23/02/2011 - 10:07

انتفاضات لاستكمال مهام التحرر الوطني الديموقراطي../ علي جرادات

خفوت جذوة طور ما قبل "النكبة" من الثورة الفلسطينية، جاء صدى لخفوت صوت الحاضن العربي. وإرهاصات استئناف الطور المعاصر من الثورة الفلسطينية، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كان، انعكاسا جدليا لنهضة الحاضن العربي، بقيادة مصر الناصرية

انتفاضات لاستكمال مهام التحرر الوطني الديموقراطي../ علي جرادات
بلا مجازفة، يمكن القول: إن انتفاضتي تونس ومصر، (والأخيرة بخاصة)، صنعتا حدثاً تاريخيا انعطافياً، أطلق صيرورة تغيير عربية تحررية جديدة، تستكمل الشعوب العربية من خلالها ما انقطع من مهام الثورة الوطنية الديموقراطية. فبعد عقود على موجة الاستقلال الوطني، بما تخللها من نجاحات وانجازات، قُطِعَ سياقها، ولم تفضِ بالمحصلة إلى بناء دولة قومية، مثلما لم تحمِ فلسطين، بينما تعرض العراق للاحتلال المدمر. ووصل المشروع القُطري إلى طريق مسدود في عدم قدرته على بناء دولة وطنية ديموقراطية ذات سيادة ومستقلة اقتصاديا، ليصبح الاستقلال الوطني استقلالاً شكليا، وتابعا ومرتهنا فعليا، يلعب الحاكم المحلي فيه دور الناطور لمصالح الاحتكارات الغربية، يبتزل الريع من عائدات الاقتصاد الوطني لحسابه الشخصي، ويحوَل الوطن إلى إقطاعية، يحصل منها على فتات، هو مهما كبر، يبقى محدودا، قياساً بما تمتصه احتكارات النهب الغربي من ثروات الوطن وموارده.
 
   وبهذا تحولت النظم الرسمية العربية الحاكمة، (الملكية منها والجمهورية)، إلى نظم عائلية فلكلورية، يعتليها "سلطان" مستبد دون مساءلة شعبية حقيقية، يحكم "رعية" دون مرجعية دستورية وقانونية فعلية. ما حوّل السلطة إلى حقل للتوريث ومصدر للثروة. وجعلها آلية للفساد والإفساد والقمع والتبعية.
 
   ولما كان هذا هو حال القاسم العام المشترك بين النظم الرسمية العربية. ولما كانت مصر هي مفتاح العرب ومعيار عافيتهم، فإنه لا غرابة في أن يأتي انعكاس الثورة في تونس ومصر، على بقية الأقطار العربية بهذه السرعة القياسية. ما وضع المنطقة العربية في مرحلة انتقالية، يتصارع فيها قديم يتهاوى مع جديد يتوالد. أظن أن محصلتها النهائية ستكون أقرب إلى إرادة الشعوب، منها إلى إرادة النظام الرسمي السائد.
 
   أجل، لقد انطلقت صيرورة فعلية للتغيير في الأقطار العربية. مواجهتها بالقمع والمعالجات الأمنية، يزيدها اشتعالاً. وأية قراءة تتجاهل ترابط شقيها الوطني والديموقراطي، كما فعلت بعض الأنظمة العربية والحركات السياسية، هي قراءة اختزالية، ستوقع صاحبها في خيبة المفاجأة. ولن يجني غير "التعاسة السياسية"، كل قارئ لمستجداتها الواقعية بوعي قديم يعاند تحولات الواقع. وسيحصد الذبول والتلاشي، كل قارئ لعنفوانها بوعي هياب، أنتجه واقع مهزوم سبقها. وسيفقد زمام المبادرة، كل منتظرٍ لمحصلتها النهائية، بسبب عدم الثقة بقدرة الشعوب المنتفضة. وسيرث الصدمة كل مفكّرٍ فيها بوعي إرادوي، يُغفل كونها صيرورة واقعية، تمر في مرحلة انتقالية، محصلتها النهائية، هي، وإن كانت أقرب إلى الشعوب، إلا أنها ما زالت مجال صراع بين قديم لم ينتهِ كليا بعد، وجديد لم يكتمل كليا بعد.
 
   كل هذه، (وغيرها لم نأتِ عليها)، القراءات القاصرة لصيرورة الحدث التاريخي الجاري، لا تتبصر فيه، عبر قراءة موضوعية ملموسة، تبتعد عن حشره في قوالب وعي ذاتي مسبق. وهذا ما أتمنى أن تكون عليه القراءات الفلسطينية المختلفة لهذا الحدث العربي التاريخي، وانعكاساته على القضية الفلسطينية.      
   
   ذلك، أنه تقدم الأمر أم تأخر، تم إدراكه أم لم يتم، فإن الشعب الفلسطيني، (فاعل ومنفعل)، جزء من الحدث التاريخي العربي الجاري. فالقضية الفلسطينية نواة مضمرة دائمة في التحرك العربي، بمعزل عن وجهته. فخصوصية فلسطين هنا قاعدة وليست استثناء، ذلك أن إحدى الوظائف الأساسية لتبعية الحالة العربية وكبح تحررها الوطني الديموقراطي، هي ضمان تفوق إسرائيل وتكريسها كقوة احتلال اقتلاعي ابتلاعي، يمتهن الحروب ويرفض التسويات السياسية.
   ومشروع النضال الوطني الفلسطيني، (مدّاً وجزراً)، برغم خصوصيته، (وربما بسببها)، مكون صميمي في مشروع حركة التحرر العربية.
 
   لذلك فإن خفوت جذوة طور ما قبل "النكبة" من الثورة الفلسطينية، جاء صدى لخفوت صوت الحاضن العربي. وإرهاصات استئناف الطور المعاصر من الثورة الفلسطينية، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كان، انعكاسا جدليا لنهضة الحاضن العربي، بقيادة مصر الناصرية، التي شكل ارتداد السادات ومبارك عليها، العامل الأساس في عدم تمخض محطات نوعية مجيدة للثورة الفلسطينية عن انتصارات سياسية حاسمة، ذلك بدءا بصمود بيروت الأسطوري العام 1982، مرورا بانتفاضة العام 1987 الشعبية الملحمية، عرجا على انتفاضة العام 2000 المسلحة، وانتهاء بصمود غزة الأسطوري نهاية العام 2008. بل إن نهج أوسلو واتفاقيته عام 1993، كان في التحليل الأخير، بمثابة غصن في جذع مؤتمر مدريد عام 1991، الذي نما، وإن تأخر لعقدٍ، على جذر نهج كامب ديفيد عام 1979.
 
  واليوم، وعلى إيقاع نهضة الحالة الشعبية العربية بمفتاح مصري، فإن الحالة الشعبية الفلسطينية مرشحة لانفجار انتفاضي وشيك. خاصة، وأنها مثقلة أصلاً، بوقائع الاحتلال وجرائمه، وانسداد أفق التسوية السياسية معه. ناهيك عن تشوهات الانقسام الداخلي المدمر.
  
هنا يثور سؤال ما العمل؟؟ في وجه كافة النخب القيادية الفلسطينية، وخاصة قيادتي "فتح" و"حماس"، اللتين تخطئان، إن هما قرأتا المستجدات العربية قراءة ذاتية، عبر انتظار كل منهما، إلى ما ستسفر عنه المرحلة الانتقالية العربية، والمصرية تحديداً، وتمني أن تأتي بما ينصرها على الأخرى. فيما بات واضحاً ضمان أن تؤول هذه المرحلة الانتقالية إلى ولادة سلطات سياسية، تحدد الشعوب المنتفضة ملامحها وطنيا وديموقراطيا في انتخابات حرة ديموقراطية ونزيهة. ولا أعتقد أن الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات أقل حاجة أو أقل توقاً إلى هذا الخيار الديموقراطي، للحسم بصوته، وبما يعبر عن إرادته دون وصاية، في مسألتين أساسيتين متداخلتين: مسألة كيفية إدارة الصراع مع الاحتلال، خاصة بعد وصول خيار التفاوض معه إلى طريق مسدود. ومسألة كيفية البت في شأن الانقسام الداخلي، بعد ثبوت غياب إرادة قطبي هذا الانقسام عن إنهائه.
 
   عليه، فإن على القيادات الفلسطينية، وقيادتي "فتح" و"حماس" بخاصة، المبادرة دون تردد، إلى البدء في حوار وطني شامل، يبحث في كيفية إجراء انتخابات حرة ديموقراطية ونزيهة لمجلس وطني جديد، في الوطن، وحيثما أمكن في الشتات، والتوافق حيث تعذر، كمدخل لإعادة بناء وتوحيد وتجديد وتثوير منظمة التحرير الفلسطينية، وإناطة البت في باقي ملفات الشأن الفلسطيني خارجيا وداخليا، بهذا المجلس المجلس المنتخب. فمنظمة التحرير تأسيسا وميثاقا وبرنامجا وادوات، كانت انعكاسا جدليا لنهضة الحاضن القومي، ومفتاحه المصري بخاصة. وعلى القيادات الفلسطينية أن تنتهز ما يشهده هذا الحاضن من نهوض، وتبادر لإعادة بناء المنظمة وتوحيدها وتجديدها وتثويرها. بعيدا عن سلطة أوسلو الوهمية وبرامجها وانتخاباتها وانقساماتها، التي جاءت ولادة ومآلا ونتائج كارثية، انعكاساً جدلياً لمرحلة انكسار في مشروع حركة التحرر العربية، ومنها الفلسطينية. هبت الانتفاضات الشعبية العربية الجارية لاستكمال ما انقطع من مهامها.           

التعليقات