10/02/2011 - 11:29

السلطة الفلسطينية في مواجهة منطق الثورة../ عوض عبد الفتاح

تقف السلطة الفلسطينية حائرة هذه الأيام، أيام الثورة ورياحها العاتية التي تهزّ العروش وتزعزع المعادلات القائمة والمعمول بها منذ حقبة من الزمن

السلطة الفلسطينية في مواجهة منطق الثورة../ عوض عبد الفتاح
تقف السلطة الفلسطينية حائرة هذه الأيام، أيام الثورة ورياحها العاتية التي تهزّ العروش وتزعزع المعادلات القائمة والمعمول بها منذ حقبة من الزمن.
 
فالطبقة السياسية الممسكة بدفة السلطة، مثل طبقات الحكم الأخرى في المنطقة، المستبدة والمقيدة بقيود التبعية، شيّدت نهجها على عقلية الأمر الواقع، وافترضت أن المعادلات المتشكلة في رحاب التعاون بين الاستبداد المحلي والهيمنة الخارجية، خالدة. ونشأت في ظلال هذه المسيرة مصالح وعلاقات وثـّقت، أكثر وأكثر، تلك الطبقة بنهجها المدمّر.
 
لم يكن لهذه الطبقة لتصمت وتشعر بالارتباك لو لم تكن قد رهنت نفسها منذ فترة لشكل العلاقة المهين مع الاحتلال، ولو لم تكن هي الطرف الضعيف والمستباح من قبل الشريك الآخر، إسرائيل. ولهذا فإن إسرائيل لم تنتظر، وعلى لسان رئيس حكومتها ومسؤولين سياسيين وعسكريين آخرين، للتعبير عن صدمتهم إزاء ما ينطوي عليه نجاح الثورات العربية، وبشكل خاص، ثورة مصر، مضافًا إلى ذلك تعزز محور المقاومة في الشمال، من تأثيرات بعيدة المدى على الإستراتيجية الصهيونية إزاء المنطقة والقضية الفلسطينية. وبدأت نخبها السياسية والأمنية تتحدث وتدرس خطط التهيؤ لما هو قادم، وعلى لسان غابي أشكنازي رئيس أركان الجيش، لحرب إقليمية شاملة.
 
من المفترض أن تكون هذه الثورات العربية السائرة نحو تقويض أركان البنى السياسية والثقافية التي مهدت وكرست التخلف والاستبداد، وإخضاع المنطقة العربية للتجزئة والاحتلال والنهب، من المفترض أن تكون مصدر ارتياح كبير للحركة الوطنية الفلسطينية. وهي بالفعل كذلك، إذا ما فصلنا تلك الطبقات والنخب التي هجرت شعبها وحركته الوطنية وقيمها وتاريخها وحولت نفسها الى نظام فاسد شبيه بأنظمة العرب بل أسوأ من عديدها.
 
لقد أخذت القيادة المتنفذة في الحركة الوطنية الفلسطينية منذ فترة طويلة على العرب هجرهم للقضية الفلسطينية، مع أن هذا الكلام، نصف الحقيقة، فقد أخطأت هذه القيادات في المبالغة في البعد القطري للقضية الفلسطينية وساهمت بصورة منهجية، ربما دون وعي، بنأيها عن البعد العربي وبشكل خاص الشعبي. وانجرفت مع الزمن، وفي ظل هذا النهج، فصائل فلسطينية ذات جذور عربية قومية وحصرت نفسها في البعد الوطني الفلسطيني. فلا العرب تحرروا وبنوا دولهم الوطنية – دولة المواطنة والتقدم والديمقراطية، ولا الفلسطينيون حرروا أرضهم.
 
بطبيعة الحال، لا يستيطع أحد أن يجزم كيف سيكون مضمون هذه الثورات خاصة وأن ثورة تونس لا تزال تواجه مخاطر الاحتواء والاضطهاد من جانب قوى النظام السابق، وقوى انتهازية، وأطراف إمبريالية خارجية كالولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما وكذلك الثورة المصرية تواجه محاولات شبيهة.
 
لكن الأمر الواضح والأكيد هو أن ما كان لن يكون. ستعمل شعوب هذه الثورات سنوات لبلورة الصيغة النهائية أو شبه النهائية لفحواها ومعالمها. ولكن أمرين أساسيين أصبحا واضحين؛ الأول، أن لا حاكم بعد اليوم قادر على تجاهل الشعب الذي سيصبح هو مصدر السلطة. ثانيًا؛ أن سياسة التبعية وتلقي الأوامر من الخارج قد انتهى.
 
وهذا الأمر الأخير عامل هام في معركة الاستقلال الوطني ومواجهة الهيمنة الخارجية. فالدول التي لا تخضع اقتصادها وسياساتها وجيشها لإرادة الأجنبي تملك قرارها المستقل إزاء الصراع ضد الصهيونية؛ فسوريا مثلاً رغم المتاعب الكبيرة على سياساتها الداخلية والتي تحتاج الى إصلاح، لم يكن بإمكانها أن تساند المقاومة اللبنانية وتساهم في صمودها، وفي مساندة المقاومة العراقية، لو كان موقف نظامها كتونس او كمصر أو دول أخرى أو لو كان اقتصادها أو عيشها معتمدًا على "المساعدات" في الولايات المتحدة الأمريكية. سوريا ليست دولة قوية اقتصاديًا، بل هي دولة ضعيفة في هذا المجال، ولكنها بقيادة بشار الأسد وبموقفه الوطني المتماسك، صمدت أمام الضغوط الهائلة ومنها التهديد بإسقاط النظام. طبعًا يمكن أن يسأل السؤال الآن وبعد ثورات تونس ومصر، هل يكفي هذا الموقف الوطني لتحصين الدولة السورية والمجتمع السوري من عواصف التغيير؟ هذا سؤال وجيه. ومن الواضح أن ما جاء في مقابلة الرئيس الأسد في "الوول ستريت جورنال"، يُشير إلى أن القيادة تنظر بجدية الى التطورات العاصفة وتدرس متطلبات تفادي حدوث هزات اجتماعية تهدد مكانة سوريا في ظل التهديدات الخارجية. ربما آن الأوان للتعجيل بالإصلاح وتفادي المتاعب.
 
وعودة الى السلطة الفلسطينية وموقفها إزاء ما يحصل في مصر وتونس. إن الثورة في هاتين الدولتين أربكت قيادة السلطة لأن هذه الثورة تعني أن المنطق الذي بنت عليه نهجها، أي الضعف العربي والعجز، والذي أنتج المقولة البائسة والمهينة أن "الناس تريد أن تعيش"، قد سقط. وقد جاءت هذه الثورات في الوقت الذي قطعت قيادة السلطة الفلسطينية مشوارًا طويلاً وعميقًا في مسار الارتهان الى الخارج لحل القضية وإهمال الداخل كليًا. ويصدمها بالتحديد تكشف بؤس مقولة أن الانتفاضة والمقاومة دمّرت شعبنا. لأن المقاومة، أو الثورة في كل من تونس ومصر هي سلمية – شعبية عارمة واستطاعت الأولى أن تطيح بالدكتاتور زين العابدين بسرعة قياسية والثانية في مصر في إجبار النظام على تقديم التنازلات التي لم يكن مستعدًا لتقديمها للثوار قبل ذلك، فضلاً عن نزول الملايين الى الشارع وكسر حاجز الخوف في مواجهة نظام قمعي وفاسد.
 
فسلطة رام الله لا تريد لا مقاومة مسلحة ولا مقاومة شعبية لاعنفية في مواجهة الاحتلال وواقع الاستيطان. وحولت ذلك الى قناعة بل أيديولوجية – قوامها "الحياة مفاوضات" وإذا لم تنجح المفاوضات فالمزيد من المفاوضات.
 
إذًا ما يجري في مصر وتونس وما هو متوقع أن يحصل في بلدان عربية أخرى، ينسف هذه النظرية البائسة-الانهزامية التي هي غريبة ليس فقط على الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية وثورته، بل على كل شعوب العالم التي خاضت نضالاً لا هوادة فيه، إما مسلحًا أو لا عنفيًا، لدحر القهر والبؤس. ولم يكن لجوء سلطة رام الله المتأخر إلى مجلس الأمن أو إلى الساحة الدولية، رغم أهميته، إلا هروبًا من استحقاقات النضال – المقاومة وفق استراتيجية تجمع بين العمل المقاوم والسياسي والدبلوماسي.
 
إذًا، إن منطق الثورة لا يروق لمنطق قيادة السلطة، والسؤال هو هل بهذه النفسية والعقلية المسالمة التي تشكلت عبر سلسلة طويلة من التنازلات المهينة، والتآكل في القيم، وكسر المحرمات (كالتنسيق الأمني وعلاقات الودّ مع المسؤولين الاسرائيليين)، تستطيع هذه القيادة أن تنهض وتنتفض على ذاتها وتراجع نهجها. لا أعتقد أن رموز هذه السلطة، التي خطفت الحركة الوطنية أن تقود المرحلة الجديدة المطلوب خوضها. لا بدّ أن تقوم فئات وشرائح جديدة لم تتلوث بهذا النهج، وظلت متحررة الى حدّ كبير من آثار المرحلة الراهنة. لقد آن الأوان للانتفاض على هذا الواقع البائس، وعلى واقع الانقسام الكارثي.
 
شعبنا سبق شعوبًا كثيرة في الانتفاضات الشعبية العارمة، وهو قادر على تجديد شبابه وروحه الثورية وتحطيم قيود الاحتلال ونظام الأبارتهايد الاسرائيلي.

التعليقات