي المتواضعة هذه ما ميز التجربة التونسية عن سواها وكل السياق الذي سبقها ورافقها، ولا ما ميز سواها عنها وعن غيرها. فما ظل يشغل بالي وأنا أكتب هذه السطور للمرة الأولى في اليوم التالي لهروب الرئيس التونسي كان وجه الشبه بالرغم من الاختلاف، التشابه العربي وبعض تفاصيل حالاته.
 
بالرغم من المواقف المعروفة للنظام التونسي فيما خص الاصطفافات التي أخضعت المنطقة العربية مؤخرا ومواقفه قبلها، وبالرغم من نزعة الدكتاتورية التونسية للنأي بجلدها بعيدا عن الصراعات الكبرى التي قسمت العرب منذ فجر الاستقلال مع انحياز تاريخي متوارث إلى "المعسكر الغربي" عالميا، فإن علاقتها مع المجتمع قد احتوت كذلك من السمات المحتقنة و التي كانت محورية كما أظن في خروج الناس إلى الشارع إضافة إلى بقية خصوصياتها "التونسية"، الشيء الكثير الذي يشبه أغلب الأنظمة العربية في زماننا، بغض النظر عن تعريفها "جمهورية" أو "ملكية" وبمعزل عن مواقفها من القضايا القومية التي تهم الناس فعلا، ومن السياسة الخارجية الأمريكية.
 
فما وجه الشبه بين الأنظمة رغم الاختلاف؟
 بعيدا عن العدوان الخارجي، أو بقربه وبالتفاعل معه وترافقا مع انحسار مشاريع التغيير الكبرى، ثم بالتفاعل الهامشي لاحقا مع المستجدات العالمية ونهاية الحرب الباردة، تطورت في الدول العربية خلال العقود المنصرمة ظواهر غير مسبوقة في مداها تجاه الداخل، من حيث تداعي بقايا الدولة الجمهورية وتآكل ما صمد من "الحيز العام"، وتغول الفساد، وانتقلت أنظمة برمتها لتتصرف كأنها زمرة فهلويين حديثي النعمة، وراجت تقاليد من محاباة أولي القربى غير مشهودة بصلفها، وعلى كل فيما ورد من إهانة يومية للناس، ولم يكن خروج أحد الزعماء العرب للبوح بانحيازه إلى "زين العابدين" إلا علامة على تذويت الشعور بـ "المصير المشترك" في هذا الزمان بين القيادات من مختلف المشارب، ومصلحتها في "الاستقرار" المبني على "التجاور" و"الستاتوس كوو" بعكس كل ما جرت عليه العادة قديما وبما يشبه تفاهم ملوك أوروبا، لا "أفريقيا"، بعد العام 1848، بل بما يشبه تفاهم النبلاء سابقا. وليس الارتباك الرسمي في التعامل مع التداعيات التونسية إلا مؤشرا على وجود حيز عربي في وعي "العرب" فعلا، سواء ناصبوه العداء أم لم يفعلوا. وهو وعي سنعيد اكتشافه كل مرة دون أن يلحظ قسم منا الطاقات الكامنة فيه.
 
وقد سبق و أعادت بعض الأنظمة العربية إنتاج الشعار القومي منذ السبعينيات وبعدها، لكن في مرحلة هزتها هزيمة حزيران، ووفاة جمال عبد الناصر، وانسحاب مصر من دورها الوازن وصعود نظام "إصلاحي" فيها نفسها لم يرسخ من "إصلاحاته" إلا تلك الأنماط ذاتها من تشعب الأوليجارشية والعدمية، واحتجاز بلد كبير لينصاع بالأوامر لسياسة الإدارة الأمريكية الموجودة حتى لو تناقضت مع مصلحته القومية والوطنية المصرية. خذوا "مصالح الدولة" في وادي النيل مثلا صارخا إلى السماء وغيرها الكثير.
 
 
وإبان الخمسينيات مثلا، ارتكزت التجربة الجمهورية فيما ارتكزت على إمكانية تخيل الفصل بين "العام" و"الخاص"، الحيز العام والحيز الخاص، سواء تطور هذا الاتجاه أم تعثر، أما في الجمهوريات المتأخرة، تلك القومية الإيديولوجية وهي ما يهمني هنا، فقد تداعى هذا التراث حد الاندثار تقريبا. ويبدو أن تآكل الفكرة الجمهورية قد ترافق مع تكلس الإيديولوجية القومية نفسها. وإذا كانت الفكرة القومية في تجلياتها الإيديولوجية المتأخرة ضمرت لتصبح مجرد "عقيدة رسمية" تبرر حق نظام في حكم دولة صغيرة متنازعة مع جيرانها فإن اندثار الفكرة الجمهورية الذي رافق ذلك كان في عودة العمومي مجددا ليلتحم مع الخصوصي وكأمر مفرغ منه تقريبا، وليبدأ انصهار الأمجاد الوطنية والمعنى كل المعنى مع أمجاد القائد الذي بدأ بتشكيل سلالة حاكمة مع ما يترتب عليه من إفساد، وبات نظامه تدريجيا أشبه بتقليد عالمثالثي شاحب لنابليون بونابارت إذ حكم كإمبراطور باسم الثورة الفرنسية. لكن "الأباطرة" العرب في حالتنا لم يحكموا إمبراطوريات فعلا بل دولا مأزومة من العالم الثالث وجمهوريات "صمدت" أو ظهرت على إيقاع الهزيمة الثقيلة وبعد رحيل ناصر وانقضاء مرحلة وانسحاب مصر من دورها القيادي وصعود شأن الأنظمة النفطية التي لم تتحمس يوما للمشاريع السياسية الكبرى.
 
وما دمنا في سيرة "الالتحام" فإن هذه العملية عادت لتجمع ما افترض البعض أن السيرورة التاريخية قد فصلته، فكادت الثروة والسلطة والطبقة الاجتماعية تعود لتكون كتلة واحدة متجانسة، وقد كان الإقطاعي القديم فارسا مقاتلا وسيدا مفوضا في منطقته وثريا في راس الأثرياء ونبيلا في طبقته الاجتماعية، أما الانصهار المستجد لتلك الأحياز عربيا فلن يكون شبيها بإمكانية "تفاعلها" مجددا لكن بعد انفصالها وإعادة إنتاجها في الأنظمة الرأسمالية الحديثة على إشكالاتها وظلمها وتغيراتها، بل سيشبه هجينا وسطا بين الإقطاع القديم وبين الرأسمالية في نمط "الإنتاج" والأرستوقراطية المحدثة والبرجوازية المتخلفة في البنية الاجتماعية ولو بسطنا لقلنا أنه أخذَ من كل جانب "أسوأه". وبدلا عن مكوس السادة في إقطاعهم وهو الذي أقصته من التاريخ الملكية المطلقة قبل الثورة الصناعية، فإن القرن الحادي والعشرين يحل على العرب وفي بلادهم سلالات احتكارية وامتيازات على الوكالات الأجنبية و رؤوس أموال قائمة على تحصيل التراخيص وبدلا عن الإقطاع الزراعي القديم فعندهم اليوم من يستولي بالنَسب أو المصاهرة على الثروات "الوطنية" والموارد الخام واليد العاملة المفقرة!
 
وفي أحد الأنظمة العربية اختير النجل الثاني للرئيس ليشرف على بعض أهم الأجهزة العسكرية والأمنية، لأنه احتفظ بدرجة من الرصانة والعقلانية كما يستشف ودماثة الطباع ولكن لأنه ابن أبيه في الأساس ولأن النظام بني هكذا وعلى محاباة أولي القربى ولأنه كان الأنسب من بين "أفراد الأسرة" تحديدا. أما خارج الأجهزة الأمنية وإشكالات الحفاظ على النظام فلم يكن الوضع مختلفا، و لعله كان أشد، فقد كفت بالتدريج يد الولد الآخر، بِكر الرئيس، عن المفاصل الأمنية والعسكرية، وهو الموصوف عند والده كما نُقل بـ "الرعونة" و"التهور"، وأطلقت يده في كل ما عداها، ولإشغال نفسه فقد منح حق الاستحواذ على اتحادات الشباب والرياضة والثقافة واللجان الاولمبية بطول "الجمهورية" وعرضها يتصرف فيها كما يشاء، عدا عن كونه "رجل أعمال" هو الآخر وصاحب نفوذ وحاشية وقصور في كل ناحية وختم رسمي يحمل "نسر الجمهورية"! ولا يتوقف انحلال جمهورية الدولة عند المفاصل، بمعنى العقد هذه المرة، المتعلقة بالأمن والدفاع بل يتخطاه ليشمل كل حيز.
 
عندما تتحول "البنوة" إلى صفة رسمية وعلاقة القربى إلى رصيد قابل للصرف أو كما يقال في العبارات الماركسية "سلعة ذات قيمة تبادلية" فإن النظام لا يعود "جمهوريا" من أصله قبل أن تنزع عنه صفة الديموقراطية، أو "الديموقراطية اللبرالية".
 
 وإن كانت تلك الأنظمة أكثرها لا تزعم أنها "ديموقراطية" حتى على الطريقة السوفييتية، خلا دولة واحدة ما انفكت منذ الستينيات تحتفظ بالتسمية، فإن كل "الجمهوريات" تصر على أنها "جمهورية"! وقد درج بعض القادة أول عهدهم على تقريب أشقائهم وأبناء العمومة والخؤولة، الذين سرعان ما كان ينحون جانبا لصالح الأبناء الذين شبوا في تلك الأثناء، ولا يبدو الزعيم العربي "مجاهدا لنفسه" إلا عندما يقدم أشقاءه على أولاده مثلا، ونكاد نتخيل أن الرئيس العربي العادل هو من "يعدل" بين أبنائه الذكور في اقتسام البلد، أما الزعيم العربي المتنور فهو من لا يفضل ولدا على بنت، قل "على صهر" في التطبيق، والناس على كل هذا شهود وتتراكم مرارتهم يوما إثر يوم ويغذي شعورُهم بـ "القرف" كما يقال بالعامية مشاعرَ أخرى تدفعهم نحو العدمية أو الثوران .
 
ستكون مهمة إعادة الاعتبار لمفاهيم مثل "الحيز العام" و "المصلحة العامة" أمرا لا غنى عنه في السنوات القادمة، وهو استحقاق لم تعد جهة في زماننا "تروم خيرا" لـلعرب قادرة على التملص منه، لا في المشرق ولا المغرب ولا حتى بين فلسطينيي الداخل الذين أنا منهم، ولا الأنظمة ولا أحزاب المعارضة التاريخية والمستجدة، والتي يفترض أن تطرح بديلا هو في صلب تعريفها كـ "أحزاب معارضة" وأن تقدم ما يتاح لها من مثال وقدوة حتى لو لم تستلم زمام السلطة على دول ومجتمعات، ويذكر بعضنا ما آلت إليه بعض اعرق الأحزاب في هذا الخصوص تحديدا وفي غيره من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه وهي في محلها ومن دون أن تعتلي سدة الحكم، كأنها كانت تقول للناس: "هذا ما ينتظركم". وينسحب نفس التعميم على مؤسسات المجتمع المدني كما تسمى طالما صرحت بأنها "مدنية" أو قل، تصبو إليها على الأقل في الحالة العربي المعاقة!
 
لا وصفة جاهزة تدلنا كيف السبيل إلى ذلك، يا ليت، لكن من الواضح أن أدوار الأفراد ومناقبهم في مفترقات تاريخية ومواقع قيادية وحاسمة لا يمكن الاستهانة بها، ولا نظرية علمية فيها إجابة وافية لماذا حول هذا القائد بلده إلى مزرعة بلا وازع ولماذا اتخذ غيره طريقا مختلفا، إذا لا ضمانة ألا تفعل قيادة هذا في بلد متطور نسبيا من حيث مجتمعه وبنية اقتصاده بل وتقاليده السياسية وقد يتعفف عن الأمر ضابط انقلابي شاب في دولة متخلفة، ففي السلوك الإنساني الكثير من الدوافع غير العقلانية والذاتية، مثلما أننا سنعجز عن التفسير لو استخدمنا السوسيولوجيا أو حتى الإيديولوجيات "العلمية" و"المادية" لنفهم لماذا تحولت مرارة هذا المعارض الوطني لنظام عربي ما إلى استعداد للتحالف مع أمريكا أو إسرائيل بينما لم يذهب رفيقه من حزبه نفس المذهب، يمكننا أن نرصد عوامل سهلت انتقال تيارات أو حملة إيديولوجيات وأخرى أعاقت، وحتى عندها فلن نمتلك إجابة شافية، أما على مستوى سلوك الأفراد فالأمر مختلف، ليس أن التركيبات الشخصية والنفسية للناس وسلوكياتهم هي مسائل عصية تماما على التحليل لكنه جانب يخص النفس البشرية للأفراد ومسالكها الوعرة لا العلوم الاجتماعية المقارنة حتى لو تفاعلت معها وحتى لو زعم البعض بوجود "علم نفس ثقافي" حيث ينفخ الأفراد فيقال أنهم يعبرون في سلوكهم ولو جزئيا عن "حضارة" هي هوية جوهرانية لملايين من البشر، وتقزم "الحضارات" لتوصف بلغة الأفراد!
 
كلمة عن سورية: 
 تمكن نظام "الجمهورية العربية السورية" خلال العقدين المنصرمين من صد مشاريع أمريكية مرتين على الأقل. وقد استُهدف لبنان مباشرة بالمشاريع مثلما استُهدفت سورية من خاصرتها ورقبة فلسطين و كل قضية قومية لو افترضنا وجود شيء كهذا، وقد نجح السوريون في أحلك الظروف ومن خلال الرهان الصحيح على القوى الوطنية وطاقتها الكامنة وتضحيات أبنائها ومن خلال سلوكيات بعضها مبدئي وبعضها الآخر ميكيافلي وليس أقل، ومن خلال معرفة وثيقة بالسياسة اللبنانية وحيثياتها وصلة لا يمتلكها إلا الأشقاء فعلا مقارنة بالأمريكان والإسرائيليين وأجهزتهم وجحافل المستشرقين، كما راهنوا على النفور التلقائي عند الناس من الدولة الصهيونية وحليفتها ومن كل ما تمثله. وقد حقق السوريون ما حققوه مرة إبان انحسار الدور السوفييتي خلال الثمانينيات وانشغال العرب في قتال إيران و"جهاد الملحدين الشيوعيين" من نيكارجوا إلى أفغانستان وانشغال بعضهم الآخر في تغيير بنية اقتصاد الدولة عن طريق الانصياع المجرد لشروط البنك الدولي وبيع القطاع العام والبلاد والعباد بأحقر الأثمان، وعندما استمات قسم من الأنظمة أيضا في دفع نخب منظمة التحرير كي تنخرط في اللعبة الخارجية الأمريكية و التي لم تكن بدورها تحتاج إلى تشجيع .
 
وتحفظ للنظام السوري تلك الأدوار رغم الشح والمحدوديات واعتلال الموازين، مثلما يحفظ له أنه عاد ليكون مجددا مع حلفائه، عناصر مترادفة لصد مشروع إدارة بوش خلال السنوات الأخيرة والذي تهالكت أمامه أكثر الأنظمة العربية بما يفوق كل حلفاء أمريكا في العالم. ولا يغيب ذلك إلا عن ذوي الغاية من العرب أو الذين تعميهم مرارتهم المشروعة أو غير المشروعة ولا يجهله كنتيجة قائمة على الأقل لا موظف ولا سفير.
 
وأرى شخصيا أن السلوك السوري قد عبر عن موقف أصيل، بمعنى حقيقي، أي أنه لم يكن مجرد مناورة في المقام الأعم ولا مجرد رغبة بـ "النفوذ"، فللنظام خطوط مبدئية وإيديولوجية حقيقية يؤمن بها بالرغم من كل الممارسات والمآخذ. ويشفع الموقف العريض للنظام السوري داخليا وخارجيا في هذه الأثناء وفي التقاطع التاريخي والجغرافي الذي أشغله ويعززه كون مواقفه في هذه الناحية منسجمة مع مواقف الناس وانتمائهم وتمكنه قوة حلفائه والمقاومة ومجتمعه العروبي جدا، كما قد تساعده أنماط النمو "المتوازنة" إلى حد ما والتحفظ في قبول الشروط المصرفية والتجارية "الدولية" ومرونته للانفتاح على آفاق جديدة للتعاون الإقليمي، وتظهر هذا بعض الأرقام والبيانات، لكن هذا وحده أو "كله" لو شئتم لن يكون كافيا إلى الأبد، فسورية لا زالت دولة متوسطة الحجم في المعايير الإقليمية ذات اقتصاد محدود نسبيا وغير قادر على استيعاب الكوادر والطموحات التي تزخر فيها البلاد، كما أن شكل النظام السياسي نظريا والممارسات النافذين على الأرض فوق النظرية لم تعد تعينه على مواجهة التحديات، فالتطورات لن تبقى تمهل أصحاب الشأن إلى أن يرث الله الأرض، وعلى من استمر يحمل موقفا خلال العقود المنصرمة أن يعرف كيف يطور بنية نظامه في مقبل الأيام.
 
مقارنة عابرة مع إيران
وإذا قارنا الأوضاع العربية بإيران مثلا، فقد أسفرت التظاهرات وأعمال الاحتجاج التي وقعت على طول الجمهورية الإسلامية وعرضها مؤخرا عن بقاء النظام منيعا. وهي لم تكن من حيث التنظيم والانتشار وانخراط قطاعات واسعة فيها بأقل شأنا من مثيلتها التونسية، كما لم يكن رد النظام أقل عنفا. لن أدعي أنني "أعرف" أسباب صمود النظام ولا أعرف إن كان أحد أهلا للزعم بذلك، لكنا مع هذا قادرون على مقارنة الخلفيات والسياقات على نحو ما، فقد اندلعت الصدامات الإيرانية والمجتمع منقسم فعلا، ليس طائفيا ولا قبليا بل في الموقف وكل ما يليق بالدول الحديثة والمتصالحة مع هويتها القومية. ولقد مارست المعارضة الجدية قوى من داخل النظام الإسلامي وأخرى من خارجه وثالثة بين البينين. لكنه بقي على الوجه الأخر يحظى بشرائح اجتماعية لا تقل عن الأولى حجما ولعلها تزيد، تؤيد النظام حتى ساعته وتنحاز له، بمعنى أن عمق تداخل النظام والدولة بالمجتمع ودرجة تفاعلها قد فاق كل مثال عربي!
 
ليست "الجمهورية الإسلامية" أو "جمهورية إيران الإسلامية" كما تسمي نفسها دولة ديموقراطية لبرالية، لكنها دولة على الأقل، ذات إيديولوجية شمولية، لكن جمهورية فعلا، وآليات حراك تسمح للمجتمع الحي بالتفاعل معها والتطور وتجمعها هوية قومية غير متأزمة. ولو غلوت لفظا لقلت أن القمع ذاته في إيران وقمع الحريات الفردية على وجه الخصوص ينفذ بأدوات "جمهورية" لو جازت العبارة وتصل "شمولية الدولة" إلى المجتمع بالاستناد إلى أغلبية تتيحها أنماط متخلفة من الديموقراطية لا تساير ما أنجزته البشرية خلال قرنين، وبهذا المعنى العيني هي "متخلفة" وكأن المفاهيم الديموقراطية لم تلتق بعد إلا في النزر اليسير مع المدرسة اللبرالية. وتعتمد سلطة الجمهورية على هذا أيضا لا على ولاية الفقيه وحدها، بل يجوز القول إنّ "ولاية الفقيه" نفسها على كل معيقاتها الحداثية هي نظام مستحدث ومحدث الآليات والسلوك وليست مجرد نظام حق رباني قرسطوي، لكنه بالقطع ليس لبراليا ولا يدعي ولا متنورا حتى. وإن احتوى النظام الإيراني من عناصر التخلف في مجالات عدة فهذا مقارنة بالدول الصناعية المتقدمة لكن ليس مقارنة بأي دولة عربية طبعا ولا بأكثر دول العالم الثالث.
 
ولعل الصورة المثيرة للفهلويين العرب "المتحالفين" مع العصا الأمريكية "المتاحة" في ساعتها ومع بعض أكثر الأنظمة تخلفا على مستوى العالم قاطبة، وهم يعظون إيران في الديموقراطية واللبرالية كأنهم توم فريدمان يكتب في النيويورك تايمز، هو مشهد يكثف في داخله كل حالة الهامشية العربية وأكثر المآسي والمفارقات، وما عاد لينكأ الجراح مجددا هو مشهد رجوع كتائب هؤلاء وقد ارتبكوا بين خارج مرتجلا ليدعي دعمه للثورة التونسية وكأنه موقف "طبيعي" وفي أثر رجعي، وعادة ما كان بعض هؤلاء يجلبون تونس كمثال على القيادة التي تتعالى على "الشعارات" قل عمليا على كل التزام أخلاقي، وبين من يحاول الظهور بمظهر الحكيم الوحيد في البلدة والذي يتذكر بتعقله أن الثورات قد تعمها الفوضى، و"أشكرك على الإضافة العظيمة" كما في إحدى المسرحيات.
 
كلمة أخيرة، وطوباوية من الزمن المعلوم
بصدد المناقب مرة ثانية أقول: أظهرت تونس لنا مجددا كم مهما كان وسيبقى، دور أصحاب القضايا والمؤمنين بعدالتها، وكيف أن فئة وفئات شق على الطاغية شراءُ ذممها كانوا في الأخر بؤرة عجلت من نهايته عندما تهيأت الفرصة. فطوبى لهم وطوبى للتونسيين وكل عام وأنت بخير.
 
 
بعد النص
 قرأت لاحقا مقالة أخرى كان د. عزمي بشارة قد نشرها بصدد الثورة التونسية لفتني في تلك المقالة الغزيرة الكثير وما يستحق أن يفرد له ما يكفي من الوقت، لكن أكثر ما كان يعنيني في خصوص مقالتي أعلاه، هو إصراره على توكيد ميزة ما طبعت الدكتاتورية التونسية باعتبارها نظاما بغير قضية، ولو استمر وقال باحتمال وجود "نوع آخر" من الدكتاتوريات يحمل قضية لما كان مجافيا للحقيقة. وللأمانة، فإن هواجس التفريق بين "نظام عدمي" وآخر حامل لقضية هي هواجس تقلق نفس كل قومي جدي وأعرف أن هذه النواحي تقلق عزمي بشارة كما أنه يستعصي على الناس التمييز بين "الصالح" و"الطالح" في المعمعة. والرجل يفكر مئة مرة كما أظن قبل الكتابة، فالمقالات حين تكتب للعرب بالعربية لا تحلل فحسب بل تصنع الرأي العام أيضا، أو على الأقل تؤثر في النخب، وأعتقد أن كل هذا كان حاضرا في ذهن عزمي وهو يكتب وشعوره بالمسؤولية القومية كما أعرف. لكن الحقيقة الأخرى التي يدركها عزمي بشارة جيدا بل وتتلمسها الجماهير هي أن الأنظمة العربية كافة لا تشترك في تلك الخصلة "المجردة" وحدها، "الدكتاتورية" فحسب، بل تشترك في أنماط إضافية، ذكرناها آنفا، مشتقة منها أو غير مشتقة، قولوا ما ترون، أو "مشتقة منها" في هذا السياق التاريخي أو "متعالقة معها" بحيث قد يدعي البعض: "باتت مكافحة الفساد والزبائنية مهمة شاقة إذا قفزت عن التحدي الديموقراطي في أيامنا"، ولا آخذ هذا الكلام على بداهته بالرغم مما فيه من الصحة، لكن يجدر القول أن الديموقراطية هي نظام أرقى من حيث المبدأ، بل كنت لأقلب المقولة وأقول سيصعب تخيل مهمات التحول الديموقراطي، خصوصا في الأنظمة "الحاملة للقضية"، من دون البدء بإعادة الاعتبار إلى مفاهيم سحقتها "التطورات" مثل المساواة، كل مساواة، وفصل الخاص عن العام، وهو الذي انتُهكت "حرمته" منذ زمن و بما يتخطى مبررات العقد الأمنية، و"الولاءات الجاهزة" أو لنقل "السهلة نسبيا" وحماية "منجزات النظام" أو حمايته مجردا أحيانا! وانتقلت النخب الحاكمة من هذا إلى حالة من الاستباحة لكل مجال، بلا وازع، والاستغراق بالتمتع في الممتلكات والمؤسسات العامة، وبالجاه والمال ومتعة التسيد و"الاستزلام"، وأنماط التسامح مع تلك السلوكيات الذي يبدأ في الدوائر الأقرب إلى القمة، والأمثلة في كل دولة أكثر من أن تحصى.
عندما نتناول سلوكيات متعلقة بمحدودية النفس البشرية كما بعوامل أخرى طبعا، فسيصعب تخيل نزعة منتشرة للإنعام والتسامح وهي تتجاهل الحظوة الرفيعة لذوي القربى، فهذه ميزة الشيء، ويبدأ الفساد هنا حتى قبل أن تشرع "الشخصية المهمة" بتلقي الرشاوى وبلا حاجة مبدئية لذلك. ولعل المهارات النظرية تساعد على تشخيص العلل، لكنها وحدها قد لا تكفي. ولا تنفك التجربة تعلمنا أن التعفف عن التجاوز، نعم التعفف كتدريب ذاتي وتهذيب النفس، والتنشئة على القيم والممارسة منذ التأسيس، هي عوامل حاسمة في هذا الخصوص، و تيسر عملية التغيير، "الارتقاء" في ظننا، مقارنة بوراثة نظام بأوضاعه القائمة، عرف تلك الممارسات منذ ردح.

التعليقات