18/02/2011 - 12:30

السلطة الفلسطينية بعد التغيير المصري: ضيق الأفق والتخبط../ ماجد كيالي

لم تكن القيادة الفلسطينية متفاجئة فقط من التغيير السياسي في مصر(كغيرها)، وإنما هي وجدت نفسها، وعلى حين غرة، مكشوفة، وربما معزولة

السلطة الفلسطينية بعد التغيير  المصري: ضيق الأفق والتخبط../ ماجد كيالي
لم تكن القيادة الفلسطينية متفاجئة فقط من التغيير السياسي في مصر(كغيرها)، وإنما هي وجدت نفسها، وعلى حين غرة، مكشوفة، وربما معزولة، إذ أن مصر لا تشكّل مجرد دولة مساندة لها، وإنما هي أكثر من ذلك بكثير، فهي الحاضن الأساس لها، في العالم العربي، وهي الدولة التي تغطّي، بحجمها ومكانتها، الخيارات السياسية التي تنتهجها هذه القيادة، منذ عقدين من الزمن؛ لاسيما منذ عقدها اتفاق أوسلو (1993)، وارتهانها لخيار المفاوضات.
 
ولعل هذا يفسّر حال الحيرة، والقلق، التي انتابت القيادة الفلسطينية، منذ اندلاع ثورة شعب مصر، وقد بدا ذلك جليا في انتهاج هذه السلطة للسكوت المطلق، وحتى عدم سماحها في الضفة (وكذا في غزة) بأية مظاهر شعبية متضامنة مع شعب مصر (قبل انتهاء نظام مبارك).
 
وفي الحقيقة ليس ثمة غرابة في هذا الموقف المهين، فهذه السلطة لم تأخذ هذا المنحى كتقية، أو انتهاجا لحكمة سياسية ما، بل إنها تصرفت إزاء الحدث التاريخي الكبير في مصر بوصفها سلطة، أو باعتبارها بمثابة نظام، كغيرها من الأنظمة العربية، وليس على اعتبارها قيادة حركة تحرر وطني لشعب فلسطين؛ وهو الموقع الذي غادرته منذ زمن.
 
هكذا، وبحكم نظرتها الضيقة، والمحدودة، والمنبثقة أساسا عن رؤيتها لذاتها كسلطة، وبالنظر لارتهانها لعملية التسوية، ولخيار التفاوض وحده، لم تستطع القيادة الفلسطينية أن تنظر إلى التغيير السياسي الجاري في مصر باعتباره قد يشكل عامل ضغط على إسرائيل، لوقف تعنتها وعنجهيتها، ولم تر فيه عامل قوة لقضية شعب فلسطين، بقدر ما نظرت فيه كعامل إضعاف لها. والمعنى من ذلك أن ردّة فعل القيادة الفلسطينية (وهي ذاتها قيادة المنظمة والسلطة وفتح) على سقوط نظام مبارك، وحضور شعب مصر من الغياب والتغييب، كانت من طبيعة هذه القيادة، أو من طبيعة السلطات العربية، التي تغيّب شعبها، والتي تستمرئ أوضاعها الراكدة، وتتخوّف من عمليات التغيير.
 
لكن ما الذي كان بمقدور هذه القيادة فعله حقا؟ لقد كان الأجدى لهذه القيادة أن تنظر إلى التغيير السياسي في مصر من منظور استراتيجي أوسع، وباعتباره عامل قوة لشعب فلسطين وقضيته، وباعتباره عامل استنهاض لحركته الوطنية، بحيث تجد في هذا التغيير فرصتها المناسبة لإحداث تغييرات في بناها وأوضاعها الداخلية، وخصوصا باتجاه فتح خياراتها السياسية.
 
فلقد تمخّضت أحداث الأيام الماضية في مصر عن درس عظيم للفلسطينيين وغيرهم، مفاده أن الشعب يستطيع التغيير، وأن القيادة الفلسطينية، على خلافاتها (أكانت تحت سيطرة فتح في الضفة أو حماس في غزة)، والتي غيّبت الشعب، واختزلته، في أجهزتها وميليشياتها وتنظيماتها، أضعفت قضية فلسطين، وأضعفت من كفاح شعبها في سبيل الحرية والعدالة والمساواة والعيش بكرامة.
 
والدرس الثاني الذي تمخضت عنه هذه الثورة في مصر (وقبلها في تونس) هو أن الشعب يمكن أن يبتدع طريقه الخاص للنضال، بعيدا عن الأشكال المعهودة، بمعنى أن الخيارات النضالية في الساحة الفلسطينية ليست محصورة حكما بين الكفاح المسلح، أو الاستكانة تحت رحمة الاحتلال (وهذا الكلام يصح على قيادة حركة فتح كما يصح على قيادة حركة حماس)، فثمة طرق نضالية أخرى، والمهم توفر الإرادة وإتاحة القدرة على الإبداع. وكان الفلسطينيون، وقبل انتفاضتي شعب تونس ومصر المجيدتين، بربع قرن، شقوا طريقهم الخاص بالنضال، والذي يتناسب مع إمكانياتهم الخاصة تحت الاحتلال، كما تجلى في الانتفاضة الكبرى الأولى (1987ـ1993). ومشكلة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، بعد أن باتوا في عهدة القيادات الفصائلية السلطوية (في الضفة وغزة)، أنهم باتوا ممنوعين من المبادرة إلى أي شكل من أشكال المقاومة الشعبية والمدنية.
 
الآن من المهم جدا للفلسطينيين أن يدركوا أن التغيير في مصر، الذي حرر شعب مصر، يقويهم ويحررهم، ويفتح الباب أمامهم على مصراعيه لإحداث التغيير السياسي في ساحتهم، بدءا من وقف ارتهانهم لعملية التسوية، لا سيما أن إسرائيل هي التي ضيعت فرصة عقدين من الزمن في هذا الاتجاه، بتعنتها وصلفها وتملصاتها (كما تؤكد ذلك تحليلات عديد من المحللين الإسرائيليين تعقيبا على ثورة شعب مصر)، وصولا لإعادة بناء هذه الساحة، على أسس وطنية ونضالية وديمقراطية وتعددية، وعلى أساس الاحتكام للشعب، وإنهاء واقع الانقسام والفساد السائدين.
 
لكن القيادة الفلسطينية لا تبدو كمن استنبط الدروس والعبر المناسبة من التغيير الحاصل في مصر، وهي بدلا من ذلك ذهبت نحو إعلان نيتها تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية، وحتى للمجلس الوطني الفلسطيني، في شهر أيلول القادم.
 
ومع التأكيد على أهمية هذه الانتخابات، لمعرفة أوزان القوى في الساحة الفلسطينية، ولتبين الخيارات السياسية التي يميل إليها الشعب الفلسطيني، ولتنظيم علاقاتها على قاعدة العلاقات الديمقراطية، فإن الدعوة إلى الانتخابات في الظروف الراهنة، وبهذه الطريقة المزاجية المتسرعة، ينم عن ضيق أفق، كما ينمّ عن تخبّط شديد. ومثلا، كيف سيتم تنظيم انتخابات في الضفة وغزة في ظل الانقسام؟ ثم هل ستجري عملية الانتخاب لأعضاء المجلس الوطني في الضفة وغزة فقط أم في مناطق اللجوء والشتات أيضا؟ وهل تملك هذه القيادة إجراء انتخابات للمجلس الوطني في لبنان والأردن وسورية وغيرها، وهي لاتستطيع حتى حل مشكل اللاجئين الفلسطينيين في العراق أو حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في مخيم نهر البارد شمالي لبنان؟
 
وعدا عن ذلك فإذا سلمنا باستحالة المصالحة بين فتح وحماس (بالنظر لمصالحهما السلطوية) فهل الأوضاع في الضفة على مايرام؟ وهل أن أوضاع حركة فتح ذاتها تسمح بإجراء انتخابات، وهل ثمة اجماعات أو توافقات سياسية في هذه الحركة التي بلغت حدا مهولا من الترهل وعدم الفاعلية؟
 
أما على الصعيد السياسي فلا يشفع للسلطة وقف المفاوضات، على أهمية وضرورة ذلك، فقد جرت مياه كثيرة في هذا النهر الآسن، ولأن كيان السلطة، والفصائل المنضوية فيها، كله مرتهن للعملية التفاوضية. ذلك أن الأهم من كل ذلك هو أن تعود هذه السلطة، أو هذه الفصائل، لشعبها، من خلال إشراك نخبه، وأوسع قطاعات منه في النقاش بشأن تقرير مصيره وبشأن الخيارات السياسية.
 
وقد بينت السلطة نفسها أن خيار المفاوضات الذي انتهجته طوال عقدين ليس فقط عقيما، بل إنه جرى بطريقة جد مبتذلة، وفوق ذلك فقد أكدت هذه السلطة أن هذه المفاوضات لم تكن تجري بطريقة شرعية، بدليل أنها أربكت لمجرد طرح بعض وثائق هذه المفاوضات للنقاش الجماهيري؛ من على شاشة قناة "الجزيرة". بل إن صائب عريقات الذي استقال من منصبه التفاوضي، حري به أن يستقيل أيضا من عضويته في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومن اللجنة المركزية لحركة فتح، ليس بسبب التسريبات وإنما بسبب ما يتحمله، مع غيره، من مسؤولية عن الدرك الذي وصلت إليه العملية التفاوضية.
 
الطامة الكبرى هنا أن عريقات أعلن استقالته لمجرد مسؤوليته عن تسريب الوثائق، معتبرا ذلك بمثابة "جريمة أمن قومي"، أي أنه لم يستقل لمسؤوليته عن مضامين هذه الوثائق (وهذا لعمري أخطر وأمرّ)، ما يبين حجم الفجوة بين القيادة الفلسطينية وشعبها، كما يبين ذلك أن هذه القيادة كانت تخوض المفاوضات وفق رؤى سلطوية وكيانية ضيقة، ومن دون أية رؤية إستراتيجية.
 
معلوم أنه لم يكن ثمة أي نقاش شعبي بشأن قضايا المفاوضات، ولطالما فضلت القيادة الفلسطينية المفاوضات السرية، كذلك فإن هذه القيادة لم توضح لشعبها كيف ستجلب الدولة مع حق العودة، وعن طريق المفاوضات (التي هي تحت رحمة الإسرائيليين)، في ظل موازين القوى والمعطيات الدولية والإقليمية الراهنة.
 
هنا ربما كان الأجدى لهذا القيادة لو أنها تصرفت في الإطار التفاوضي من منظار حركة تحرر وطني، وليس من منظار السلطة، ولو أنها طرحت خطواتها التفاوضية على النقاش العلني، واحتكمت للمؤسسات والأطر الشرعية. وربما أنه في هذه الظروف، أي في الظروف التي تتمتع به هذه القيادة بالصدقية النضالية والوطنية والأخلاقية، كان بإمكان الفلسطينيين قبول نوعا من الحل المرحلي، على شكل دولة فلسطينية، باعتباره جزءا من رؤية إستراتيجية مستقبلية متكاملة لحل مختلف جوانب القضية الفلسطينية.
 
من كل ما تقدم يمكن الاستنتاج أن القيادة الفلسطينية باتت جد مستهلكة، وغير قادرة على إدراك التغييرات الحاصلة عندها، وفي محيطها، فهذه القيادة أخفقت في خيار المفاوضة والانتفاضة، وفي إدارة المنظمة والسلطة، وتخلت عن طابعها كحركة تحرر وطني قبل أن تصل إلى الدولة، لذلك فهي باتت بمثابة لزوم ما لا يلزم.
 
وكنت في حزيران (2010) كتبت في مادة نشرتها في "قضايا النهار"، أن الساحة الفلسطينية باتت تمر تمر بمرحلة يمكن تسميتها ضياع المشروع، وعندما يضيع المشروع، فإن كل ما انبنى عليه، من إطارات وأدوات ووسائل عمل تصبح من دون معنى، أو لزوم ما لا يلزم؛ ويبدو أن هذا الأمر ما زال قائما.

التعليقات