06/03/2011 - 12:13

عن الختم الإسرائيلي على "أسفار" ظافر يوسف../ مجد كيال

ما أجمل ظافر يوسف حين يحاكي الحلّاج، فيحمل رؤيته للحق ويصفع مسلّمات ثقافية عربية كثيرة. عبر نقدٍ يحوم في فضاء حضارة الإنسان العربي. ما أقبح ظافر يوسف حين يسقط من إجماع الثقافة العربية متواطئا مستسلمًا متنازلًا عن الحق، ومتاجرًا بالإنسانية، حين ادعى حمل رسالة فنية جمالية وإنسانية قبلتها واستقبلتها أختام كيان يغتصب الإنسانية فينا يوميًا

عن الختم الإسرائيلي على
لم يلفت انتباهي أي أمر خاص فيما سمعته عن عرض "أسفار" في الأيام السابقة التي سبقت وصول الثلاثي جبران إلى فلسطين. فتمثيليات الانفعال التي تهيئها إعلانات العروض عند "جمهور الهدف"، صارت مستهلكة إلى درجة الملل، ولم يعد يلزمك لتفهم كم هي تمثيليات مستهلكة، إلا أن تخرج خطوةً واحدة خارج المسرحية الكبيرة. وبالإضافة لنفوري غير الجديد من الثلاثي جبران، لأسباب لطالما احتوت وتعدت الذوق الموسيقي، فإن الأوضاع السياسية التي نعيشها لا يمكن إلا أن تدفعنا نحو الانغماس في مزاج الأغنية السياسية.
 
لم أعر موضوع العرض أي اهتمام، لم أسأل حتى كيف كان العرض، إلا أني صُدمت حين قيل لي أن الفنان التونسي ظافر يوسف، كان قد شارك في جولة العروض التي قدمها الثلاثي في فلسطين. ظافر يوسف، موسيقي تونسي له، برأيي المتواضع، وزن وأثر على تطور الحالة الموسيقية العربية، خاصةً في العصب الصوفيّ لهذه الموسيقى.
 
*
 
التطبيع؛ ها نحن نقع مرةً أخرى في هذه المشكلة اللعينة. فهنا في فلسطين شرائح واسعة، ثقافية وسياسية على حدٍ سواء، لا تشير بوصلتها السياسية إلا نحو "الواقعية السياسية". شرائح تعتبر الإلحاح على رفض التطبيع، نوعًا من أنواع التمسّك بالماضي والحنين إليه، والمراهقة السياسية، والمزايدة. وقد صار بالنسبة لهذه الشريحة الخوض في إشكالية التطبيع "إزعاجًا" يميّز "هؤلاء الصبيانيين الذين لا زالوا يحلمون بتحرير فلسطين." أصبحت المطالبة برفض التطبيع بالنسبة لهم، تمامًا كحال المطالبة بوحدة الوطن العربي، أو حتى كامل التراب الفلسطيني، أو حتى عودة اللاجئين... وإن بقينا على المنوال ذاته، ربما سيصبح رفض "الانقسام الفلسطيني" ضربًا من ضروب إزعاج الواقعية السياسية.
 
ثم يتحالف أصحاب "الواقعية السياسية" مع دعاة "الثقافة والفن الذي يرتقي إلى ما فوق السياسة"، ويخرجون بتركيبة صارخة مفادها أن الفن رسالة إنسانية قبل كل شيء. أما من "إنسانية" الفن فيستنتجون، غالبًا، أن الفن والجمال ليس لهما لغةً ولا وطنًا، وبالتالي، فإن الفنان يحمل رسالة أسمى وأرقى من جوازات السفر.
 
ونحن نقول نعم، إن الفن والجمال رقي وسمو في الرسالة الإنسانية إلى ما فوق كل الشوائب الممكنة. ونزيد على هذا، أن الفنان المبدع والخلّاق والمثقف والنقدي، ما يميّزه عن الفنان التجاريّ، هو أن الرابط بينه وبين الناس ليس رابطًا استهلاكيا تجاريا، بل هو رابطً يضمن في داخله رؤية جمالية تنسجم مع جوهر إنسانيتهم.
 
ولكن، أيستطيع تحالف "الواقعيين مع المتفوقين على السياسة"  أن ينكر أن جوهر الإنسان (هذا الحيوان السياسي) هو حركته السياسية والاجتماعية؟ وهل ينكر هؤلاء أن الحركة السياسية والاجتماعية للإنسان لا بد لها من دوائر تبدأ بدائرة العائلة ثم ما هو أوسع منها نحو الدائرة القومية، وقد تتوسع نحو مجموعة "كل الناس"؟ وهل يمكن إنكار مكانة الأرض والوطن بما تحمله من عوامل تاريخية وجغرافية في بلورة الوعي، وما في الوعي من مفاهيم جمالية؟ وهل يمكن تصوّر الثقافة دون لغة؟
 
عبر مناصرته للحق، يلتزم الفنان بفعاليته السياسية في إطار دوائر الانتماء هذه. فينسجم من منطلق إنسانيته أولًا مع من يصبو نحو الحق. إلا أن ظافر يوسف لم يلتزم بهذا الرابط الإنساني البديهي. فضرب بعرض الحائط رفض الناس أن يدخلوا جزءًا من وطنهم بإذنٍ من مغتصبه، خاصةً وهم في هذه الأيام يسطرون أسمى الملاحم الإنسانية في ثورتهم. أليست هذه طعنة في ظهر الإنسانية بأبسط أشكالها؟ عن أي رسالة يمكن الحديث إذن؟
 
ما أجمل ظافر يوسف حين يحاكي الحلّاج، فيحمل رؤيته للحق ويصفع مسلّمات ثقافية عربية كثيرة. عبر نقدٍ يحوم في فضاء حضارة الإنسان العربي. ما أقبح ظافر يوسف حين يسقط من إجماع الثقافة العربية متواطئا مستسلمًا متنازلًا عن الحق، ومتاجرًا بالإنسانية، حين ادعى حمل رسالة فنية جمالية وإنسانية قبلتها واستقبلتها أختام كيان يغتصب الإنسانية فينا يوميًا.
 
الإنسانية التي تناصر إرادة الناس بالحق هي الإنسانية التي نعرفها ونؤمن بها، أما الإدعاءات السخيفة التي تلخّص الإنسان في حقه "أن يشاهد الفن أينما يريد وأن يقدم الفن أينما يريد"، فتتجاهل، أولًا، نداء الإجماع الفلسطيني على المقاطعة الثقافية للمستوطنات، حيث أن المبدأ يسري على الإنسان "أينما يريد". وثانيًا، تتجاهل حقيقة أن أعظم من قدم رسائل للإنسانية ماتوا قبلنا بمئات الأعوام، أو في بلاد بعيدة بعيدة. حتى دون تقنيات ووسائل اتصال متطورة، وصلت رسالة سيّد درويش والشيخ إمام، أوضح وأقوى من رسائل المطبّعين. فلا علاقة للرسائل الإنسانية والفنية بحضوركم الأرستقراطي الاحتفالي المزيّف.
 
*
 
خطيئة ظافر يوسف لم تظهر في دخوله إلى حيفا فحسب، بل إلى رام الله أيضًا، فيبدو أن البعض بحاجة للتذكير: الأبله وحده يُصدق أن السيادة على رام الله بيد جهة غير الاحتلال الإسرائيلي. وهناك أيضًا من يصدق كذبة الدولة، وكذبة السلطة، وكذبة الحكومة، فهناك من صاروا يرشحون وزراء لحكومة سيادته –دام ذخرًا لنا. وبالرغم من أنهم مثقفون لطالما أخذوا دورهم في العمل السياسي إلا أن الأمر يبدو كأن عفريتًا ركبهم، إن لم نشأ اتهامهم بعدوى فقدان البوصلة. فيتمسكون في بوصلة تشير إلى "الواقعية السياسية"، وها هو الواقع يتغيّر أمامنا على شاشة التلفاز، وبوصلتهم لا تتغيّر.
 
يبدو أن العدوى انتشرت، ومؤشرها الأساسي أن أحدًا قبل العرض لم ينتبه للأمر، ولم يناقشه، ولم يطرحه. والعدوى انتشرت لأن جزءًا ممن يحسبون نفسهم على النخب، لا يؤيدون عملية التطبيع فقط، بل يقودونها. فما أظن أن ظافر يوسف كان سيأتي لولا دعوة الثلاثي جبران. إنه تجديد مقزز، فعملاء السلطة بيننا لم يعودوا بحاجة لرمي شباك التطبيع واصطياد أهلنا ومثقفينا وفنانينا في الوطن العربي، هناك من يقوم بهذا العمل لأجلهم. ونحن لا نتّهم بالنوايا، لكن فقدان الألف باء في صراعنا ضد الاحتلال، تهمة لا تقل خطورة لفنانين ومثقفين يحسبون نفسهم نخبًا يمثلون شعب.
 
أخيرًا، علمت (عبر الفيسبوك) خبرًا مفاده أن ريم بنّا ستقدم أمسية غنائية في تونس اليوم الأحد المقبل، تأييدا للثورة التونسية. ولنقل أننا أمام فنانة مبدئية وحادة في مبادئها الوطنية ودفاعها عن قضيتها في كل كبيرة وصغيرة، من حقنا أن نسألها الآن بعد أن حضرت عرض الثلاثي وظافر يوسف في حيفا، والتقت بيوسف والمجموعة بعد العرض، لا بل وأتحفتنا بصورتها معه على صفحة الفيسبوك: هل ستخبرين الجماهير التونسية عن ابنهم الذي زار الأرض المحتلة مطبّعًا، قبل أن يزور تونس المُحررة؟
 
لقد سقط ظافر يوسف في زيارته هذه لفلسطين، وسقط من استضافه، ومن حقنا أن نضع علامات التعجب فوق رؤوس الآلاف الذين حضروا العرض واستمتعوا دون أن ينغزهم وجود ظافر يوسف، أو أي عربي آخر يأتي بتأشيرة الاحتلال، وعلامات السؤال فوق رؤوسنا، إن رأينا الإعلان قبل العرض، ولم نتذكر بديهيات قضيتنا الفلسطينية.

التعليقات