10/03/2011 - 16:35

"أمين القومية" في خدمة الغرب وإسرائيل../ ناصر السهلي

لم يتردد القذافي منذ اللحظة الأولى لحالة الصدمة التي أصابته عن استخدام مفردات لا تنم عن احترام لشعبه أولا، ولا لكل الشعارات التي كان يسوقها باسم "القومية العربية"

الخطاب الإعلامي و/ أو السياسي الذي صدر من السلطات الرسمية، وممثليهم، منذ الثورة التونسية والمصرية، والآن اليمنية، وبشكل واضح الليبية، ركز في تحليله لتلك الثورات على عدد من العناصر اللغوية التي يتم استخدامها بشكل مثير ومريب في محاولات إفشال هذه الثورات وتشويهها.
 
لم يتردد القذافي منذ اللحظة الأولى لحالة الصدمة التي أصابته عن استخدام مفردات لا تنم عن احترام لشعبه أولا، ولا لكل الشعارات التي كان يسوقها باسم "القومية العربية". فعدا عن التوصيفات التي سمعها الجميع عن الشعب الليبي، ولا حاجة الآن لتكرارها، فقد تجاوز الخطاب كل ما يمكن تصوره في قرننا، الذي تتطور فيه عملية انتقال المعلومات بشكل كبير ومذهل، عبر توصيفات مشتركة رددها أيضا قبله بن علي ومبارك، ومعه يرددها علي عبد الله صالح.
 
في التوصيف المنحرف في حالة الإنكار المتنقلة من نظام عربي إلى آخر ردد القذافي على مسامع الإعلام الغربي وعلى أبناء ليبيا خطابا يركز على عناصر مختلفة:
 
أولا، اتهام العرب ، من الجزائر ومصر وفلسطين ، بأنهم هم الذين يقومون بتأليب شعبه ضده، وأن ليبيا "محسودة" من العرب الذين يريدون تخريب البلد وثرواته وتقدمه وربما ديمقراطيته، وغسل أدمغة الشباب عبر ما أطلق عليه "الزنادقة".
 
ثانيا، أن تنظيم "القاعدة" هو الذي يقف وراء الثورة الشعبية الليبية عبر تسللها إلى ليبيا، وأن الفوضى ستعم وصولا إلى إسرائيل. وعليه فالغرب يجب أن يساعده في حربه ضد القاعدة والمتطرفين الإسلاميين. طبعا لم ينس القذافي أن يستخدم الخطاب القبلي المحذر من انفلات وحرب أهلية يقوم بتعزيزها عبر شراء الولاءات وتوزيع السلاح.
 
ثالثا، خطاب استعلائي يشبه بقية الخطابات الصادرة عن النظم العربية التي تثور شعوبها ضدها، حتى على لسان نجله الذي لا يملك أي منصب في الدولة الليبية، يقدم البلد على أساس أنه ملك له ولمن يختاره، وبأن البلاد ستصير إلى دمار وخراب بدونه. وقد خرج الساعدي، ابن القذافي ليخبرنا، كما فعل أخيه سيف، بأنه إذا ترك أبيه السلطة فلا أحد يستطيع تسيير البلد. وكان سيف قد سبق أن رفع إصبعه مهددا بإعادة ليبيا إلى عصر الستينيات من القرن الماضي.
 
بالطبع هناك الكثير من العناصر الأخرى المستخدمة في الخطاب السياسي، ومنها تحميل وسائل الإعلام العربية بداية مسؤولية ما يجري، ثم بعد ذلك توسعت لتشمل كل الإعلام الدولي، إضافة إلى مسألة المؤامرة الأميركية الغربية والإسرائيلية التي تستهدف البلد. لكن في العودة إلى العناصر الثلاثة المذكورة أعلاه تحليلا، وهي بمثابة قاسم مشترك بين الخطاب الممتد من ليبيا إلى اليمن وما بينهما من دول، نجد أن القذافي وقع في مطبات ومغالطات كبيرة وكثيرة.
 
في المسألة المتعلقة باتهام العرب بتأليب شعبه ضده قام القذافي بتقديم نفسه كزعيم قبيلة ( ليس بالضرورة قبيلته) فانتقل من مرتبة "أمين القومية" إلى مجرد شخصية مأزومة تبحث عن رمي العرب بتهم تقود إلى محاولة زعزعة العلاقات العربية - العربية (حتى على صعيد التحريض الشعبي لمن يصدقه) وبروز معاناته الحقيقية مع الذات حين الحديث عن "الحسد" وتقديم صورة تعيش في انفصام عن الواقع.
 
 فالتصوير المبتذل لشعبه، وخصوصا فئة الشباب منه، على أنهم مجموعة منقادة بفعل المخدرات من "حبوب هلوسة" يؤكد وصول القذافي إلى الحد الأقصى من تصوراته العبثية التي يعتقد من خلالها قدرته على إعادة ليبيا إلى ما كانت عليه قبل 17 فبراير، وهو تصور يقوده نحو المزيد من التلاعب الإعلامي بالمشاعر وبالصورة التي يتخيلها باعتبار أهل بنغازي وكل من ترك سلطته، وانضم للشعب مغررا بهم، وأنهم أسرى ورهائن الهلوسة تارة والتهديد تارة أخرى.
 
فإذا صدقنا فرضية أن العرب مسؤولون عما جرى في المدن الليبية من خلال ما يطلقون عليه "اندساس" في صفوف الشعب والشباب والتغرير بهم، فهذا يقودنا للسؤال حول مؤسسات الدولة الليبية التي لم نر منها سوى صورة القذافي وكتائب أولاده الأمنية التي لم تتردد في قتل أبناء الشعب الذين خرجوا يتظاهرون سلميا بأسلحة مضادة للطائرات والآليات قبل أن يمتشق الشباب الثائر سلاحا خفيفا وفرديا للدفاع عن الذات. فهل حقا كان القذافي يواجه القاعدة؟
 
لا يبدو من كبرى المدن الليبية التي سيطر عليها أفراد الشعب الرافضين لسلطته إمكانية أن يتم التغرير بهم من قبل ما وصفه القذافي مجموعات صغيرة لا تتعدى بضعة مئات على حد وصفه، فهو خطاب يعيد مرة أخرى النظرة المستخفة بشعبه وشباب ليبيا.
 
لكن يبدو أن خطابا من هذا النوع الذي ضايف إليه فجر الأربعاء 9 مارس "فوضى في كل المنطقة قد تصل إسرائيل" هو خطاب موجه للغرب وغريزة الخوف والتخويف باستخدام فزاعة القاعدة والهجرة السرية التي يبدو أن القذافي يستخدمها للابتزاز. وعليه بدا وكأن القذافي أكثر حرصا على أن اللعب على وتر "إسرائيل" ظنا منه أن ذلك سيجعل الغرب والعرب يعيدون حساباتهم كون "القاعدة" ستكون تهديدا للمنطقة. لكن لماذا "إسرائيل" تحديدا؟
 
القذافي ظهر مرة أخرى في هيئة يائسة وبائسة وتائهة تستنجد بالغرب لدعمه في مواجهته مع "القاعدة"، وأضاف إلى عناصر خطابه "إسرائيل" لأنه كشف عن قناع الزيف في حرصه على استثارة الغرب وتغطيته لقتل شعبه بفزعة القاعدة ودفاعا عن "إسرائيل" التي أجادت قبل القذافي استخدام تلك النزاعة في الثورتين التونسية والمصرية. لكن في الثورة المصرية لم يصل خطاب النظام المخلوع هذا الحد من البؤس في استدرار العطف والاعتراف من خلال الظهور بمظهر المدافع عن مصالح الغرب وأمن إسرائيل كما فعل القذافي، فتلك القراءة الجيوسياسية التي حاول القذافي إظهارها تحتاج للكثير من التفسير: فكيف دخلت القاعدة من الحدود المصرية قبل اندلاع الثورة؟ وكيف ستمتد القاعدة إلى "إسرائيل" من ليبيا؟ وما الذي يعنيه "تقويض السلام العالمي والاستقرار إذا انهار النظام، والذي يشكل صمام أمان وسلام ومنع وجود القاعدة ووصول الانعكاس على إسرائيل"؟
 
تتضح في لحظات الانتهازية القذافية أي نوع من التسويق البائس للذات أمام الاستعلائية الغربية لزعامات عربية من النوع الذي يتصرف مع الأوطان تصرفا تجاريا لا شيء آخر.. قد يصدم البعض مما جاء على لسان من اعتبر نفسه "أمينا للقومية" حين يتماهى في لغته وخطاباته الاستعلائية مع شعبه مع الطريقة التي تعود عليها من الغرب أن تصل الأمور في لحظات التجلي والسقوط اللغوي إلى الكشف عن مكنونات الانفصام بين الخطاب والواقع. فالرجل يُرسل موفدين إلى الغرب (الذي كان يعتبره معاديا) من بوابة الصفقات الإسرائيلية وبفزاعة القاعدة، وستكشف الأيام أي نوع من العلاقات المستورة، التي لا تختلف عن علاقة مبارك ورجالاته مع تل أبيب. تماما مثلما هي علاقات البعض "الديمقراطي جدا" على الساحة اللبنانية مع هؤلاء!
 
لكن هذه الانتهازية وكمّ الكذب الذي تضخه وسائل إعلامه وتلك العربية التي تتحسس رؤوسها عن القبلية وعن تسمية الثورة الليبية بالحرب والسؤال المتكرر عن المواقف الغربية بشكل مبتذل بينما يؤجل العرب اتخاذ خطوة واحدة تؤكد على أنهم فهموا درس الثورة العربية. كلها ستؤدي في نهاية المطاف إلى مزيد من الفضائح التي تُعجل بالتأكيد في إنجاز الشعوب العربية لثوراتها، وهي ترى هؤلاء الحكام يعيشون على أوهام نيل رضا وإعجاب الغرب وإسرائيل باسم الاستقرار ومكافحة وتأخير حرية الشعوب خوفا من حسابات إسرائيلية بالأساس!
 

بؤس الخطاب هو، وبؤس السياسة هي التي تبحث عن أقصر الطرق في التعبير عن الذات التي يتهم الحاكم شعبه بها، فجردة بسيطة للأجندات والعمالة والفتنة والاستقرار والمقاومة والاستسلام ستكشف سريعا حجم الوهم الذي يبيعه "أمين القومية".

التعليقات