18/02/2011 - 13:57

من وحي الثورتين: الفرصة الذهبية لإنجاز المصالحة التاريخية../ د.عمر سعيد

لا شك أن الثورة المصرية ومن قبلها التونسية قد دفقت الجسد العربي بمنشطات الأمل والثقة بالنفس والمبادرة لتحقيق غد مشرق ومنتج، تتكامل فيه تياراته الاجتماعية والفكرية في حالة من التناغم الطبيعي بعيدا عن القطيعة التي ميزت عقوده الأخيرة الراكدة

من وحي الثورتين: الفرصة الذهبية لإنجاز المصالحة التاريخية../ د.عمر سعيد
قليلا ما تدلي ساحتنا الثقافية المحلية بدلوها في المسائل الجدية المتعلقة بنقد المرجعيات الفكرية السائدة في مجتمعنا، أو بتحليل الخطاب الديني المهيمن واستنطاق تراثنا المؤسس عليه واستجلاء أدواره الانتهاضية والإجهاضية على حد سواء، وتفضل عادة الاكتفاء بالتمطي الكسول حتى التثاؤب في حظيرة السياسي واليومي.
 
هذه القاعدة المحبطة لا تكسر إلا في سياق ردّات الفعل التي تستدعيها العصبيات الحزبية والمواضعات التنافسية والتي لا تخلو من السطحية حينا، ومن النفاق الأيديولوجي أحيانا كثيرة، لهذا غالبا ما تظهر تلك "المساهمات" على شكل جمل إنشائية عامة وتعليقات سجالية سريعة خاوية من أي بعد معرفي، بل هي أقرب إلى أسلوب الزجل الشعبي التفاخري منها إلى النقاش العلمي الرصين.
 
 في الآونة الأخيرة شهدنا ارتفاعا مفاجئا لمنسوب المناقشات اللافتة حول قضايا تراثية وفقهية هامة بعلاقتها مع العلمانية والسلطة والمرجعيات الشعبية، حيث تأججت حدتها والتهبت وتيرتها بالذات في أعقاب الحراك الجماهيري الثوري الذي شهدته منطقتنا العربية ولم تزل. بالاستناد لطبيعة القوى الاجتماعية الناشئة وطرائق تواصلها وتأثرها وتنوع مشارب الفرق السياسية المشاركة في ثورتي تونس ومصر المجيدتين، ومن خلال رصد انتقائي لخطابها الإعلامي والسياسي، فضلا عن سلوك قادتها، خلص بعض المحللين عندنا لنتائج عجيبة ومستظرفة، كان أغربها أن انبرى بعضهم إلى إصدار شهادة وفاة للحركات الإسلامية مختوما بالترحم غير البريء، أو بالإعلان عن تشخيص حالة من ضمور عضلها النخاعي يجعلها عاجزة عن التأثير الوازن في حركة المجتمع عامة والشباب منه على وجه الخصوص.
 
 لا شك أن استنتاجا متهافتا كهذا يعكس، بأفضل الحالات، أمنيات ورغبات تعتمر في عقول أصحابه، وليس بذي علاقة مع الحقائق الميدانية الناجزة. لا أختلف مع أحد أن الثورة التونسية وأختها المصرية قد كسرتا الوصاية النضالية والجهادية التي احتكرتها، أو لنقل ادعتها لنفسها غالبية الأحزاب الإسلامية معتمدة على عناوينها الدينية وعلى رصيدها الجماهيري الذي نما في أرض متعثرة المشاريع وشحيحة النماء، وفضاء مليء بالمحن والانتكاسات، وأبرزتا من جديد فضائل الوحدة والتسامح الديني والانفتاح على الآخر لحد التلاحم، مثلما أكدت قدرة تكامل روافد المجتمع على اجتراح المعجزات.
 
مع ذلك لا أجد حرجا من التحفظ المبدئي حول الأوصاف "الألكترونية" المتعددة التي أسبغت على محركي هاتين الثورتين من حشود شبابية، لما في ذلك من تجن وظلم للأحزاب والهيئات والمناضلين على شتى انتماءاتهم، الذين مهدوا الطرقات العسيرة بتضحياتهم واقشعوا الغمام أمام ناظري الناس، وأمّنوا مخزونا وانتشارا للوعي السياسي والاحتجاجي.
 
بعودتنا إلى موضوعنا الأساس، ينبغي أن نذكر من هو بحاجة لذلك، أن التيار الإسلامي في تونس (ممثلا أساسا بحركة النهضة التي تزعمها المفكر البارز راشد الغنوشي) وفي مصر (بقيادة الإخوان المسلمين) قد أديا دورا مميزا في عقلنة الخطاب الديني وتطويره في المنطقة العربية والإسلامية (تركيا على سبيل المثال)، وأسهما جذريا في إفشاء ثقافة المقاومة جماهيريا، واعتراض الفتن الطائفية والمذهبية، وتحشيد المعارضة الجدية والمتجددة في أقطارهم، وعليه كان نصيبهما من القمع السلطوي الغاشم هو الأوفر.
 
مع ذلك كله، يتحتم علينا عدم إغفال الفوارق المنهجية والتطبيقية بينهما، وملاحظة جرأة وأسبقية حضور نزعة التطوير والتجديد الفقهي التي كانت راجحة بوضوح لصالح التيار الإسلامي التونسي قيادة وفكرا تنويريا. لقد مارست تلك الأحكام والمواقف العقلانية فعلا غنيا في الحراك المجتمعي بكافة أوجهه، وضربت طوقا فعالا على أصحاب التيار السلفي التكفيري بشكل لا يقل أهمية عن النموذج الذي سطره حزب الله في لبنان، وتأثيره الواضح على الخطاب الديني الحيوي.
 
 لا شك أن الثورة المصرية ومن قبلها التونسية قد دفقت الجسد العربي بمنشطات الأمل والثقة بالنفس والمبادرة لتحقيق غد مشرق ومنتج، تتكامل فيه تياراته الاجتماعية والفكرية في حالة من التناغم الطبيعي بعيدا عن القطيعة التي ميزت عقوده الأخيرة الراكدة. باعتقادي أن هذه هي الحلقة الأهم في هذا المشهد العربي الرائع، وينبغي الإمساك بها والمضي بهذه الفرصة الذهبية المتاحة لنهاياتها القصوى في سبيل تدشين أسس المصالحة التاريخية الواعية بين أجنحة التيار النهضوي بشقيه الإسلامي والقومي العلماني، وإنهاء واقع الصراع المدمي والقطيعة العبثية بينها، خاصة ونحن في هذا الزمن الشفاف والمعولم.
 
للتذكير نقول إن انكشاف العرب لحضارة الغرب التي جلبت نماذجها مع الفرنسيين، وإدراك تعاسة واقعهم وتخلف معارفهم وهشاشة إمكانياتهم بالمقابل، قد دفعهم للبحث عن مفاهيم جديدة يستعينون بها ليجتازوا مستنقع الإخفاقات. لقد وفرت لهم حقول تلك الحضارة الخصبة، ليس فقط مجالا للمقارنة بين الحالتين، وإنما أيضا أدوات التعرف على واقعهم فأشعلت طموح العمل على تغييره. منذ تلك اللحظات بدأ الانعطاف الكبير في مسيرة الفكر العربي الحديث وبدأ انشغاله بمسألة النهضة. ومع هذا التحرك ابتدأ الصراع مع الأصولية، وما زالت أصداء هذه الصدمة الحضارية تدوي في كل ساحات العمل الفكري إلى الآن تنتظر، باعتقادي، التسوية التاريخية وليس الحسم.
 
عليه فإن مشروع النهضة العربية المعاصرة، ظهر للحياة مأزوما بوصفه انعكاسًا للصدمة الحضارية الهائلة تلك، لهذا فقد اتسم ومنذ البداية بالطابع الدفاعي، مما أحال دون المزج والاشتقاق الصحيحين بين عناصر الأصالة والحداثة، فارتد وانغلق على نفسه مؤكدًا على ماضيه في حاضره. إن اضطراب الموقف النهضوي ينبع من أن حضور الغرب في وعينا الراهن ثنائي الطابع: فمن جهة أولى يمثل قيم الحضارة المنتصرة بما تحملنا على الإعجاب بعقلانيتها وليبراليتها وانجازاتها اللامعدودة.. لكنه في ذات الوقت، يتمثل في الذاكرة الجماعية وفي الواقع المعاش على شكل جلاد مستعمر، يسعى إلى الإجهاز الكلي على حضارتنا، بل وحتى على إنسانيتنا خدمة لماكنة اقتصاده ومصالحه.. وخدمة لإسرائيل ومشروعها الاقتلاعي. إن هذه الثنائية تتصارع في صدر كل مشروع ثقافي نهضوي نبتغي رسم معالمه. لقد شهدت حركة اليقظة العربية نماذج فكرية، اندفعت من دون رادع باتجاه التبني الكامل للنموذج الغربي على حساب الموروث الثقافي العربي الإسلامي، والتي رأت به أغلالا حديدية تقيد انطلاقة العقل وتشل الفعل الحضاري المبدع، حيث برزت تلك النزعة العدمية في كتابات يعقوب صروف وشبلي الشميل وإسماعيل مظهر وغيرهم.
 
ولم يخل أيضا الفكر الاشتراكي "العربي" أيضاً من نزعة "الاستغراب" (من غرب)، فقد ظل هذا التيار بمنأى عن فهم خصوصية الجماهير إلى أن لبس ثوب السذاجة والكوسموبوليتية والتي تعني عدم الانتماء الجدي للبيئة والثقافة العربية الإسلامية والانشداد إلى العالمية على حساب المحلية. وفقط في المراحل الأخيرة من تطور الفكر الاشتراكي تقدمت إلى ميادين الفكر نماذج متطورة تبدي اهتمامًا لائقا بهذا الجانب وأنقذت ما أمكن إنقاذه (أمثال حسين مروة، عبد الله العروي ونصر حامد أبو زيد...). كما هو معروف، فقد اكتملت شروط القطيعة الكبرى بانتصار التيار الإسلامي الصحوي على الإصلاحي، وانفجار الصراع الدموي بين الإخوان والنظام الناصري مما أفضى إلى تجويف الروح الجماهيرية، وإدخال المجتمعات العربية في ما يشبه متواليات هندسية من الصراعات الداخلية المضنية.
 
غير أن المتابع المتأني لخطاب حركة الإخوان المسلمين في مصر، وعلى مدى العقود الثلاثة الأخيرة، لا بد له أن يتحقق من حدوث انزياح جوهري عن النهج الذي أرسى قواعده مفكرها الأبرز سيد قطب، والذي اتصف بالراديكالية الثورية على نحو لم تعهده الحركات الإسلامية الحديثة. بهذا المعنى فان آراء سيد قطب حول مفهوم "الحاكمية" المتضمنة في نظرية الدولة والحكم ومن ضمنها وسائل وأساليب النضال، لا يمكن اعتبارها إلا استثناء عارضا في تاريخ النشاط السياسي الإسلامي، وليست سوى اجتهادات فردية سادت في حقبة محددة اتسمت بالقمع الشديد من جهة، وتأثرت بالمناخ الثوري العالمي الذي قادته الأحزاب الاشتراكية والحركات الثورية.
 
من هنا فإن مفهوم "الطليعة الصدامية" التي تضطلع بمهام قيادة وتحريك المجتمع نحو الثورة، فضلا عن تبني العنف الثوري للاستيلاء على السلطة في سبيل تحقيق دولة العدل والإسلام...ما هي إلا مفاهيم مرادفة من الناحية الإجرائية لما كان متبنى في الفكر الثوري الاشتراكي، ولا علاقة لها بالموروث الفقهي الإسلامي السني في قضية الدين ونظام الحكم. لقد جاءت الممارسات الإخوانية اللاحقة في هذا المستوى لتؤكد تراجع هذه المفاهيم بل واختفاءها من صدر مشروعهم السياسي لصالح فكرة التغيير الدعوي والإصلاحي في المجتمع والسلطة، لدرجة أن كثيرا من المفكرين الإسلاميين المحسوبين على هذا التيار سجلوا نقدا عميقا واعتراضات واضحة على المنزع الثوري الراديكالي والذي تميزت به أطروحات سيد قطب، حيث كان آخرها سلسلة المقالات التي كتبها الشيخ يوسف القرضاوي.
 
فقط على أساس هذه القاعدة يمكن لنا أن نفهم الغياب الصارخ لمبادرات ثورية ضد نظام حسني مبارك البائد والذي أوصل البلاد إلى حضيض من دون قاع. إن دعوة الإخوان لإقامة نظام حكم مدني ديمقراطي يعتمد دستورا توافقيا حديثا يشكل تتويجا لسيرورة عقلانية مسؤولة في خطابهم السياسي والفكري، ومعها تطوى صفحات مليئة بالتحريض والتخويف المبرمج ضدهم، ويبشر ببداية حقبة تتصف بتلاقي المجتمع وتشكيلاته السياسية الفاعلة على قاعدة الوحدة والاختلاف، وتجاوز آثار التصادم القومي الإسلامي الذي أفضى إلى تآكل مريع في فعالية تيارات النهضة برمتها.

التعليقات