02/03/2011 - 10:42

من دلالات الانتفاضات الشعبية العربية../ علي جرادات

خلافا للفهم "التطوري" المبتذل، فإن الانتفاضات الشعبية العربية الجارية، تؤكد من جديد أن التاريخ يتطور متسقا وسائراً للأمام دوما، وإن تخلل مساره تعرجات وإلتواءات، بل وارتدادات كبرى للوراء أحيانا. فالناس يصنعون تاريخهم في نهاية المطاف

من دلالات الانتفاضات الشعبية العربية../ علي جرادات
من المفهوم أن تتأخر تجربة الأمة العربية، كأمة خضعت للاستعمار، مقارنة بتجارب مستعمريها. فالاستعمار الأوروبي الغربي لم يضاعف بالنهب تطور بلدانه فقط، بل احتجز تطور مستعمراته، وصاغها على شاكلة تخدم مصالحه، أيضا. ما قاد إلى أن يكون الفارق بين المستعمِر والمستعمَر، على كافة المستويات، مضاعفاً.
 
   أما أن تتأخر تجربة الأمة العربية بعد الاستقلال، حداثة وتحديثاً، عن تجارب أمم خضعت مثلها للاستعمار، كالهند والصين، (مثلاً)، فظاهرة بحاجة لتفسير. وأظن أن في الانتفاضات الشعبية العربية الجارية، ما يمكن أن يعطي تفسيراً تاريخياً موضوعيا لهذه الظاهرة. ولعل هذا أحد الإنجازات غير المنظورة لهذه الانتفاضات.
 
    فقد جاءت هذه الانتفاضات التغييرية، بالمعنيين الوطني والديموقراطي، بحدث تاريخي دامغ، يعري كل التفسيرات الأيدولوجية "فوق التاريخية" المسبقة، التي على تعدد مشاربها، تأثرت، (بهذا القدر أو ذاك، بجهل أو لمصلحة)، بتفسيرات استشراقية، تحيل إلى نظرية "المركزية الأوروبية"، التي أسقطت خصوصيتها على باقي الأمم، بما يفكك خصوصيات هذه الأمم ويشوهها، ويقلل من شأن مساهماتها المتفاوتة المتغيرة، تبعا لمتغيرات التاريخ الملموسة، في صياغة الحضارة البشرية ومنجزاتها.
 
   ولو لم يكن الأمر كذلك، لما كان هنالك تشكيك أو استغراب أو دهشة جراء انتفاض الشعوب العربية على أنظمتها الحاكمة التابعة، التي حولت استقلال الشعوب الوطني إلى استقلال شكلي، أجهض حوامل تطور الثورة الوطنية الديموقراطية العربية، عبر تكريس أسوأ أشكال الاستبداد السياسي، الذي احتجز التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والعلمي......
 
   بعيدا عن التفسيرات "فوق التاريخية" العنصرية المسبقة. وفي ضوء وبوحي الانتفاضات الشعبية العربية الجارية، فإن هنالك حاجة للنبش مجدداً في ملابسات وقائع الملموس التاريخي للاستقلال القومي للأمة العربية، مقارنة بغيرها من الأمم التي خضعت للاستعمار. هنا يمكن رصد جملة من الوقائع التاريخية المفتاحية، لعل أهمها:
 
   أولا: خلافاً لتجارب غيرها من الأمم التي خضعت للاستعمار، انطلقت مفاعيل الاستقلال القومي للأمة العربية، مثقلة بإرث أربعة قرون من سيطرة الإمبراطورية العثمانية، التي سطت على الوطن العربي، وشوهت تركيبه الاجتماعي والسياسي بآليتين: آلية النهب الريعي للمقدرات الاقتصادية، أي عبر جمع الخراج لخزينة الباب العالي وبذخ سلاطينه. وآلية استنزاف القوى البشرية، وتسخيرها في خدمة حروب العثمانيين وطموحاتهم الإمبراطورية.
 
ثانيا: لقد اصطدمت مفاعيل الاستقلال القومي العربي المنهكة بإرث الإمبراطورية العثمانية، عشية تفككها وانهيارها، بالاستعمار الأوروبي الغربي، الذي لم يكتف، على غرار العثمانيين، بنهب مقدرات الأمة العربية، بل، أضاف تمزيق وحدتها الجغرافية والسياسية أيضاً، بمشرط اتفاقية سايكس بيكو، ناهيك عن وعد بلفور، الذي أنجب إسرائيل، كاحتلال أجنبي استيطاني اقتلاعي ابتلاعي لفلسطين، لعب، وما زال يلعب، دورا في كبح التغيير، وتكريس أواصر التبعية وتعزيزها، في كامل أقطار الوطن العربي.
 
ثالثا: بفعل تضافر واقعتي الإرث العثماني والاستعمار الأوروبي الغربي، فضلا عما خلقتاه من تشويه للحوامل الاجتماعية والسياسية الداخلية، فقد جاءت تجربة الاستقلال القومي للأمة العربية مغايرة في صيرورتها، لتجربة غيرها من الأمم التي شاركتها مرارات الاستعمار وويلاته. ما فرض تخلفها عن تجارب هذه الأمم، (صيرورة وإنجازات). وهنا يمكننا ملاحظة جملة من الوقائع التاريخية، لعل أبرزها :
 
1: لم ينطلق الاستقلال القومي للأمة العربية موحداً، بل جاء قُطرياً. فمنذ البداية أفلح تحالف الإمبراطورية العثمانية مع الدول الإمبريالية بقيادة بريطانية، بإجهاض النهضة القومية العربية الموحدة، وكان المثال الأبرز على هذا الصعيد إجهاض حركة محمد علي التوحيدية التحديثية، التي لو نجحت، لكانت حال العرب تماما على غير ما هي عليه اليوم. بل، ولكانت مهام انتفاضات الشعوب العربية الجارية، ذات طبيعة ومضامين مختلفة وأعلى قومياً وديموقراطياً.
 
2: بعد ثغرة قُطرية انطلاقته، وربما بسببها أيضاً، جاءت بداية استقلال أقطار الأمة العربية، مساومة غير حاسمة. حيث وافقت قوى سياسية شبه برجوازية تابعة ذات أصول ارستقراطية وعائلية تقليدية، على نيل استقلال شكلي، قيدته معاهدات تتيح استمرار التدخل الأجنبي والتبعية له، وإن ظهرت بمظاهر ليبرالية ذات طابع تعددي. ما شكل إجهاضا وإختطافا، لجهود ومضامين الثورات الشعبية العربية ضد المحتل الأجنبي، بدءاً بثورة زغلول المصرية عام 1919، مرورا بثورة سلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو وصالح العلي السورية عام 1925، عرجاً على ثورة العشرين العراقية عام 1920، وانتهاء بثورات المغرب العربي: ثورة عمر المختار الليبية عام 1931، وثورة الريف في المغرب بقيادة عبد الكريم الخطابي، وسلسلة الثورات الجزائرية، وأبرزها ثورة عبد القادر الجزائري نهاية القرن التاسع عشر، وثورة لالا فاطمة في عشرينيات القرن العشرين......
 
3: نتيجة للطابع المساوم غير الحاسم لبداية نيل الاستقلال الوطني، (الذي جاءت واقعة نكبة فلسطين المفصلية عام 1948 لتكشف مقدار شكليته وزيفه)، ظلت هنالك ضرورة موضوعية لموجة ثانية من الثورات العربية لاستكمال مهام الاستقلال الوطني. ولما لم يتوفر شرط التنظيم السياسي الجاهز لتلبية هذه الضرورة، فقد تصدى الجيش كقوة منظمة للمهمة، (باستثناء الجزائر واليمن الجنوبي)، عبر القيام بانقلابات عسكرية: عبد الناصر عام 1952 في مصر، عدة انقلابات في سوريا، عبد الكريم قاسم عام 1958، ثم عبد السلام عارف 1963، واحمد حسن البكر عام 1968، في العراق......... من الانقلابات العسكرية، التي، وإن دعمتها الشعوب، وحملت ملامح تغييرات وطنية ديموقراطية، خاصة في مصر، إلا أنها ظلت، (كاتجاه عام)، حبيسة القمقم العسكري، ما سهّل الارتداد عليها، وجاءت هزيمة عام 1967، لتكشف زيف إدعاء قوتها.
 
   عليه، يمكن القول: إن الثورة القومية الديمقراطية العربية، وبفعل الملموس التاريخي لصيرورتها، والشروط الواقعية التي انطلقت منها وواجهتها داخليا وخارجياً، قد احتاجت، خلافا لثورات غيرها من الأمم، للمرور في أطوار متعاقبة متصاعدة، من حيث المشاركة المباشرة للشعوب في صياغة مضامين هذه الثورة. وتأتي الانتفاضات الشعبية العربية الجارية، كحامل حقيقي لهذه المضامين، فاتحة الآفاق أمام استكمال ما انقطع من مهامها. بل ومفسرة لظاهرة هذا الانقطاع، الذي أفضى إلى تخلف التجربة العربية، مقارنة بتجارب غيرها من الأمم.
 

   إذ خلافا للفهم "التطوري" المبتذل، فإن الانتفاضات الشعبية العربية الجارية، تؤكد من جديد أن التاريخ يتطور متسقا وسائراً للأمام دوما، وإن تخلل مساره تعرجات وإلتواءات، بل وارتدادات كبرى للوراء أحيانا. فالناس يصنعون تاريخهم في نهاية المطاف.             

التعليقات