13/03/2011 - 17:15

أسئلة الثقافة الفلسطينية: "عندما تزول الفروق، يا سيادة الرئيس"

<b> د. عبد الرحيم الشيخ/ رام الله أجمل الطرق في تكريم درويش، كما أرى، هي محاورة أفكاره العليا عن: فلسطين، والفلسطينيين، والفلسطنة؛ ومساجلة مقولاته الماسيَّة في الإجابة على أسئلة الثقافة الفلسطينية <b/>

أسئلة الثقافة الفلسطينية:

 

 

 أجمل الطرق لتكريم  درويش، كما أرى، هي محاورة أفكاره العليا عن: فلسطين، والفلسطينيين، والفلسطنة؛ ومساجلة مقولاته الماسيَّة في الإجابة على أسئلة الثقافة الفلسطينية "دفاعاً عن الفروق الصغيرة".


 

مع اقتراب "اليوم الوطني للثقافة الفلسطينية" في ذكرى ميلاد الراحل الكبير محمود درويش (في الثالث عشر من آذار)، تستبق فلسطينُ الثورةَ بحراكٍ "مثقفيٍّ" كبير مفارقتُه أن مناطه غير ثقافي، بل سياسي غارق في سياسة السطح بامتياز، وهو: حلُّ حكومة فلسطينية، ومشاورات لتشكيل أخرى. وإذا ما تمَّ التأسيس بأن فلسطين حالة استثنائية في كل شيء، تقريباً، فإن ما يزيدها استثنائية هو تفاعلها الباهت، رسمياً وشعبياً، مع الثورات العربية غرب حدودها التاريخية وشرقها. وما يزيد هذه الاستثنائية مفارقةً، تبلغ حدَّ المسخرة (بمفهوم علماء الاجتماع المغاربة الطقسي والأدائي للمسخرة، لا بالمفهوم الفلسطيني الدارج الذي يفتقر إلى عمق الطقس وجودة الأداء)، هو استباحة "قطاعات الثقافة الفلسطينية" للحبر الإلكتروني المجاني (وهذا موسمه على أية حال) وغيره من حبر الصحافة المكتوبة، لا لنقاش أسئلة الثقافة الكبرى في "اليوم الوطني للثقافة الفلسطينية"، بل للمشاركة-الورطة في مشاورات الوزارة، و"قدرة المرشحين على ضبط الموظفين"، واستباق الثورة، والتعليق على ما حدث..هنا، أو هناك!

 لستُ أكتب، بهذه المناسبة، تبشيراً بمولود ولا تعزيةً بمفقود، بل أخاطب جمعاً من الأصدقاء القدامى، وبعض من وضعوا أنفسهم في خانة الأعداء الجدد، و"أنا أحب الذين أدافع عنهم، ولا أكره من أعاديهم" على عكس طيَّار ييتس الذي أحبه محمود درويش ودافع عنه، وأستحضر مَعيناً، ومُعيناً، ثقافياً طالما استدعيته حين يعزُّ الـمُساجِل النبيل، وتكثر جلبة العربات الفارغة، وهو: الراحل الكبير محمود درويش، وهذا أوان استدعائه وتكريمه بالحوار والمساجلة، لا بالابتذال والمجاملة.

 قد يكون "اليوم الوطني للثقافة الفلسطينية" موسماً لتكريم درويش بإعادة تدشين ميدانه، أو استكمال حديقة ضريحه، أو تجديد إصدار طابعه البريدي، أو التعجيل بطباعة كتاب أشعاره المدرسي، أو المسارعة إلى تصحيح مقاطع أشعاره المخطوءة على شاهدة الضريح وصفحة الغلاف من "الخطة القطاعية للثقافة الفلسطينية"...لكن، أجمل الطرق في تكريمه، كما أرى، هي محاورة أفكاره العليا عن: فلسطين، والفلسطينيين، والفلسطنة؛ ومساجلة مقولاته الماسيَّة في الإجابة على أسئلة الثقافة الفلسطينية "دفاعاً عن الفروق الصغيرة." وبما أن أجمل طريقة لإحياء النموذج، في الفنون الراقية، هي تجاوزه، من حيث انتهى، نحو مرحلة جمالية وسياسية أكثر تقدماً وتقدميةً، لا استعادته حدِّ الإعادة الناسخة، فإن السجال، هنا، سيأخذ درويش ويؤخَذ معه إلى مسافة أكثر عمقاً في جدلية المثقف والسلطة التي صارت مجال اختصاص من لا اختصاص لهم.

لو كان درويش حاضراً، وهو الحاضر الأكبر في هذه المقالة، لافتتحت السجال معه بسؤالين شخصيين، وثالث عام: لماذا قبلت ترشيحك لعضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1987؟ ولماذا رفضت ترشيحك لأول وزارة للثقافة في السلطة الفلسطينية من أول رئيس لها في العام 1994؟ ولماذا امتلكت تلك الثقة الهائلة بأقل من يمكن الثقة به (وهو الزمن) لتعطي الأولوية لسؤال "الكينونة" عل حساب سؤال "الهدف" في العام 2002؟ لم يمقت درويش يوماً أكثر من التأويل، لا التأويل الخلاق على إطلاقه، بل تأويل أقواله ومقولاته هو، وبخاصة الشعرية منها ووزنها "بملعقة الشاي" من قبل "شبه ناقد" أو "شبه مستشرق" كما جاء في "حالة حصار". ولذا، لن أزعج سلام روحه بتأويل مقولاته، بل أستدعيها، تباعاً، لمقاربة الإجابة.

منظمة التحرير الفلسطينية: المقولة الكبرى ".. دفاعاً عن الفروق الصغيرة"

ففي مقالة، بعنوان: "قبل كتاب الاستقالة"، يتنبأ درويش باستقالة وشيكة من عضوية اللجنة التنفيذية، أي بعد أقل من ستة أعوام من قبوله للترشيح فيها، ويبين محنة الشاعر حين يكون عضواً في اللجنة التنفيذية، قائلاً: "أجدني مطالباً بالتعليق على وضعي الجديد. فماذا يفعل شاعر هناك، هناك في اللجنة التنفيذية؟ ولكن، هل يحق لي قبل ذلك أن أهمس بأنني بريء مما حدث لي؟ وأنني لم أرتكب أمراً أستحق عليه هذه العقوبة الفخرية! لقد فات الأوان. ضاق الهامش. وصار من واجب الكلمات أن تحاكم قائلها. إذ ليس العذاب هو أن تكتب، بل أن توضع، مع الكلمات، في سياق التنفيذ." كان درويش حينها، ولما يزل، حالماً، يناغي الربيع، ويحضر لكتابة سيرة البيوت، ويفلسف مسألة الوحي، ويقارن موقع الشاعر في اللجنة التنفيذية وضرورة اختياره "الجمالية" على حساب "الفاعلية،" ويحاول أن يعتذر عن قبول "العقوبة الفخرية" في أن يخدم عضواً في اللجنة التنفيذية لانشغاله بأمور أكثر أهمية، يقول: "كنت أطوِّر هاجسي إلى اقتراح سأقدمه إلى اجتماع الأمانة العامة لاتحاد الكتاب: الآن، وقد أنجزنا الوحدة الوطنية، أتمنى أن تعفوني من إحدى المهمتين: اتحاد الكتاب والصحفيين، أو مجلة "الكرمل". وكنت أشرح السبب: لا لشيء، إلا لأملك وقتاً أرحب لخدمة موضوع الاتحاد والمجلة، وهو الكتابة.."

هنا، اعتبر درويش عضوية اللجنة التنفيذية "ركلة إلى رأس الرمح: "آخ..لقد أصابوني بضربة على الرأس حوَّلت إجازتي إلى ذكرى بعيدة. ماذا فعلوا بي؟ لماذا ركلوني إلى فوق، إلى رأس الرمح؟ وماذا يفعل شاعر هناك، ماذا يفعل شاعر في اللجنة التنفيذية! ليتني سافرت، لأدافع عن حقي في هامش.. لقد فات الأوان." لكنه دشَّن مقولة أخلاقية تفيد بأن المسؤولية السياسية للمثقف النبيل تحتم عليه الانحياز لأهم ما هو خارجها بالضرورة، وهو الكتابة، واعتبر أن اتحاد الكتاب ومجلة "الكرمل" أكثر جدوى من عضوية اللجنة التنفيذية، إذ لا يمكن للمقاتل أن يحمل الرمح ويجلس على رأسه في آن معاً، وإن تنفيذاً "لعقوبة فخرية" تلبية لـ"مقتضيات النشيد."

وكما لم يكن درويش مولعاً بالتأويل الرمزي للقضية الفلسطينية، يقول: "لست مولعاً أيضاً باستباق مرحلة ما بعد التأسيس، حيث نمتلك القدرة العينية على البحث الإشكالي في العلاقة ما بين المثقفين والسلطة، والبحث في مفهوم السلطة، وسلطة الكتابة، في تجمعات لم تكوِّن مجتمعاتها من ناحية، ومن ناحية أخرى في مجتمع خاضع لسلطة احتلال تطرح العلاقة بينهما أسئلة عن دور الكتابة وطبيعتها في عملية التحرر الوطني وصياغة الهوية الثقافية، وعن علاقة الخاص الوطني بالعام القومي والإنساني. إن ذلك هو ما يشد انتباهنا، دون أن تسعى هذه الأولوية إلى تعميق الاغتراب عن الأسئلة العالمية التي تناقشها مجتمعات نعيش على هامشها." هنا يقفز درويش عن الخاص الفردي ليحيله إلى وطني، وعن العام الوطني ليحيله على قومي وإنساني كناية عن أن مسؤولية الشاعر والمثقف هي أوسع من فلسطين، وأقصى من الفلسطنة، وبخاصة أن مهمة إنتاج فلسطين، في الواقع والمخيال، قد تم بترها على يدي القوى الاستعمارية الصهيونية وأداتها الدولانية المتجسدة في إسرائيل التي اقترفت النكبة، وحالت دون العودة وإقامة الدولة.  

تُدخل هذه المقولة المثقفَ في صراع بين السياسي والثقافي ينبغي حسمه جمالياً وفعلياً عبر خلق التناغم بين الحقلين في السياق الوطني، إذ يؤكد درويش أن "ما يشد انتباهنا أيضاً هو تطوير وعي الخصوصية لكل مستوى من مستويات نشاطنا الوطني، وضرورة التقليل من الالتباس بين "السياسي" و"الثقافي" في علاقتهما التناغمية في سياق "الوطني"، ليتمكن النص الأدبي الفلسطيني من امتلاك شروطه الخاصة به، لا لنتحرر فقط من قوة الإنكار النقدي المتربصة بتعبيرنا الأدبي، بل ليُمنح المدى الإنساني فينا حق الكلام بلغة الأدب الدالة على الطاقة الإبداعية التي يملكها شعب لم يمنح، بعد المعاناة والمذابح، غير حق الكلام السياسي." لقد كانت هذه هي الصياغة المخففة لمقولة درويش اللاحقة، في بيت الشعر الفلسطيني في العام 1998، بأن "البطل قد يمل من دوره" وأن "ثمة حاجة لتفكيك البطل." لكن درويش، في المقامين، يرى في الكلام الأدبي أخلاقيةً قصوى تعلو على حق الكلام السياسي بوصفه تبعة لم يكن الفلسطينيون ليختارونها لو أتيح لهم عيش حياة طبيعية في ظل شرط تاريخي طبيعي. وهذا هو ما طوَّره درويش، لاحقاً، ليصير "البحث عن الطبيعي في زمن غير طبيعي" همه ومهمته القصوى بعد أن "رجع" إلى فلسطين "ولم يعد". 

لقد عرف درويش مكانه، وأدرك تماماً مكانته، وبين "المكان" و"المكانة"، يمكن للمثقف أن ينزلق إلى مأزقين، نجا منهما درويش باقتدار ولا زال معظم المثقفين الفلسطينيين يقعون في واحد منهما على الأقل على نحو تناوبي، هما "القطيعة" و"القيد" فـ "السياسة، في الشرط الفلسطيني، هي انخراط شعب في عملية تكوُّن وطني ساخن تختلط فيها الحدود بين خصوصيات نشاط تتمكن فيها الأولويات من إحراج الأدب بمطالبته بأن يحتل موقع السياسي أولاً، وبتبرير ما فيه من عزلة مهنية مهما كانت درجة انخراطه، ثانياً. لذلك، يكابد المبدع الفلسطيني مأزقين: مأزق الالتزام بما يحيله من صوت فرد إلى صوت شعب. ومأزق الدفاع عن طبيعة التعبير عن هذا الالتزام بوسائل أخرى غير سياسية وغير وطنية مباشرة، تقتضي الاحتفاظ بمسافة لا تشكل قطيعة من ناحية، ولا تشكل قيداً من ناحية أخرى".

في هكذا حالة ينبغي للمعركة أن تحسم لصالح الجمالي، إذ يدشن درويش درساً لافتاً لخيارات المثقف حين ينحاز، إلى الجمالية على حساب الفاعلية، فيقول: "تلك هي حياتنا. هذه هي حياتنا. أقواس متوترة. اصطياد ما يقدمه لنا الزمن من لحظات كتابة. بدايات. مطالع. مقدمات لا تستطيع السرد حتى النهاية لأن البداية تتقاطع مع بداية أخرى تبترها بداية جديدة، مما يأذن للسياسي بأن يبعد الأدبي قليلاً. لأن السياسي في ظروفنا قادر على القول إنه أكثر فائدة وفاعلية، وأكثر وطنية من الأدبي. فالفائدة أجمل من الجمالية. وما على الأدبي إلا أن يسرق الوقت الخاطف ليرفض المفاضلة بين الجمالية والفاعلية، وليقول إن الوطني في الأدب هو الإنساني القادر على النمو بين التوتر المتجانس بين الفاعلية والجمالية. هل هذا ترف؟ لا. إنه معركة."

لا يستغني درويش عن تجميل المحزن، وليبقي على جذوة الحلم، ويربيه كما يربي العاطلون عن العمل آمالهم، يقارب درويش هامش المثقف المدفوع إلى الاشتغال بالسياسة  بزراعة الأسرى للأزهار في ساحات السجون، وزراعة أمهات اللاجئين للحبق والنعناع أمام أكواخ الصفيح. ويتألم متأملاً: "وماذا علي أن أفعل؟ وماذا يفعل شاعر في اللجنة التنفيذية؟ هل أستطيع كتابة كتاب عن الحب عندما يقع اللون على الأرض في الخريف؟ أم أعتذر عن الموقع الجديد؟ ما عليَّ، الآن، إلا الامتثال للإرادة الوطنية.. سأكون، كما كنت، جندياً صغيراً في معركة الحرية وفي معركة النشيد..سأدافع عن الفروق الصغيرة. وسأواصل وصف الشجر.."

 هنا، يبقى السؤال الذي يستفز التأويل؟ لماذا انتصرت الفاعلية على الجمالية في خيار درويش بأن يقبل عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية؟ لا تحتاج الإجابة إلى كثير من التأويل، وهي قابعة، ببساطة، في نهاية مقالته: بقي هناك، شاعراً في اللجنة التنفيذية، إلى أن فقدت "الفاعلية" السياسية لعضويته فاعليتها، وصار عاجزاً عن "الدفاع عن الفروق الصغيرة"، ولم تعد منظمة التحرير (في صيغة أوسلو) قادرة على أن تكون طرفاً فاعلاً في معركة الحرية، ولا في معركة النشيد. هنا، استقال درويش من اللجنة التنفيذية، وأصرَّ على "الفروق الصغيرة" حتى في وجه الرئيس الشهيد، أول رئيس للسلطة الفلسطينية. 

السلطة الفلسطينية:

المقولة الصغرى ".. عندما تزول الفروق"

فعشية توقيع اتفاقية أوسلو في العام 1993، استقال محمود درويش من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وذهب أبعد من كل من إدوارد سعيد وشفيق الحوت، اللذين استقالا كذلك، في إبداء رأيهما في أن أوسلو كانت حلاً لعقدة الأمن الإسرائيلية ولم تكن حلاً للقضية الفلسطينية، وأنها كانت إعلاناً للمبادئ بلا مبادئ. علل درويش استقالته، التي تنبأ بها قبل قبوله لكتاب الترشيح لها، ورفض بالمطلق المشاركة كوزير للثقافة في أول حكومة فلسطينية يشكِّلها الشهيد الراحل ياسر عرفات، أول رئيس للسلطة الفلسطينية. يقص أكرم هنية الظرف التاريخي لذلك العرض في مقالته التسجيلية النادرة، بعنوان: "صحراء هيوستن: الشاعر في رحلته الأخيرة"، وبخاصة في القسم المعنون بـ"الدور المباشر"، والذي يناقش فيه هنية مراوحة درويش بين الثقافي والسياسي، وما كان من أوَّلية وأولوية للأول على الآخر، فيقول:

"... أذكر أنه في ربيع  1994 كنت ومحمود ضمن أعضاء وفد رافق الرئيس الراحل ياسر عرفات في زيارة إلى جنوب أفريقيا للاحتفال بنهاية الحكم العنصري، وتنصيب نيلسون مانديلا رئيساً للبلاد. وخلال الرحلة استدعاني الرئيس إلى حيث كان يجلس في الطائرة الكبيرة لمناقشة تشكيل أول حكومة فلسطينية، فقد كان استحقاق العودة إلى الوطن يقترب، وكان مطلوباً فق الاتفاقيات أن تبدأ منظمة التحرير الفلسطينية بتسمية الوزراء الذين سيتسلمون الحقائب المختلفة، وبعد مناقشة مجموعة من الأسماء بادرني أبو عمار: طبعاً محمود درويش يتسلم (وزارة) الثقافة. ترددت للحظات قبل أن أجيب: أخ أبو عمار، في التاريخ الحديث لشعبنا رمزان أنت ومحمود درويش، أنت الرمز الوطني والسياسي وهو الرمز الثقافي، محمود سيعود إلى الوطن، وربما كان من الأفضل أن يواصل إنجازه الثقافي بعيداً عن تعقيدات المرحلة القادمة. لم يناقش أبو عمار كثيراً، على غير عادته، لكنه، كعادته، لم يستسلم على الفور، وقال في النهاية لنسأل محمود. وكان الاعتذار هو رد محمود. ولم يؤثر ذلك على الإطلاق على العلاقة الوثيقة بين أبو عمار ومحمود الذي كان استقال قبل شهور من تلك المرحلة من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مسجلاً علناً انتقاداته وملاحظاته على اتفاق أوسلو. غير أن هذه الانتقادات، التي ثبتت صحتها، لم تجعل محمود درويش يتردد في أن يحزم حقائبه في المنفى الباريسي كي يعود إلى ما هو متاح من أرض الوطن."

ولكن جملة "وكان الاعتذار هو رد محمود"، التي كتبها هنية في العام 2009، حملت وراءها كثيراً من التفصيلات غير الاعتذارية وذات المغزى التي قصَّها محمود درويش، بكل ما يعلو التقاء حاجبيه من سخرية فاعلة ودهاء فذ، لسيمون بيطون، مخرجة فلمه التسجيلي "محمود درويش: الأرض تورث كاللغة" في العام 1998، ذلك أن الرئيس الشهيد حاول استمالته بالقول: "ما ضرَّ مارلو أن يكون وزيراً في حكومة ديغول؟" فرد درويش: "يا سيادة الرئيس هنالك ثلاثة فروق على الأقل: أولاً، فرنسا ليست الضفة الغربية وقطاع غزة؛ ثانياً، مكانة ياسر عرفات ليست مكانة شارل ديغول؛ وثالثاً، محمود درويش ليس أندريه مارلو. هذه، يمكنك القول، فروق صغيرة، لكنه إن حصل وأصبحت فلسطين بعظمة فرنسا، وأصبح ياسر عرفات شارل ديغول، وبلغ محمود درويش مكانة مارلو.. فإنني، عندئذٍ، أفضل أن أكون جان بول سارتر!"

لا تحتاج هذه الحادثة بالغة الندرة في موقف المثقف النبيل من السلطة، لا أية سلطة بل سلطة بالغة التعقيد سياسياً وأخلاقياً وفي ظل شرط استعماري صهيوني لا يرحم، إذ المقولة نظام محيل إلى ذاته وغير قابل للتأويل: فلا الوزارة وزارة، ولا السلطة دولة، ولا القائد رئيساً، ولا مكان للشاعر في السلطة حتى وإن زالت الفروق، فخيار جان بول سارتر كان خارج سياسة السطح حتى في جمهورية ديغول. ولكن، ما يحتاج وقفة ليس بنية هذه القصة النادرة، بل الدوافع التي أدت بدرويش إلى اتخاذها، وهي أن العودة، في إطار أوسلو، لم تكن "عودة،" وأن السلطة، في ذات الإطار، لم تكن "دولة"، ولن تكون، ذلك أن الفلسطينيين، ودرويش واحد عزَّ مثيله منهم، ولدوا على مفارقة "تفتح لفعل الماضي الناقص باب المدائح على مصراعين: المكان المفقود، والزمان المفقود" بين محنة الخروج من البروة-البئر، وحنين العودة إليها دون أن تلتبس "العودة" بشوائب "الرجوع،" ودون أن ينزلق "الوصول" إلى درك "المجيء." وحين أدرك درويش صعوبة المهمة، لم يبتسم ابتسامة العارفين الذين يؤدلجون الهزيمة، بل أصر على كتابة إلياذة الفلسطينيين وأوديستهم في آن، رغم قناعته بأن بينيلوب، وإيتاكا، وطروادة الظافرة لم تكن إلا أوهام الخلود اللازم كشرط ضروري للوجود، لا العكس عند من يعرف ذاته ويعرِّفها بأنه "أول القتلى وآخر من يموت."

ولذا، فقد أمَّن هذا اليقين لقصائد درويش،  هومر-المغلوبين الذين يرفضون قصة الغلبة-الطرواديين من غير سوء الذين يعرفون أن "الهزيمة والنصر وهمان يحسنان لعبة التناوب،" وللفلسطينيين طاقة فائقة على تغيير وظيفة العين من "الإبصار" إلى "السمع" لتنصت إلى ولوولات اللاجئين المطرودين إلى البحر والصحراء قبل أن تقنعهم البلاغات العالية بضرورة "استدراج الذئب إلى حفلة عزف على الغيتار." ولذا، فقد رفض درويش، كما يسرد بمرارة قاتلة في "حيرة العائد" و"في حضرة الغياب"، الشهادة على أوسلو بوصفها "مسرحية فاشلة باطلة" أحالت سؤال الفلسطينيين من "بحث عن بيت" إلى "بحث عن قبر" دون أن يكون الحصول على الأخير مؤمَّناً. ولذا، فقد كتب درويش استقالته ليس من السلطة الفلسطينية التي لم يدخلها، بل من منظمة التحرير الفلسطينية التي شكلت غطاءً قانونياً لاتفاقية أوسلو، واعتبر أن الحسنة الوحيدة للاتفاقية، التي حلَّت مشكلة الأمن الإسرائيلية ولم تحل المشكلة الفلسطينية، أنها جنبته البحث عن أسباب إضافية لتقديم الاستقالة!

عندها، كان درويش عائداً حائراً، أو حائراً عائداً، لكنه لم يعد، لا يكذب على أحد ولا على نفسه، ويبقى حائراً في: "أي داهية قانوني أو لغوي يستطيع أن يصوغ معاهدة سلام وحسن جوار بين قصر وكوخ، بين حارس وأسير،" ثم لا يخفي خيبته، ويقول: "أتيتُ ولم أصل، وجئتُ ولم أعد." لأنه لم يضمن مقعداً، ولا مرقداً تحت سدرة المنتهى (متران من ذاك التراب: متر و75 سنتمتراً): قرب فيصل الحسيني في القدس، وإبراهيم أبو لغد في يافا، وتوفيق زياد في الناصرة، وإميل حبيبي في حيفا... وإدوارد سعيد في أعالي الساحل الفلسطيني.

 هنا، انحاز درويش إلى اللاجئين ولم يرتزق بقضيتهم، وتحسَّر على السلطة حين صرخ قبل عقدين "ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة،" وهنا بدأ الحاضر يمارس حق السخرية في تعليم الغائب درساً في تربية الحنين إلى المعنى الأول كما يراه درويش: "وتسأل: ما معنى كلمة "لاجئ"؟ سيقولون: هو من اقتُلِع من أرض الوطن. وتسأل: ما معنى كلمة "الوطن"؟ سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز، والسماء الأولى. وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات...وتضيق بنا؟" لا يجيب الغائبُ، ولكن غائباً آخر يذكر ما قاله الحاضر الأبدي: "تعلَّمت كلَّ الكلام وفككته لكلي أكتب مفردةً واحدةً، هي: الوطن."

 سؤال الكينونة وسؤال الهدف:

"... لنا هدف واحدٌ واحدٌ واحدٌ: أن نكون"

 وبعد أن تم "الرجوع" بلا "عودة"، كما دشَّن درويش، برزت إلى حيز الفاعلية والجمالية أسئلة أخرى، يتعلق أهمها بالكينونة. فلا العودة تمت، ولا الاحتلال انتهى، ولا الدولة قامت، ولا ما تبقى من الوطن عجم كنانته ليكمل المسيرة، بل صار فيما رضي به الفلسطينيون من سلطة، لا دولة، على جزء من وطنهم التاريخي: شبه سلطة أضعفها الاحتلال، وبوارد إمارة شيطنتها الأمم، وشركناها نحن في الشيطنة؛ وجسر مفتاحه بيد العدو، وأنفاق ساعة رملها بيد عدو آخر... هنا، كان التحدي الأكبر أمام الرئيس الشهيد حينما لُطم بـ"عرض باراك السخي" لتصفية كبريات مواجع القضية الفلسطينية، اللاجئين والقدس، وكان الرفض، وكان الاستشهاد، وكان الحصار... فكانت مقولة الكينونة أعلى، عند درويش، أعلى من مقولة الهدف:

 "واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا. خالدون هنا.
ولنا هدف واحدٌ واحدٌ واحدٌ: أن نكون.
ومن بعده نحن مُخْتَلِفُونَ علي كُلِّ شيء:
علي صُورة العَلَم الوطنيّ

(ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخترتَ يا شعبيَ الحيَّ رَمْزَ الحمار البسيط).
ومختلفون علي كلمات النشيد الجديد
(ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخترتَ أُغنيَّةً عن زواج الحمام).
ومختلفون علي واجبات النساء
(ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخْتَرْتَ سيّدةً لرئاسة أَجهزة الأمنِ).
مختلفون علي النسبة المئوية، والعامّ والخاص،
مختلفون علي كل شيء. لنا هدف واحد: أَن نكون ...
ومن بعده يجدُ الفَرْدُ مُتّسعاً لاختيار الهدفْ."

 كان هذا شعر المرحلة وشعارها الساخر من حسن البداية وحمق الختام، ولا ينبغي له أن يتغير، إذ لم ينته الاحتلال، ولم تقم الدولة، ولم تزل غزة في أسر الداخل والخارج. لكن هذا كله لم يثن درويش عن وجهة الكينونة، ولم يرث حال البلاد في بكائيات السؤال عن "البديل،" إذ لا بديل عن حالة الاستهداف إلا الكينونة، وتأجيل الاختلاف إلى ما بعدها من أهداف مع أبناء الأم إلى أن يحسم سؤال الكينونة مع أبناء العم.

 سؤال البديل، وفزَّاعات التلاشي

"...من سيبكي علينا حين تنتهي الحرب يا صديقي المحارب؟"  

 وبعد، ينبغي أن نكف عن سؤال درويش، وأن نسأل أنفسنا: عندما يذهب الشعراء إلى الحكم، من "سيحرس الكلام من الخلخلة"؟ ومن "سيدافع عن الفروق الصغيرة؟" ومن سيكون بوصلة العمل الثقافي الوطني الذي يصرُّ على تحقيق العودة، وإقامة الدولة على فلسطين الميثاق الأول، وإنفاذ وصية الشهيد الأخيرة؟ وحتى لا تطغي "الجمالية" على "الفاعلية"، أقول:

 -  لن يبلغ أي من مثقفي اليوم شأو درويش ولا شأنه، ليدعي أن "الفروق الصغيرة" قد زالت ليصير المثقف (شاعراً كان، أم مفكراً، أم معلِّقاً، لم يُطلب تعليقه، على شيء: "براً ولا صدقة"!) وزيراً. وحتى وإن زالت الفروق، فمثال درويش يفعل في "الكلام" لا في "النظام"... ومن يعتبر نفسه أعلى من درويش مكانة، وأحدَّ منه بصراً، وألمع منه بصيرة، فلا نحسده على وِزر الوزارة، وهنيئاً له تخليه عن مسؤولية الدفاع عن "فروق" درويش "الصغيرة"، وهنيئاً لمن يرفضها حين يواصل حرب الدفاع عن الفروق الصغيرة في ميدانه الأجل: "ميدان تحرير" العقول من الفكرة الصدئة الني صارت أكبر من الدولة: "ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة!"... ما أصغر الفكرة، ما أصغر الدولة!

-  لا تحتاج الوزارة "قوياً" ولا "أميناً"، وليست تحتاج، بالقطع، "مهرجاً" ولا "لصاً"، بل تحتاج حلاً، لا لمشكلتها، إذ فيها تمكن المشكلة، بل نحتاج حلَّـها. هنا يقول الكثيرون: ما البديل؟ ولمن تترك ساحة الثقافة الفلسطينية؟ الإجابة واضحة، ولعلها تكون أوضح ما تكون في وزارة الثقافة: الحل في إعادة ملف الثقافة الفلسطينية إلى منظمة التحرير بكافة هيئاتها ذات العلاقة: من دائرة الثقافة، إلى الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، إلى اللجنة الوطنية للثقافة والتربية والعلوم...وغيرها من الهيئات لتمارس دورها، ولتدافع عن "شرف المعنى" بعد أن أنهك الوزارة الدفاع عن "شرف المبنى"، ولتحمل مقولات الثقافة الفلسطينية باقتدار، ولتتواصل مع جغرافيا الوطن الفلسطيني، فلسطين الميثاق الأول، والشتات الأول.

 -  ليس من داخل السلطة، التي أنهكتها الاتفاقيات السياسية، و"استحقاقات السلام" و"لجان مراقبة آثاره"، يتم تفعيل المقولة الثقافية العليا للثقافة الفلسطينية، بل بتفعيل حركات المجتمع المدني غير المحكومة باشتراطات سياسية، والتي أثبتت، يوماً بعد آخر، قدرتها على التغلب على الانقسام المأساوي على نحو جعل المقولة الجماهيرية تسبق المقولة الرسمية؛ واستعادة الريادة الفلسطينية في توجيه الخطاب والموقف العالمي من القضية الفلسطينية وإسرائيل العنصرية؛ والعمل على إنهاء الاستعمار لا الاحتلال وحسب، وتكريس الثوابت الوطنية وتجاوز الخطايا والأخطاء في تاريخ فلسطين التراجيدي (1905-1948-1967-2011).

-  لم تلتقط فلسطين بعد مقولة الثورات العربية الجارية، ولن تلتقطها الرسمية الفلسطينية إلا في إطار منظمة التحرير الفلسطينية التي أثبتت تاريخياً أنها قادرة على الجمع بين خطاب الحرية وخطاب الحقوق في غياب السيادة والمواطنة؛ وقادرة إعادة عزل إسرائيل بعد أن انهارت أكبر حاضنات استقرارها الرمزي بانهيار النظام المصري؛ وقادرة على إخافة الفزاعات الاستعمارية والرجعية (التي تسم للمفارقة طيفاً غالباً في الخطاب العلماني الفلسطيني اليوم) التي تخيرنا دوماً بين الاستبداد العلماني أو الأصولية الإسلامية، وبين الاستبداد السلطوي أو الفوضى الطائفية والاجتماعية الداخلية، وبين الاستبداد أو التدخلات الخارجية وعودة الاستعمار مباشراً أو غير مباشر. 

-  لن يكون المثقف الفلسطيني قادراً على التقاط إشارات الثورات العربية المجاورة، واستكمال مسيرة الثورة الفلسطينية ما لم يكن مثقفاً من طراز "الفيلسوف المقنع" ومشاركاً في الحلم "بالمثقف المحطَّم لليقينيات والمسلمات الكونية، المثقف الذي يتمكن، رغم عطالة الحاضر وقيوده، من تشخيص نقاط الضعف، وينفذ إلى مخارج الخلاص، وخطوط القوة.. المثقف الذي يزج بنفسه بإقدام لا يعرف كيف ولا إلى أين، ولا يفكر بالغد لأنه جد مستغرق بالحاضر الثقيل. إنه المثقف الذي يسهم، عبوراً، في طرح السؤال فيما إن كان ثمة من جدوى لحدوث الثورة، وما هو نوع الثورة، وما استحقاقاتها إن كان لا بد منها... إنه من المؤكد أن من هم مستعدون للمخاطرة بحياتهم في سبيل حدوثها، هم وحدهم من يستطيعون إجابة السؤال."

التعليقات