26/03/2011 - 12:29

ليكن كل واحد منا محطة تلفزيونية لفضح أكاذيبهم وتعتيمهم../ هيفاء زنكنة*

إن ما تتعامى عنه أجهزة الإعلام العربية (معظمها منشغل بوصف قصف ليبيا باليورانيوم المنضب أو القاتل البطيء بانه دفاع عن المدنيين) هو أن اصغر تظاهرة في العراق تستحق التبجيل، لا التغطية الإعلامية فحسب، لأنها تظاهرة ضد سلطتين شرستين لا تعرفهما أية دولة عربية أخرى غير فلسطين. المتظاهرون العراقيون يواجهون بنزولهم إلى الشوارع والساحات سلطة الاحتلال مالكة أكبر قوة عسكرية في العالم (الموجودة على مبعدة مئات الأمتار فقط من المتظاهرين) وسلطة المستخدمين المحليين الذين دربتهم قوات الاحتلال فارتكبوا من الجرائم، خلال ثماني سنوات، ما عجزت عنه الأنظمة القمعية العربية، مجتمعة، خلال عقود من الحكم

ليكن كل واحد منا محطة تلفزيونية لفضح أكاذيبهم وتعتيمهم../ هيفاء زنكنة*

في البداية، كان جهاز الإعلام الغربي. وضع أساس جدار الصمت مزينا بالوطنية (الصفة الحميدة لهم المذمومة لنا) ومحاربة الإرهاب والانتقام من ضحايا الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. لم يعد العراق موجودا إلا كحاوية للإرهاب والقاعدة. لم يعد المقاوم المدافع عن أرضه وحريته وكرامته غير إرهابي (متمرد بأحسن الأحوال) يستهدف الأبرياء! ثم استلم جهاز الإعلام العراقي المؤسس من قبل البنتاغون المذياع ليطلق صوت المظلومية والترويع من الإرهاب والقاعدة والبعثيين الصداميين. صار يستدر الدموع عزاء أو مادحا إنجازات المحتل لقاء 30 دولارا. حسب سعر السوق لكل مقالة منشورة باسم صحافي أو مثقف عراقي. ثم انضم الإعلام العربي ليزيد من ارتفاع جدار الصمت ارتفاعا.

الإعلام الذي انطلق في بداية الاحتلال مدافعا عن كرامة العراق وحقه في التحرير انتابته حالة شلل في النطق بعد ترويعه واستهداف عدد من صحافييه، شهداء الكلمة الصادقة الحرة.

اليوم، بعد مرور ثمان سنوات على الاحتلال، بات جدار الصمت مغلفا حتى لحقيقة أن العراق لا يزال محتلا وأن الحرب لم تنته. بأعلى اصواتنا نقول: الحرب لا تزال مستمرة. المقاومة ستبقى مستمرة ما دام المحتل باقيا ومهما كانت أشكاله ومهما أطلق على نفسه من أسماء وتصنيفات للتسويق الإعلامي. إن التعتيم الإعلامي الغربي والعربي والعراقي (باستثناء بضع قنوات لا تزال تسمي وجود 50 ألف جندي أمريكي و 65 ألف مرتزقة و94 قاعدة عسكرية احتلالا) ومنهجية الصمت على قتل المواطنين، هو مشاركة في جريمة لن تغتفر. إنه مساهمة في بناء جدار طوله وارتفاعه حياة مليون مواطن.

إن من يتابع نشرات الأخبار على الفضائيات ومعظم أجهزة الإعلام لن يعثر على العراق، مهما واصل البحث، وكأن العراق وشعبه اختفيا فجأة من خارطة الوجود، وكأن الواقع الثوري العربي لم يعد يتسع للبلد الذي أوقف التوسع الإمبريالي في المنطقة، بعدما كان يهدف إلى التقدم السريع إلى بلدان أخرى ليرسم خارطتها الجديدة. فلم الصمت؟ أخبروني، بالله عليكم، من الذي قتل 4759 جنديا أمريكيا وبريطانيا وأعطب ما يزيد على 32 ألفا غير المرتزقة، حسب إحصائيات البنتاغون كحد أدنى؟ من الذي ساهم في انهيار الاقتصاد الأمريكي بعد أن استقبل الشعب العراقي العدو المحتل بمقاومة السلاح بدلا من الزهور والحلوى؟ هل اتفق الجميع، غربا وعربا، على ذبح المقاومة صمتا وتعتيما؟ أم أن العراق هو البلد الأكثر استقرارا في المنطقة، كما بات نوري المالكي ونوابه يروجون وأجمعت اجهزة الإعلام على نقله بالإجماع، كما يقول الشاعر التونسي المنصف المزغني في قصيدة له بعنوان 'ثغاء' : خروف / دخل البرلمان / قال: 'ماع'/ فجاء الصدى: 'اج...ماع'؟

إن الواقع، كما نعرفه، يكذب إجماع الصامتين على الجرائم. فالحكومة العراقية سباقة في احتلال المواقع المتقدمة في المؤشرات الدولية . فهي الأكثر فسادا والأكثر تهجيرا منذ عام 1948، والأكثر اعتقالا وتعذيبا والأسرع في اصدار أحكام الإعدام بلا محاكمات عادلة (في سجن الناصرية لوحده هناك 350 محكوما بالإعدام). إنها الحكومة التي ترعى رقما قياسيا من المعتقلات "السرية" والعلنية والقوات الخاصة والميليشيات وفرق الموت وعمليات الاغتيال بالأسلحة الكاتمة. إنها الحكومة التي اختارت حماية مصالحها ومصالح المحتل على حساب المواطن وتجويعه وإهانته. إنها حكومة لايمر شهر بدون أن تصدر المنظمات الحقوقية العالمية تقريرا يدينها بنوع من أنواع الجرائم أو الانتهاكات. ومع ذلك، تسير أجهزة الإعلام محتمية بجدار الصمت، متظاهرة بعدم القدرة على السمع والرؤية والنطق. لتنتقي ما تريد أن تراه وتصغي لما تريد وتنطق به. تضخم ما تبغي تضخيمه، وتقلل بل وتخفي ما تريد إخفاءه. فأسدلت على العراق عباءة تعتيم سوداء. لتخون بذلك، لا الشعب العراقي فحسب، ولكن لتخون نفسها، جوهر عملها، وسبب وجودها، ولتخذل شهداءها.

ولننظر إلى التغطيات الإعلامية التي رافقت تظاهرات الشباب في تونس ومصر والبحرين واليمن وليبيا ونقارنها بالتغطية الإعلامية التي صاحبت التظاهرات في العراق. لا مجال للمقارنة إطلاقا. ففي الوقت الذي رافقت فيه الكاميرا كل صغيرة وكبيرة تحدث في البلدان الخمسة الأولى إلى حد المشاركة الفعلية في إبداء النصيحة وإطلاق التوجيهات وتحشيد المشاعر، كما ولو أن ساحات التظاهر قد تحولت إلى استديوهات برامج واقع افتراضي، مرت كاميرا الإعلام العربي، خاصة، مرورا عابرا على التظاهرات العراقية التي شملت 16 محافظة من مجموع 18 وأدت إلى استشهاد 29 من الشباب والاطفال في الأيام الأولى لانطلاق التظاهرات، وكانت وحشية فرق "مكافحة الشغب" متبدية في حملة الاعتقالات التي طالت عددا من المنظمين الشباب والصحافيين والمثقفين الذين تم تعذيبهم وتهديدهم بالاغتصاب، حسب شهاداتهم بعد إطلاق سراحهم.

وقد بلغ شعور الشباب المتظاهرين بالمرارة والغضب من التعتيم الإعلامي الممنهج حدا دفعهم إلى توجيه نداءات على الفيسبوك (موقع الثورة العراقية الكبرى مثلا) إلى أبناء الشعب لكي "يظهروا وبالصور والفيديو كل الحقائق التي تبين مطالب الشعب المظلوم والتظاهرات اليومية وقمعها من قبل النظام والتعتيم الإعلامي الكاذب.. وليكن كل واحد منا محطة تلفزيونية لفضح أكاذيبهم وتعتيمهم".

واعتبر الموقعون على بيان مشترك صادر عن اللجنة التحضيرية لتظاهرات يوم 9 نيسان المقبل (ذكرى الاحتلال): "إن الإعلام نصف المعركة" داعين إلى العمل، على التحشيد المكثف لتظاهرة كبرى في ساحة التحرير ببغداد، كما حصل قبيل يوم انتفاضة الغضب في 25 شباط/فبراير لتسجيل حضور متميز يستقطب اهتمام العالم مع التأكيد على سلمية التظاهرات و"تجنب التصادم مع القوات الأمنية قدر الإمكان، لأنهم ـ بحسب تجاربنا الفتية في التظاهر ـ لا تعرف سوى لغة القوة المفرطة في التعامل مع أي احتجاج، ومحاولة التعاطي معهم بما يزرع الطمأنينة في نفوسهم، ويدفعهم للتعامل الإيجابي مع المتظاهرين".

وتشير إحدى رسائل الفيسبوك على موقع الثورة الكبرى إلى نقطة مهمة عند محاولة تلخيص تجربة التظاهرات في الأسابيع الماضية وهي نجاحها في "إيقاظ الحس الوطني الذي نالت منه العقود السابقة، إما بسبب الأنظمة الحاكمة التي دفعها التشبث بالحكم إلى ضرب هذا الشعور، أو بسبب الإحتلال الذي كان ـ وما يزال ـ يعتقد ألا مندوحة عن المبدأ الإستعماري الشهير: فرق تسد، من أجل البقاء، ونهب الثروات" إذ غابت عن التظاهرات الأصوات الطائفية والعرقية والدينية وفضحت، في الوقت نفسه، زيف الساسة وتضليلاتهم وجبنهم حيث لجأوا إلى "التوسل بالأمهات ليمنعن أبناءهن من الخروج في تظاهرات سلمية، والفرار بالعوائل والأموال خارج البلد، خشية من العواقب، واللجوء إلى القمع، وحبس الناس في بيوتهم، وسحب هوياتهم وبطاقات تموينهم، واعتماد الأسلوب الوحيد الذي يتقنونه وهو القتل والاعتقال، وشراء الذمم بالأموال، معتقدين أن الثورة هبة عاطفية، ستهدأ يوما، ولم يدركوا أنها قرار مصيري اتخذه الشعب بملء إرادته، ولا عودة عنه".

إن ما تتعامى عنه أجهزة الإعلام العربية (معظمها منشغل بوصف قصف ليبيا باليورانيوم المنضب أو القاتل البطيء بانه دفاع عن المدنيين) هو أن اصغر تظاهرة في العراق تستحق التبجيل، لا التغطية الإعلامية فحسب، لأنها تظاهرة ضد سلطتين شرستين لا تعرفهما أية دولة عربية أخرى غير فلسطين. المتظاهرون العراقيون يواجهون بنزولهم إلى الشوارع والساحات سلطة الاحتلال مالكة أكبر قوة عسكرية في العالم (الموجودة على مبعدة مئات الأمتار فقط من المتظاهرين) وسلطة المستخدمين المحليين الذين دربتهم قوات الاحتلال فارتكبوا من الجرائم، خلال ثماني سنوات، ما عجزت عنه الأنظمة القمعية العربية، مجتمعة، خلال عقود من الحكم.
"القدس العربي"

التعليقات