29/01/2011 - 12:35

"الثورة" تعود إلى القاموس../ الفضل شلق

ما بدأ في تونس يستكمل في مصر. وما استكمل في مصر يعم الوطن العربي. لن يكون الحدث التونسي فريداً، ولم يكن تعبيراً عن فرادة تونسية، كما قال السيد جيفري فيلتمان مؤخراً. تتشابه الأحداث في أقطار عربية عديدة، ومنها اليمن. يستفيد المتظاهرون في قطر عربي من تجربة الأقطار الأخرى. المهم هو أن كلمة ثورة باقية في القاموس العربي، وقد كدنا أن ننساها. يوجب هذا النسيان اعتذار المثقفين العرب، أو معظمهم، من شعوبهم

ما بدأ في تونس يستكمل في مصر. وما استكمل في مصر يعم الوطن العربي. لن يكون الحدث التونسي فريداً، ولم يكن تعبيراً عن فرادة تونسية، كما قال السيد جيفري فيلتمان مؤخراً. تتشابه الأحداث في أقطار عربية عديدة، ومنها اليمن. يستفيد المتظاهرون في قطر عربي من تجربة الأقطار الأخرى. المهم هو أن كلمة ثورة باقية في القاموس العربي، وقد كدنا أن ننساها. يوجب هذا النسيان اعتذار المثقفين العرب، أو معظمهم، من شعوبهم.

يصعب التنبؤ بحركة الشعوب. تستعصي على الإدراك نقطة البدء في كل ثورة، كما تستعصي على الإدراك بداية الصعود والنمو لكل مجتمع في العالم. هذه حركات شعبية، لا قيادات لها، لا برامج ولا أحزاب تنظمها. انطلقت من ضمير الناس؛ مما يوجب احترامها. المدينة التي انطلقت منها ثورة تونس تقع في قلب التراب التونسي. يمكن على سبيل المجاز القول إنها انطلقت من ضمير كل عربي، بالأحرى من ضمير معظم العرب. القلب الجغرافي يعبر بطريقة ما عن القلب الإنساني. يستعيد الإنسان العربي تفاؤله وكرامته مع ثورة تونس ومع الأحداث التي تليها في أقطار عربية أخرى. ليس أحلى من رؤية الفراعنة المحدثين يتساقطون الواحد بعد الآخر، يهربون ويلجأون إلى الخارج؛ ولا يهمنا أين يستقرون.

تستخدم كل ثورة تقنياتها. ساهم راديو الترانزستور في ثورة عبد الناصر، والكاسيت السمعية في ثورة الخميني، والإنترنت في ثورة تونس، كما في الانتفاضات العربية الأخرى. لكن التقنيات ليست هي التي تصنع الثورة. من يصنع الثورة هم الناس في مطالبهم:
نشدان الحرية، والتعليم، والعمل، والطبابة، الكرامة، وكلها ضرورات إنسانية مفقودة في كثير من الأقطار العربية.

استخدمت الإنترنت على مدى واسع في إيران بعد انتخاب أحمدي نجاد رئيساً لإيران للمرة الثانية. ربما كانت إيران أقل من تونس نمواً اقتصادياً وأكثر بطالة، لكن للشعب الإيراني دولة تتعلق بها كرامته. ربما أخطأت الدولة الإيرانية أو أصابت، إلا أنها دولة تتلاءم، على المدى المنظور، مع هوى الشعب الإيراني، لذلك لم تنجح الانتفاضة الأخيرة للمعارضة كما نجحت في تونس. الفرق هو أن الإنسان في تونس مهدور الكرامة، بما يختلف عن الوضع في إيران.

تحدث الثورات العربية الراهنة من دون قيادات، أي من دون وعي ثوري يقودها. لقد قصرت النخب الثقافية والسياسية في فهم حركة شعوبها، ووجدت الأحداث تسبقها. لا ضير في ذلك. المهم أن تواكب النخب مسيرة شعوبها ليس في الأفق ما يؤكد ذلك. يمكن أن تستعيد القيادات المخلوعة سلطتها أو بعض سلطتها. لكن الأهم هو أن المنظومة العربية الحاكمة لن تستطيع بعد الآن الاستمرار كما كان الأمر في الماضي.

إن ما يحرّك هذه الثورات هو القلق على الوجود وعلى المصير، والمهانة اللاحقة بكل عربي نتيجة تبعية الدول العربية الكاملة للغرب، وفقدان الاستقلال فقداناً تاماً؛ وهي ثورات من دون قيادات لأنه ليس هناك من الأيديولوجيات السائدة، اليمينية أو اليسارية، الدينية أو العلمانية، القومية أو الشرق أوسطية، وغيرها... ما يستطيع فهمها واستيعابها أو تقديم البرامج والحلول لها.

نشبت هذه الثورات تلقائياً من دون أن يعرف بها أحد، ومن دون أن يتوقعها أحد، ومن دون أن يستطيع أحد تحديد معالمها أو توقع مواقع حدوثها. لذلك هي مُرْبِكة للفهم؛ تزيد إرباك الوعي. ربما كان ذلك لأنها حدثت في وقت بلغ تشتيت الوعي ذروته، والمعرفة العربية حضيضها، والمثقف العربي أسوأ ظروفه المعرفية والمادية؛ فكان التنظير للواقعية وموازين القوى. فجأة استفاقت النخب العربية لتجد حركات شعبية لا يمكن تفسيرها، لا كيف بدأت، ولا كيف تتطور، إلى أين تنتهي. مثلما قصر علم الاقتصاد في الغرب، منذ سنوات ثلاث حتى اليوم، في توقع الأزمة المالية ـ الاقتصادية التي تصيب العالم، فشل العارفون العرب، من علماء اجتماع وعلماء وسياسة، وسائر علماء الأمور الإنسانية، وبقية النخب السياسية والثقافية، في توقع هذه الثورات ومعرفة مساراتها.

لا شك أن القلق على الوجود والمصير، بسبب كثرة البطالة وعدم القدرة على تأمين الغذاء والمأوى والملبس، الخ... سبب من أسبابها. لا شك أن الضائقة المادية والنفسية التي يعيش كل عربي سبب من أسباب هذه الانتفاضة. ولا شك أيضاً أن استباحة الأقطار العربية بالاحتلال حيناً، والانفصال ثانياً، والتدخل ثالثاً، وعربدة إسرائيل رابعاً، هي كلها من جملة الأسباب.

لكن السبب الأهم هو الانفصال الكامل وعدم الاتصال والانقطاع بين الحكام وشعوبهم. صار الحكام في ناحية وشعوبهم في ناحية أخرى، والانتخابات الشكلية تجري من دون حد أدنى من الحوار والنقاش، والناس مجرد أدوات وأرقام في هيكل السلطة. صار الناس في أرضهم وكرامتهم من دون اعتبار لدى الحكام. صاروا كماً سهلاً يحركه الحكام كيفما يشاؤون.

والأنكى من ذلك صارت المنطقة العربية موضوعاً لإعادة تشكيل تحت اسم مشروع الأوسط الجديد، من دون تدخل من هؤلاء الحكام الذين لم يعودوا يهتمون لمصير منطقتهم. فقدوا استقلالهم بالكلية عندما صاروا، أي الحكام، يتلقون تعليماتهم من موظفي درجة ثالثة في سفارات الغرب الأمبريالي. كل ذلك وعروبة الناس وحياتهم ووجودهم كماً مهملاً؛ بل الأنكى من ذلك صارت عروبتهم وصار إسلامهم مستهدفيْن بحرب الإرهاب. وصار التفريط بقضية فلسطين أمراً يومياً لدى الحكّام والمفاوضين، بينما الأنظمة العربية مجرد مساعد للقوى الإمبريالية في هذه الحرب العالمية التي لا هدف منها سوى سحق المنطقة العربية وإعادة تشكيلها في كيان جديد، من دون إرادة شعوبها.

منذ زمن ناضلت شعوب هذه المنطقة من أجل الاستقلال والوحدة العربية، فإذا بها الآن فاقدة الإرادة، يراد إعادة تشكيلها في كيان، أو كيانات جديدة، محذوفة منها العروبة.

هذه الثورات هي حروب استقلال جديدة لاستعادة إرادة هذه الشعوب وكرامتها، وسيكون لكل ذلك عنوان واحد هو العروبة. وستجد إسرائيل أن لا مكان لها في الوضع الجديد، إلا إذا حدث شــيء ما في الوعي العــربي والوعي الغربي ـ الإسرائيلي.

أعادت لنا حركة الشعوب العربية، في شتى أنحاء الوطن، العروبة والشعور بالحياة والمعنى والمغزى. استعدنا تعابير مثل "الثورة"، التي لم تعد تفي بوصف ما يحدث. ما يتوجب علينا هو أن نلحق بشعبنا، وإن لم نشارك فعلينا أن نفهم ونعي ونستعيد الثورة في نفوسنا وقلوبنا.
"السفير"
 

التعليقات