09/03/2011 - 13:12

ليبيا بين الانتفاضة الشعبية والتدخل الأمريكي../ علي جرادات

قصارى القول، نظام القذافي يسير نحو حتفه، وإن خلافاً لغيره، بتكلفة بشرية أعلى، وربما خلال مدة أطول. لكن أخطر ما في تجربة إزالته، يكمن في احتمال التدخل الأمريكي

ليبيا بين الانتفاضة الشعبية والتدخل الأمريكي../ علي جرادات
أدركه العقل أم لم يدركه، دفعت باتجاهه الإرادات أم لم تدفع، استفاد البشر من اكتشافه والعمل وفقه أم لم يستفيدوا، يبقى قانون ترابط الظواهر في الطبيعة والمجتمع والفكر، قانونا موضوعياً سارياً غير قابل للإلغاء. لذلك، كان الانعكاس الجدلي للثورة في الأساس الواقعي للمجتمع، (الثورة الصناعية)، في مجتمعات غرب أوروبا، واضحا جلياً، في الفكر والسياسة والاجتماع والعلم والفن والأخلاق الخ... وبكل هذا، وبفعله، تمكنت أمم غرب أوروبا، بعد مرحلة من الصراع المرير فيما بينها، من التوافق بناظم قانون الوحدة والصراع، على تقاسم النفوذ في العالم، وبالتالي من التفوق على باقي الأمم وقيادتها واستعمار بعضها، بما في ذلك أمم، ومنها الأمة العربية، كانت قد قادت البشرية في مراحل تاريخية سابقة.
 
بل، واستطاعت عبر النهب الاستعماري للعديد من الأمم، أن تجعل الفارق بينها وبين هذه الأمم، وعلى كافة المستويات، مضاعفاً، لأنها لم تضاعف بالنهب الاستعماري تطور بلدانها فقط، بل، وضاعفت احتجاز تطور مستعمراتها أيضاً.
 
   وفي هذا تفسير لنشوء نظرية "المركزية الأوروبية"، بل وتغلغلها، (لمصلحة أو لجهل) ، بهذا القدر أو ذاك، بشكل مباشر أو غير مباشر، بصورة معلنة أو مضمرة، في أوساط بعض من ساسة ومثقفي ومفكري الأمم التابعة. ذلك رغم أن هذه النظرية، لم تكن تزويراً فكرياً فُرض على التاريخ كأنه التاريخ ذاته فقط، بل، كانت غلافاً ايدولوجيا زائفا للتغطية على ممارسة الاستعمار والتبعية لبلدانه أيضاً. ما أسقط خصوصية أمم غرب أوروبا على خصوصيات باقي الأمم، بهدف  تفكيكها وتشويهها، وغمط مساهماتها، تبعا لمتغيرات التاريخ، في صياغة الحضارة البشرية ومنجزاتها، بغية استبقاء تبعيتها وتعميقها، بعد أن باتت ممارسة الاستعمار المباشر رذيلة، أسقطتها ثورات الاستقلال القومي والوطني، حتى، وإن لم تستطع إنهاءها كليا من التاريخ بعد. بدليل احتلال أمريكا المباشر لبنما والعراق وأفغانستان، والتلويح بالغزو لهذا البلد أو ذاك، ناهيك عن استمرار الاحتلال الاستيطاني الإقتلاعي الإبتلاعي الإسرائيلي في فلسطين.
 
   واليوم، يستبشر كل مواطن عربي، ومن حقه أن يستبشر، أن تفضي، (فيما تفضي)، الانتفاضات الشعبية العربية الجارية، وخاصة بعد انتفاضة مصر، مفتاح الأمة ومعيار عافيتها، إلى طي صفحة عمليات التجزيء والتفتيت، التي هندستها، وغذتها، عبر حوامل داخلية، تدخلات الدول الأجنبية، وخاصة أمريكا، التي أضافت لبِدعِ التاريخ بدعة "الفوضى الخلاقة" لكل أشكال التذبيح والتقتيل السياسي الطائفي والمذهبي والإثني والجهوي الداخلي للمجتمعات البشرية، وكان لأقطار الأمة العربية، بدءا بالعراق، النصيب الأكبر من ويلات هذه البدعة، التي انتشرت كالنار في الهشيم، بهذا القدر أو ذاك، في كل من اليمن ولبنان وفلسطين والصومال والسودان. بل، وكان الحبل على الجرار، لولا اندلاع انتفاضات شعبية عربية تترى، أشعل "الشباب" شراراتها، وقادوها، كما قادوا من كان يجب أن يقودهم من "معارضات"، بإبداع واقتدار، وما زالوا يسهرون بيقظة وعزيمة ووعي، مع من لحق بركبهم من قوى معارضة متعددة المشارب، على منع اختطاف هذه الانتفاضات أو احتوائها، خاصة بعد تمكنهم من صدِّ اغتيالها في كل من تونس ومصر.
 
   ولكن السيد القذافي، وعلى طريقته الفلكلورية الكاريكاتورية المثيرة للسخرية والتندر الممزوجين بالازدراء، أبى إلا أن يفسد المشهد العربي الجديد الناشئ، وإن كان غير قادر على إفساده كلياً، حين استل من عصور مغرقة في القدم فكرة "المُخَلِّص"، ومزجها، (دون اطلاع كما أظن رغم "عبقرية" كتابه الأخضر)، بفكرة الفيلسوف الانجليزي هوبز القائلة بضرورة الحاكم المطلق، خلافا لفكرة الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو القائلة بضرورة العقد الاجتماعي، المتجدد بإرادة الشعب، بين الحاكم والمحكوم، باعتبار أن الشعب هو المرجع الأصيل للسلطة.
 
   أجل، لقد أفسد السيد القذافي قليلا المشهد العربي الناهض بإرادة الشعوب، وقيادة "الشباب"، حين أعلن بأناه القبلية المتضخمة الحرب على شعبه المنتفض على ويلات طغيانه، بعد صبر دام أربعة عقود ويزيد، متناسيا، بل قاصداً ربما، إعطاء الذريعة لفكرة التدخل الأمريكي الأوروبي العسكري المباشر، الذي، وإن تغلف بضرورة وقف نزيف السائل الأحمر، (دم الشعب الليبي)، إلا أن عينه ترنو فقط إلى ضرورة سريان تدفق السائل الأسود، (النفط الليبي)، واستمرار نهبه.
 
هذا فضلا عما سيقود إليه هذا التدخل، إن حصل، من "عرقنة" لليبيا في وقت تستبشر فيه جماهير الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، بأن يستعيد العراق، "درة حضارة العرب"، عافيته من جديد، خاصة بعد ما شهده، ولا يزال، من حراك شعبي، هو، وإن بدأ مطلبياً في شعاراته، إلا أنه يضمر، بل يعلن، عودة إندفاعة وطنيته الجامعة، التي لم تنطفئ بدليل ما واجهه الاحتلال الأمريكي من مقاومة وطنية باسلة، كلفته آلاف القتلى والجرحى ومئات مليارات الدولارات، رغم ما عاشه الشعب العراقي، على مدار سنوات، وما زال، من عمليات ذبحٍ مبرمجة، وفتنٍ مذهبية وطائفية وإثنية تقسيميه متصاعدة.
 
   لقد أفضى حكم القذافي الاستبدادي الشمولي الممتد لأربعة عقود ويزيد، (وهو "الثائر" الذي لا يضاهى كما زعم، وصدقه بعض الناس لسنوات)، إلى تجويف المجتمع الليبي وإفراغه من مؤسسة جيش فعلية أو أية مؤسسات حزبية أو مؤسسات مجتمع مدني حقيقية، بحجة "أن من تحزب خان"، كشعار قرووسطي، تجاوزه التاريخ.
 
   واليوم يكمل القذافي، بمساندة أبنائه وبعض من قبيلته، لعبته الجنونية لتدمير ليبيا، قبل أن يرحل مقتولاً أو منتحراً أو معتقلا في قفص العدالة. ذلك ببساطة لأنه بخطاباته المضحكة المبكية، لا يعيش خارج مجريات الواقع الذي يدور من حوله فقط، بل، يعيش خارج التاريخ أيضا. إذ لنفترض أنه سينجح ميدانياً في حرب الإبادة الجماعية ضد شعبه، فكيف له أن يعود لحكم هذا الشعب سياسياً؟؟!! اللهم إلا إذا فكر أن يكون حاكماً لمقابر، تمتد من شرق ليبيا إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.
 
   قصارى القول، نظام القذافي يسير نحو حتفه، وإن خلافاً لغيره، بتكلفة بشرية أعلى، وربما خلال مدة أطول. لكن أخطر ما في تجربة إزالته، يكمن في احتمال التدخل الأمريكي، ما يفرض على قيادة الانتفاضة الشعبية الليبية، التي تحولت للأسف، بتخطيط من القذافي، إلى انتفاضة مسلحة، عدم الإنجرار إلى ما أراده القذافي، أي طلب التدخل الأمريكي، وأن ترفضه جملة وتفصيلاً. ففي هذا، بصرف النظر عن النوايا، "عرقنة" لليبيا، بل، وتشويه، ( تتمناه الأنظمة الرسمية العربية)، لصورة الانتفاضات الشعبية العربية، ما وقع منها، وما سيقع. ففزاعة التدخل الأجنبي، كانت إحدى فزاعات هذه الأنظمة في وجه الانتفاضات الشعبية، التي ثبت بطلانها في تونس ومصر حتى الآن.  

التعليقات