19/04/2011 - 14:11

جوليانو وفيتوريو وضياع المشروع الفلسطيني../ ماجد كيالي

ينبغي الحض على محاكمة قانونية وعلنية، من أجل الفلسطينيين، أيضا، وللحسم الثقافي مع هذا الاتجاه المضر لقضية فلسطين وشعبها وحركته الوطنية

جوليانو وفيتوريو وضياع المشروع الفلسطيني../ ماجد كيالي
محاكمة قتلة جوليانو خميس في الضفة الغربية وفيتوريو أريغوني في غزة يجب أن تركز على المسارات التي أوصلتهم إلى تنفيذ فعلتهم، وفضح الأفكار التي دفعتهم إليها، وتعريتها، وعزلها.
 
بعد أيام قليلة على مصرع جوليانو خميس، في جنين في الضفة، طالت يد الغدر الدنيئة فيتوريو أريغوني، في قطاع غزة. جوليانو هو فلسطيني - إسرائيلي، سليل عائلة مناضلة، ورث عنها شغف النضال من أجل الحرية والعدالة والسلام، وضمنه لشعب فلسطين، ما ذهب به حد تفضيل العيش في جنين، آخذا على عاتقه (وأمه) تعليم أطفالها حب الحياة والفن والإبداع، ما تجسّد بإقامتهما مسرحاً في مخيمها (مسرح جنين). أما فيتوريو فهو ناشط ايطالي، قدم على متن إحدى قوافل سفن الحرية (2008) إلى غزة، للمساهمة في تخفيف معاناة أهلها ورفع الحصار عنهم، ولنصرة قضية شعب فلسطين. هكذا، وبسبب تعلقه بغزة، وعشقه لأطفالها وشبابها، فضّل البقاء بينهم، على العودة الى بلده (ايطاليا)، رغم قسوة العيش، والحرب الإسرائيلية المدمرة، التي كانت تعرضت لها، ورغم معاناة الحصار.
 
هكذا جمعت المصادفة الأليمة مصيري هذين الشابين الرائعين، إذ أخذتهما يد الغدر الآثمة والعابثة ذاتها، جوليانو اغتيل بالرصاص، وفيتوريو اغتيل خنقا، والقتلة هم مزيج من أغبياء وحمقى وعميان بصر وبصيرة. جوليانو ترك حسرة كبيرة في قلوب أهل جنين الذين عايشهم وعرفوه عن قرب، فأحبوه، وفيتوريو ترك حسرة مماثلة عند أهالي غزة، الذين عايشوه وأحبوه كما أحبهم وانتصر لهم؛ إلى درجة أن كل عائلة من عائلات غزة احسّت وكأنها فقدت عزيزا من عائلتها (على ما روى صديق غزّاوي لي).
 
الآن، ليس المطلوب مجرد التبرّؤ من فعلة مشينة كهذه، أضرت بقضية فلسطين وصدقية نضال شعبها، ولا الاكتفاء، فقط، بإدانة هذا الفعل الإجرامي، ولا محاكمة القتلة الجبناء فحسب، المطلوب أكثر من هذا وذاك. وفي الحقيقة فإن الفلسطينيين، في هذه المرحلة، أحوج ما يكونون لإخضاع قتلة جوليانو وفيتوريو إلى محاكمة قانونية وعلنية، يحضرها ممثلو المنظمات الحقوقية المحلية والأجنبية، وتجري وقائعها أمام الرأي العام، عبر الفضائيات العربية والأجنبية.
 
نعم، هذا أقل ما يجب فعله ليس فقط للتبرؤ من هذه الجريمة النكراء، وإنما أيضا لتحصين المجتمع الفلسطيني من الأعراض ذاتها التي دفعت المجرمين إلى تنفيذها. بمعنى آخر فإن هذه المحاكمة ينبغي أن لا تقتصر على الاقتصاص من المجرمين، وكفى، وإنما يجب أن تتركّز، أيضا، في البحث عن المسارات التي أوصلتهم إلى تنفيذ فعلتهم، وفضح الأفكار التي دفعتهم إليها، وتعريتها، وعزلها؛ وهذا أقل ما يمكن عمله لإنصاف جوليانو وفيتوريو.
 
ولعل محاكمة كهذه يمكن أن تهدئ الأجواء في الرأي العام في إيطاليا والغرب، فضلا عن أنها بمثابة لحظة ثقافية مكثفة ينبغي للفلسطينيين خوض غمارها على الملأ مع هذه الاتجاهات. من جانب آخر، ثمة مصلحة لحركة "حماس" لحثّ محاكمة كهذه، لأنها وحدها التي يمكن أن تبرئها، وتميّزها عن غيرها، من مثل جماعات كهذه، وهذا أقل ما يجب أن تفعله سلطة "حماس" في غزة؛ حتى يتيقّن العالم بأن الفلسطينيين، وضمنهم "حماس"، براء من جماعات وأفكار لا علاقة لها بالوطن والوطنية.
 
ولهذه المناسبة ربما ينبغي التجرّؤ على القول، وبكل صراحة، إن جريمتي القتل هاتين هما بالضبط بمثابة امتداد طبيعي لضياع المشروع الوطني الفلسطيني، وعدم احترام التعددية، وانتهاك الحريات الشخصية، وعدم قبول الرأي الأخر، وشيوع الفوضى، وسيادة نزعة العنف (اللفظي والجسدي)، وتشريع عمليات التنكيل والسحق والاعتقال والاختطاف والاقتتال، لحسم الخلافات في الساحة الفلسطينية، على الضد من كل الأعراف والشرائع والقوانين والأخلاقيات.
 
 أيضا، ينبغي القول، بعد كل ما جرى، إن حصر المقاومة في نمط العمليات التفجيرية، التي تستهدف الرضّع والأطفال والنساء والشيوخ، من الإسرائيليين، في الحافلات والمطاعم والمدارس، ارتدّت بدورها على الفلسطينيين أنفسهم (عن قصد أو من دونه) كما شهدنا.
 
ولا نقصد هنا، بالارتداد، العمليات الانتقامية الإسرائيلية المدمرة، فهذه هي طبيعة إسرائيل، القاتلة والعنصرية والاستعمارية والمجرمة، ولكننا نقصد هنا أن تلك العمليات الفوضوية والمزاجية والتنافسية، التي ليس لها أي ارتباط بإستراتيجية سياسية، ارتدّت علينا، أيضا، بطريقة عكسية، أي بتفشّي نزعة العنف العمياء عندنا، وبسيادة لغة الإقصاء والتخوين والتكفير، لحسم خلافاتنا، بحيث وصلنا إلى درجة الاقتتال على مجرد سلطة تحت الاحتلال.
 
والمعنى من ذلك أن القضايا العادلة يبنغي أن تتوسّل، أيضا، طرقا عادلة، ومشروعة، من النواحي السياسية والقانونية والأخلاقية والدينية، لتوضيح ذاتها، وجلب التعاطف معها، وفرض حقيقتها على عدوها.
 
ربّ قائل: "لكن إسرائيل تقتل الأطفال وتنتهك الحرمات وتغتصب الحقوق وتمتهن الكرامات"، وهذا كله صحيح، لكن يجب أن ننتبه إلى أن هذه هي إسرائيل، التي نقول عنها، أيضا، بأنها دولة استعمارية وفاشية ومجرمة، وخارجة عن القوانين والشرائع. وحقا فإن إسرائيل هذه لا ينبغي أن نتشبّه بها، وإنما ينبغي توضيح مشروعنا النضالي باعتباره مشروعا نقيضا لها، من النواحي السياسية والقانونية والأخلاقية. هكذا نوضّح عدالة قضيتنا أمام العالم، وهكذا نعيد الاعتبار لصدقية كفاحنا أمامه، وهكذا نحمي أنفسنا من عدوى الإجرام الإسرائيلي.
 
ولعل الفلسطينيين معنيون بإدراك أن المقاومة ليست فعلا ثأريا، وإنما هي طريقة للنضال، من أجل تحصيل الحقوق، وأنها لا تختصر ولا تختزل بالكفاح المسلح وحده، الذي تمارسه مجموعات محترفة، وفقط، إذ أنها، من الأصل، مقاومة شعب، أو فعل شعبي، يتوخّى كل الوسائل لاستعادة حقوقه. لأجل ذلك كله ينبغي أن تتوجّه الضغوط لا من أجل مجرد محاكمة متعجلة وسرية للقتلة المجرمين، لأن ذلك بمثابة قتل ثان لجوليانو وفيتوريو، وإنما من أجل محاكمة قانونية وعلنية لهم، محاكمة تكفل تعرية دوافعهم، والمسار الذي أوصلهم إلى تنفيذها، وفضح الانحطاط الأخلاقي الذي أوصلهم إلى القتل.
 
ينبغي الحض على محاكمة قانونية وعلنية، من أجل الفلسطينيين، أيضا، وللحسم الثقافي مع هذا الاتجاه المضر لقضية فلسطين وشعبها وحركته الوطنية. 

التعليقات