11/04/2011 - 12:51

تركيا: مناورة كبرى.. السعودية: رشوة التاريخ../ زكريا محمد

الفراغ العربي يتعمق. ولا يوجد في مصر محمد علي كي يقيم قوة تكون في حجم القوة العثمانية، أو عبد الناصر لكي يمسك بالدفة، ويؤمن الحد الأدنى من المصالح العربية. يوجد العجوز حسين طنطاوي الذي لا يستطيع أن يقود. عليه، نكون أمام تركيا أولا، وإيران ثانيا، إذا استثنينا إسرائيل

تركيا: مناورة كبرى.. السعودية: رشوة التاريخ../ زكريا محمد
يتضح الآن بلا أدنى شك، أن المواقف التركية خلال الأعوام الماضية لم تكن إلا بدايات لمناورة تركية كبرى، تستهدف ترسيخ موقع تركيا في المشرق العربي، عبر استعادة ما للدور العثماني القديم. فما بدا كيقظة تركية تجاه الموضوع الفلسطيني، يتكشف الآن عن أنه سياسة تركية عامة، أرادت في لحظة ما أن يكون الوضع الفلسطيني مدخلها. فقد أدركت بشدة أن المشرق العربي يعيش لحظة فراغ، وأنها قادرة على ملء جزء من هذا الفراغ، وعلى الحصول على حصتها منه ومن المنطقة.
 
   ويمكن القول إن الثورات العربية لم تغير الأمور بعد، أي لم تتمكن من توليد وضع يتم فيه سد الفراغ بأيد عربية. بل لعل الفراغ قد ازداد مؤقتا، بفعل الاضطراب العظيم الذي لم يهدأ بعد، ولم يصل إلى نتيجة حاسمة. 
 
 وبشكل محدد، ورغم أن الثورة المصرية أعطت مصر والعرب إشعاعا معنويا واسعا، فإن مصر لم تستطع بعد استعادة قدرتها على الفعل. ويعود إلى ذلك، إلى حد كبير، إلى طبيعة السلطة الجديدة، الممثلة بالمجلس العسكري. فهذا المجلس له قيادة تقنية، لكنه لم يفرز قيادة ذات حضور شعبي، تكون قادرة على اتخاذ القرارات. أما رئيسه العجوز حسين طنطاوي فمربوط- مع عدد من الأعضاء الآخرين- بألف خيط بالنظام السابق، مما يجعل الأزمة الداخلية تطول بشكل غير مفيد لدور مصر والمنطقة. فبدلا من أن يتم حسم الأمور مع بقايا النظام السابق، تجري عمليات متقطعة، وتحت ضغط الشارع، لتقليص نفوذ بقايا هذا النظام. وإذ تشعر هذه البقايا بحذر المجلس العسكري وخوفه، فإنها تشعر بالثقة بأن المجلس يخشاها، أو أنه يخشى الناس في الشارع مثلها. لذا فهي تزداد شراسة.
 
وهكذا، لا تتمكن مصر من الوقوف موحدة على قدميها، ويزداد حجم الفراغ الذي تتصارع على ملئه القوى الإقليمية والدولية. ولا يبدو أن الأمور ستتغير في مستقبل قريب. أي أن مصر ستظل بلا قيادة فعلية متماسكة، متفقة مع غالبية شعبها، وتدرك أن الوقت من ذهب. ثمة قيادة تقنية، وليس هناك من قيادة سياسية فعلية. وهذا سيعمق فراغ المشرق العربي.
 
 أما الفراغ فيملأ الآن من قبل تركيا أساسا وإيران جزئيا، ومن قبل الولايات المتحدة والغرب، بالطبع. فقد تمكنت تركيا، وبفعل الإصلاحات المتدرجة التي أدت إلى حياة ديمقراطية، أن تتجنب الاضطراب والثورات التي كانت مآل البلدان العربية التي عجزت عن الإصلاح ورفضته. يعني: لو لم يكن لتركيا حكومة منتحبة منذ سنوات، ولو نجح عسكرها في كبح الإصلاح، لكان تسونامي الثورات قد ضربها كما ضرب مصر سابقا، وكما يضرب سوريا حاليا. أي أن أردوغان أنقذ في الواقع تركيا من عبء الثورات. ولأنه أنقذها، فهي في موقع يتيح لها أن تناور لتبت موقعها في المنطقة، وتزيد حصتها منها. أي أن تصبح عثمانية بشكل ما.
 
 في المقابل، تفعل المملكة السعودية العكس. فبدل أن تستوعب الدرس التركي الإصلاحي، فقد أثار رعبها الدرس المصري الثوري. لا هي تريد الدرس التركي ولا الدرس المصري. وهذا ما يجعلها تبني لنفسها سياسة دفاعية، بل ودفاعية جدا، تقوم على منع التغيير وعلى مواجهة طموح الناس، والتخويف من الخطر الإيراني. الخطر الإيراني موجود، لكن أفضل مواجهة له تكون عبر الإصلاح الداخلي، لا عبر منع الإصلاح الداخلي، والقيام بدور الثورة المضادة في الجوار.
 
في كل حال، لم يعد الحديث ممكنا عن وجود سياسة سعودية. توجد ردات فعل سعودية، هدفها درء الثورة، ومنع الإصلاح. ومثل هذه السياسة لا تقوم أساسا على ملء أي فراغ، بل تؤدي في الواقع إلى تعميق فراغ المشرق العربي. يعني: سياسة ستنتهي، وبشكل ما، إلى تسليم تركيا قيادة المنطقة. 
 
 ويجب القول لحكام السعودية إنه لا يمكن تكرار ما حصل في الخمسينيات والستينيات الآن. لن ينجح ما نجح في تلك الفترة. إذ عملت السعودية أيامها على محاصرة الحركة الثورية التي كان رمزها عبد الناصر. وقد نجحت في ذلك في النهاية. لكن نجاحها لم يكن من براعة سعودية، بل كان من براعة أمريكية أساسا. إذ سخرت هذه إسرائيل من أجل صيد (الديك الرومي)، أي عبد الناصر، وقد فعلت ذلك بنجاح في العام 1967. لكن الظروف الآن تختلف جدا عن الخمسينيات والستينيات:
 
 أولا: السعودية لا تواجه الآن ضباطا يقومون بانقلابات، بل تواجه شعوبا، أحست بالثقة بالنفس، وداست على الخوف.
ثانيا: الولايات المتحدة ذاتها في وضع قلق في المنطقة وفي العالم، وهي مرغمة على التخلي عن جزء مما تملك في المنطقة لصالح قوى غيرها.
 ثالثا: إسرائيل تغيرت هي الأخرى. تغيرت بعد حرب تموز 2006 التي أفقدتها الثقة بنفسها ومستقبلها. وتغيرت داخليا، بعد أن نخرها الفساد، وسيطرت عليها القيادات الضعيفة. وكل هذا يجعل من المعركة السعودية معركة خاسرة. التاريخ لا يتكرر. وحين يتكرر فهو يتكرر كملهاة كوميدية. وما تقوم به السعودية الآن هو كوميديا لا تراجيديا. 
 
 إذن، فمصر، مؤقتا على الأقل، خارج اللعبة. والسعودية تقوم بمحاولات مستميتة لـ (رشوة التاريخ) بالدولارات. لكن التاريخ لا يرشى. عليه، لا يكون من قوى إقليمية سوى تركيا وإيران. بالطبع هناك إسرائيل. لكن إسرائيل لا يمكن أن تكون عنصرا داخليا مقبولا في المنطقة، المر الذي يعني أننا أمام تركيا وإيران. ويبدو أن تركيا تتفوق هنا على إيران، التي يبدو الحلف ضدها واسعا جدا.
 
ويمكن للمرء أن ينظر بإعجاب إلى اللعبة التركية ومناورتها الواسعة، التي تمتد من: ليبيا، إلى العراق، إلى البحرين، إلى سوريا، إلى فلسطين. والإعجاب هنا لا يعني الموافقة والاتفاق، بل يعني في الوقع قدرا من الحسد لتركيا التي لديها قيادة تستطيع أن تدافع عن مصالحها القومية. وهي تدافع عن هذه المصالح بلا رحمة أحيانا، كما هو الحال في ليبيا. فأمام الصراع الغربي استلحمت تركيا في الدفاع عن مصالحها، حتى لو أدى ذلك على جرح صورتها أمام ثوار ليبيا، وأمام الكثيرين العرب. قالت تركيا: أنا لدي مصالح، وهي على مستوى مصالح فرنسا وبريطانيا في ليبيا، وسأدافع عنها حتى باللعب مع القذافي.
 
وفي سوريا نرى الأمر كذلك. فهي مع نظام الرئيس بشار الأسد، لكنها لا تفلت الإخوان المسلمين. وقل مثل هذا عن فلسطين ولبنان والبحرين والعراق. غنها لعبة كبرى في غياب أي لاعب عربي من الدرجة الأولى، مثل مصر والسعودية، أو الدرجة الثانية مثل سوريا، أو غيرها. 
 
 الفراغ العربي يتعمق. ولا يوجد في مصر محمد علي كي يقيم قوة تكون في حجم القوة العثمانية، أو عبد الناصر لكي يمسك بالدفة، ويؤمن الحد الأدنى من المصالح العربية. يوجد العجوز حسين طنطاوي الذي لا يستطيع أن يقود. عليه، نكون أمام تركيا أولا، وإيران ثانيا، إذا استثنينا إسرائيل.
 

التعليقات