03/02/2011 - 09:37

مصر تتطهّر../ جميل مطر

عُدنَ مبتهجات من ميدان التحرير بعد أن اشتركن مع مئات الآلاف من الرجال في المسيرة المليونية. أقسمن أنه لم تحدث حادثة تحرش واحدة خلال الساعات الخمس التي قضينها في المسيرة

مصر تتطهّر../ جميل مطر
عُدنَ مبتهجات من ميدان التحرير بعد أن اشتركن مع مئات الآلاف من الرجال في المسيرة المليونية. أقسمن أنه لم تحدث حادثة تحرش واحدة خلال الساعات الخمس التي قضينها في المسيرة.

اتصلت بي سيدة تسكن في حي شبرا تبلغني أنها بكت عندما خرجت إلى شرفة شقتها في الصباح الباكر لتطمئن على أحوال الشارع الذي تسكن فيه وإذا بها ترى مشهداً لم تره من قبل في هذا الشارع، أو في أي شارع آخر في مدينة القاهرة خلال السنوات الأخيرة، رأت شبان الشارع يكنّسونه، وهو الشارع الذي لم تمتد إليه يد الحكومة لكنسه منذ أسبوع، وينظفون السيارات ويزيحون المتاريس التي أقاموها خلال الليل لحراسة البيوت والمحال.

بين مكتبي وبيتي مسافة أقطعها مشياً في خمس عشرة دقيقة. أخذت مني ساعة ليلة أمس، لأنني تعمّدت أن أتوقف كل حين، لأتحدث مع أفراد اللجان التي شكلها أبناء الحي للحراسة. كانت فرصة لأسمع ما يقوله الشباب خارج ميدان التحرير، ولأعرف إن كانت الشعارات التي سمعتهم يجاهرون بها في المظاهرات تختلف عما يدور حقيقة في أذهانهم. سمعت وعرفت أن هؤلاء الشبان وكثيرين غيرهم لن يسكتوا بعد الآن على الظلم، ولن يتهاونوا في حماية الرشوة والفساد، ولن يهدأوا في وجه القمع البوليسي، ولن يتهاونوا في حقوقهم. سمعت منهم اعتراضات بأنهم قصّروا حين استسلموا لحكومات وقيادات فاسدة، وأنهم أدركوا وإن متأخرين أن سكوتهم شجع الطبقة السياسية الحاكمة على الاستهانة بمطالب الشعب وأوصل مصر إلى ما وصلت إليه.

الشبان المتظاهرون في ميدان التحرير، وفي محطة الرمل وحي الأربعين بالسويس وشوارع وميادين المنصورة وطنطا والمحلة الكبرى وغيرها من مدن مصر، ليسوا من نسيج مختلف أو من كوكب آخر. قال رفيقي في المظاهرة، وهو يفرك عينيه غير مصدق، أنه لم يكن يعرف أن في بلدنا أمثال هؤلاء الشبان صبياناً وبنات. أين ذهبت اللغة الممسوخة والعبارات الهابطة والتعليقات التافهة التي أغرقتنا بها قنوات الإذاعة والتلفزيون على امتداد سنوات وسنوات، بحجة أن الشباب يريد هذا الإسفاف وهذه السفالات. فجأة وقع اكتشاف أن هؤلاء الشباب خرجوا إلى الشوارع يريدون شيئاً آخر، يريدون إسقاط النظام وقف التردي والانهيار السياسي والثقافي والأخلاقي.
 
سمعنا في المظاهرات عشرات منهم يناقشون رجالاً في عمر آبائهم وأجدادهم بلباقة وفصاحة وإحاطة مذهلة بتطورات السياسة داخل مصر وخارجها. فهمت كيف صارت تونس، بين يوم وليلة، حديث شباب مصر يعرفون عنها، ما كنت أظن أنهم لا يعرفونه، سمعتهم يتحدثون عن الاتحاد العام التونسي للشغل وحركة النهضة وعن سيرة حياة زين العابدين بن علي وعن حجم التزييف الذي نسجته المؤسسات الدولية حول نمو الاقتصاد التونسي والسمعة الخارجية، اصطنعتها الدول الأجنبية وبخاصة فرنسا والولايات المتحدة، عامدة متعمّدة للتعمية على استبداد نظام بن علي وفساده.

مرّت بنا فترة طويلة جداً وحزينة جداً، غلب علينا فيها شعور التشاؤم بمستقبل مصر. كان صعباً، أو مستحيلاً، أن يحلم الشبان الذين يسمعون كل يوم من أجهزة الشرطة ووسائط الإعلام الحكومية روايات وتحقيقات تصورهم تافهين في أحسن الأحوال، ومجرمين أو منحرفين في معظم الأحوال، أن تخرج من بينهم عناصر جيدة تصلح لبناء مجتمع جديد.

كان الظن أن منظومة القيم المصرية فسدت، وأنه لا أمل في مصر قبل أن تتطهر هذه المنظومة من كل الأمراض التي تنهش فيها وفي الجسد المصري. هناك من يتهم أجهزة نظام حكم مبارك بأنها تعمدت تضخيم الحالة المرضية لمنظومة القيم ليزداد المجتمع تدهوراً وتزداد الحاجة لذراع الأمن القوية.
 
أنا شخصياً لا أستبعد أن يكون هذا هو ما فعله النظام الأمني الذي أقامه النظام الحاكم في مصر تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وحفظ السلام مع إسرائيل، وتنفيذ أهداف التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية. وهناك من يتهم عناصر الفساد في النخبة السياسية الحاكمة بأنها كانت وراء نشر القيم الفاسدة حين تساهلت مع عمليات الرشوة الصغيرة في البيروقراطية المصرية لتغطي فساد نخبة الحكم في الحزب والدولة، وحين كانت أجهزة الإعلام تنشط للكشف عن فضيحة فساد وراءها مسؤولون كبار ثم تتوقف فجأة فلا تتابعها أو تتعمّق في كشف خفاياها بل على العكس تفرض التعتيم على مسار التحقيقات حولها.

لقد لعب الإعلام دوراً مشيناً حين انتقى من بين رجال الأعمال شخصيات غير نظيفة روّج لها كنماذج ناجحة، ودعا شباب مصر لتقليدهم والسير على خطاهم. ردد المقولة الشهيرة بأن الانطلاق نحو الرخاء الاقتصادي يحتاج إلى "تشحيم" الآلة البيروقراطية، بمعنى أنه لن يكون ممكناً تحقيق أي نمو اقتصادي بدون دفعة قوية من الفساد والسكوت عن النهب الواسع باعتباره السبيل الأمثل والأسرع لتراكم رأس المال الضروري لهذه الانطلاقة . قيل أيضاً إن مصر في حاجة إلى تدفقات رأسمالية لا تخضع لأي رقابة أو محاسبة، بما يعنى أن يأتي المستثمر ليجد في انتظاره من يسهّل له تحقيق أرباح سريعة بأقل استثمارات وعمالة ممكنة، مقابل شراكة في بعض الربح وتقاسم المنهوبات.

خرج الشباب لأنه يريد إسقاط منظومة قيم فاسدة، ولأنه يريد إسقاط النظام الذي صنع هذه المنظومة. تحدثت مع شبان مقتنعين بأن إصلاح منظومة القيم، شرط ضروري لإصلاح حال مصر، والانتقال إلى نظام ديموقراطي حقيقي. يعرف الكثير منهم أنهم على الهواء أمام ملايين المشاهدين في مصر والعالم، وأن تصرفاتهم وسلوكهم محسوب لهم وعليهم، وأنهم حملة مشاعل ثورة، وأن نجاحهم الذي صار حديث العالم بأسره يعود الفضل فيه إلى أنهم مارسوا خلال الأيام القليلة الماضية سلوكيات شريفة والتزموا مبادئ راقية، في الوقت الذي كانوا يهتفون فيه بسقوط النظام الذي أفسد الحياة السياسية وسقوط الرئيس الذي يحتمي به قادة الفساد والمبشرين به.

لن تستسلم عناصر الفساد وخصوم الحرية قبل أن تسدّد ضربات متلاحقة للشباب الذي أثبت زيف اتهامه بانتهاء صلاحيته وصلاحية مصر الدولة. لن تهدأ قوى الظلام والحقد وإشعال النيران. حاولت حرق القاهرة مرة أخرى. وستحاول خلال الساعات أو الأيام المقبلة إعادة مصر إلى وداعة او استسلام الشعب المقهور والخائف والضائع.
"الشروق المصرية"

التعليقات