25/04/2011 - 11:35

عمّا نتدبّر به أحوالنا ومقاوماتنا../ ماجد كيالي

أسئلة العمل الفلسطيني، ومنها سؤال المقاومة، تحتاج إلى أجوبة عديدة، محدّدة، ومتداخلة، وموضوعية، بمعنى أنها لا تحتاج فقط إلى مجرد عواطف وشعارات وتمنيات، حتى لو استندت في كل ذلك إلى مشروعيات التاريخ والحقيقة والعدالة

عمّا نتدبّر به أحوالنا ومقاوماتنا../ ماجد كيالي
أسئلة العمل الفلسطيني، ومنها سؤال المقاومة، تحتاج إلى أجوبة عديدة، محدّدة، ومتداخلة، وموضوعية، بمعنى أنها لا تحتاج فقط إلى مجرد عواطف وشعارات وتمنيات، حتى لو استندت في كل ذلك إلى مشروعيات التاريخ والحقيقة والعدالة.
 
اللافت أن الطبقة المهيمنة على السياسة الفلسطينية، منذ عقود من الزمن، لم تتوقّف عند تلك الأسئلة إلى الدرجة اللازمة، بل إنها اشتغلت (عن قصد أو من دونه) على طمسها، أو عدم المبالاة بها، بدواعي الانشغال بالمخاطر المحدقة بها وبقضيتها، شأنها في ذلك شأن الأنظمة الرسمية، التي أسكتت مطالب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم، بدعوى الانشغال بالصراع العربي ـ الإسرائيلي.
 
بالمحصلة فقد شهدنا أن الأنظمة السائدة، التي لم تستطع الإجابة على سؤال التحديات التي يفرضها وجود إسرائيل في هذه المنطقة، لم تستطع، بالمثل، أن تؤمّن لمجتمعاتها الحدّ الأدنى من إمكانيات العيش الحر والكريم، ولا تعضيد الانتماءات الوطنية، على حساب الانتماءات القبلية والمذهبية والاثنية، مثلما لم تستطع إقامة الدولة المنشودة (دولة القانون والمؤسسات والمواطنين).
 
أيضا، فإن حال الفلسطينيين لم تكن أحسن، فالقيادة الفلسطينية، التي أسكتت الأسئلة المتعلقة ببناء المجال العام، والتي قوّضت المضمون الديمقراطي لمشروع التحرر الوطني، والتي استهانت بأهمية تعزيز الفكر النقدي في الثقافة السياسية، أخفقت، هي أيضا، في كل المشاريع التي أخذتها على عاتقها، من الثورة المسلحة إلى التسوية السياسية، في الانتفاضة والمفاوضة، في بناء المنظمة كما في بناء السلطة.
 
وفي الواقع فإن هذه القيادة لم تشجّع على النقد، وهي لم تقم، ولا مرة، بمراجعة أو بدراسة تجاربها في المقاومة، بشكل نقدي، لا في الخارج ولا في الداخل، لا بما يتعلق بالانتفاضات الشعبية ولا بالعمليات الفدائية أو التفجيرية أو عمليات القصف الصاروخي، كما لم تستنبط الدروس المناسبة من كل هذه الأشكال، كما لم تجر أية مراجعة لبنيتها العسكرية، أو الميليشياوية، ولا لانعكاسات ذلك على بنيتها السياسية وعلى علاقاتها بشعبها. وليس ثمة دراسات أو مراجعات تتحدث عن جدوى هذه التجارب، سواء بالنسبة لانعكاساتها على العدو (إسرائيل) أو على المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج، كما بشأن علاقة الحركة الوطنية الفلسطينية بمحيطها العربي.
 
القصد من ذلك التأكيد أن العمل العام، أو العمل الوطني، وضمنه المقاومة المسلحة بشكل خاص، ليس مجرد عمل مزاجي، أو عفوي، وهو ليس للمزايدة ولا للمنافسة، وإنما هو عمل جدي، ينبغي أن ينطوي على قدر كبير من المسؤولية، والحكمة والتدبّر، لأن نتائجه، أو تبعاته، تطال المجتمع بأكمله.
 
واضح أن ثمة نوعاً من الانفصام في طريقة تفكيرنا وسلوكياتنا، بما يتعلق بكيفية تعاطينا مع شأننا الخاص وطريقة تدبّرنا لأحوالنا الشخصية، من جهة، وبين كيفية تعاطينا مع الشأن العام (الوطني) وطريقة تدبرنا لأحواله، من الجهة الأخرى. وبينما نبدو في أحوالنا الشخصية جد واقعيين، وعمليين، ومتبصّرين، ومدبّرين، نبدو في الشأن العام غير مبالين تماما، أو مجرد رغبويين وشعاراتيين.
 
هكذا، فإننا في أحوالنا الشخصية نبحث لنا ولأطفالنا عن تعليم وطعام وملبس وحياة أفضل ما أمكن. وفي هذه الحياة، مثلا، لا يمكن أن نقطن في منزل بلا مياه أو كهرباء أو أسقف وحيطان، وبديهي فإننا لانقبل أن نقطن، أيضا، في منزل تداعت أساساته وحيطانه. ثم إننا في أحوالنا الشخصية نرفض أن نتنقل بواسطة سيارة من دون فرامل، أو في سيارة متصدعة، أو مع سائق مخمور، أو لا يجيد السياقة، بالنظر لمخاطر كل ذلك علينا.
 
لكن، ومع شديد الأسف، فإن هذه الطريقة المنهجية في الرؤية والسلوك، على صعيد إدارة أحوالنا الشخصية، لاتشمل طريقة تعاطينا مع الشأن العام، الذي يمسّنا كأفراد، ويمس مجتمعاتنا وبلداننا، وحاضرنا ومستقبلنا، لأسباب متعددة ومعقدة (ليس مجالها الآن)، لعل أهمها أن السلطات المتحكمة بنا منذ نصف قرن لم تقم على بناء المجال العام /الوطني (المجتمعي والدولتي).
 
الآن، وفي محاولة لتطبيق هذه المنهجية على العمل السياسي، ولنأخذ العمل الفلسطيني نموذجا، فسنجد أن أساسات البيت باتت جد متصدعة، فليس ثمة مؤسسات شرعية، ولا شعارات جامعة، وحتى أن الفصائل التي تحملت مسؤولية النهوض الوطني، باتت جد مستهلكة، وفاقدة لأهليتها وحيويتها، وهي باتت تفتقر لمكانتها التمثيلية، ومع ذلك ما زالت تعمل وكأن الأحوال على مايرام!
 
أما المقاومة المسلحة، وهي موضوعنا هنا، فعلى الرغم من تضاؤل القدرة على انتهاجها، من الداخل والخارج، في الضفة وفي غزة، عند فتح وعند حماس، فثمة من ما يزال بين الفصائل من يتحدث عن الإصرار على التمسك بها، كشكل وحيد للنضال لاستعادة الحقوق، وكأن التمسك النظري بهذا الشكل، يحجب أو يبرّر عدم القدرة على ممارسته.
 
الأنكى من ذلك أن ادعاء التمسك بالمقاومة المسلحة، ورفعها إلى مرتبة القداسة، ووضعها فوق الأسئلة، مع العجز عن ممارستها، خلق ارتدادات سلبية وخطيرة في المجتمع الفلسطيني. فقد أدى ذلك، أولاً، إلى الاستهتار بالمقاومة الشعبية، وإخراج الشعب من معادلات مقاومة المحتل.
 
وثانيا، فقد أدى ذلك إلى تفشّى نزعة العنف عند الفلسطينيين، ما أدى إلى تنفيسها في التقاتل بينهم، على مجرد سلطة تحت الاحتلال. وثالثا، فقد أدى ذلك إلى خلق ظواهر مرضية مدمرة، على شاكلة بعض الاتجاهات المتطرفة، التي استهدفت بغبائها وحماقتها جوليانو (الفلسطيني ـ الإسرائيلي في الضفة) وفيتوريو (الناشط الايطالي في غزة)، ما يؤكد أن العنف الأعمى، والمنفلش، لا يميّز بين صديق وعدو؛ مثلما لايميز بين هدف مشروع من غير ذلك.
 
رابعا، وعدا عن كل ذلك فإن الساحة الفلسطينية معنية بطرح الأسئلة الضرورية حول المقاومة المسلحة، أسئلة الجدوى والانعكاسات، أسئلة المكان والزمان، والبيئة الملائمة، والقدرة على التثمير السياسي، أسئلة العدالة والمشروعية (السياسية والقانونية والأخلاقية)، فالقضايا العادلة بحاجة إلى وسائل عادلة لتحقيقها.
 
على ذلك ثمة شرعية لإخضاع تجربة المقاومة المسلحة، وبالأحرى التجربة العسكرية الفلسطينية، لأسئلة المراجعة والنقد، بما لا يقل عن شرعية الأسئلة التي تطرح حول جدوى انتهاج التسوية والمفاوضات، وإقامة السلطة في الضفة والقطاع، وبما لايقل عن شرعية الأسئلة التي تطرح، أيضا، حول تفشي علاقات الفساد والمحسوبية والتخلف في إدارة أوضاع البني الفلسطينية السائدة.
 
باختصار، ينبغي أن نخضع كل القضايا، في تجاربنا السياسية، للنقاش، وللرأي الآخر والمختلف..آن الأوان لنتفكر قليلا بأحوالنا العامة، رفقا بأنفسنا وبشعبنا ومستقبلنا.

التعليقات