01/05/2011 - 13:36

الثورات العربية وملامح الفكر السياسي العربي الجديد../ د. محمد عادل شريح

تثير الثورات الشعبية التي قامت في كل من تونس ومصر والقائمة اليوم في كل من ليبيا واليمن، سؤالاً مهماً ومصيرياً حول مستقبل العرب السياسي كأمة، ذلك أنّ هذه الثورات وعبر شعارها المركزي والمباشر المُطالب بإسقاط النظم الديكتاتورية، تثير مجموعة من الأسئلة الاستراتيجية التي سينجلي عنها المشهد بعد سقوط النظم مباشرة، فالسؤال التالي للسقوط سيتمحور حول طبيعة النظام الجديد المنشود، وعند محاولة الإجابة عن هذا السؤال سنجد أنه يتفرع إلى مجموعة من الأسئلة الاستراتيجية الهامة

الثورات العربية وملامح الفكر السياسي العربي الجديد../ د. محمد عادل شريح
تثير الثورات الشعبية التي قامت في كل من تونس ومصر والقائمة اليوم في كل من ليبيا واليمن، سؤالاً مهماً ومصيرياً حول مستقبل العرب السياسي كأمة، ذلك أنّ هذه الثورات وعبر شعارها المركزي والمباشر المُطالب بإسقاط النظم الديكتاتورية، تثير مجموعة من الأسئلة الاستراتيجية التي سينجلي عنها المشهد بعد سقوط النظم مباشرة، فالسؤال التالي للسقوط سيتمحور حول طبيعة النظام الجديد المنشود، وعند محاولة الإجابة عن هذا السؤال سنجد أنه يتفرع إلى مجموعة من الأسئلة الاستراتيجية الهامة.
 
الإجابة التي تطرح اليوم عن هذا السؤال هي أن البديل يتمثل في انتخابات حرّة ونزيهة وديمقراطية تتيح للشعب حرّية اختيار حكّامه، وهذا صحيح إلى حدّ كبير، لكن هل ينهي هذا الأمر كلّ المشاكل والتحدّيات التي تواجه الشعوب العربية في هذه المرحلة من تاريخها؟
 
الجواب هو لا، فهذا التغيير الهام الذي يقدّم حلاً للمشكلة الأساسية المباشرة في حياة الشعوب العربية التي تحكم عبر ديكتاتوريات مستبدّة وبقوانين الطوارئ، سيفتح المجال أمام أسئلة أخرى، فإذا ما أُتيحت لنا الفرصة لنقول بحرّية ما نريد، فما هو الذي نريده كأمّة؟ وما هو النظام السياسي القادر على تحقيق تطلعات الأمّة السّياسية والحضارية؟ وكيف سنقدّم أنفسنا للعالم؟
 
 بعد أن ترحّب الدول الكبرى بثورة الشعوب من أجل الحرية والديمقراطية هل سترحّب بمطالبة الشعوب بالكفّ عن نهب ثرواتها والتحكم في مصيرها؟ وهل سترحّب بمطالبة الشعوب العربية بمكانها بين الأمم ودورها في تقرير شؤون السياسة الإقليمية والدولية؟
 
كيف يمكن للعرب أن يؤسّسوا لنظام سياسي قادر على حماية المصالح العربية؟ وهل ستستمرّ تجربة الدولة القطرية الفاشلة للعودة إلى دورة جديدة في ذات الحلقة المفرغة؟
 
إنّ الشعوب العربية تنادي بالحرية والديمقراطية لأنها تريد أن يكون لها دور حقيقي في بناء حياتها ومواجهة المخاطر التي تحيق بوجودها، سواء كانت هذه المخاطر خارجية متمثلة في العدوانات المستمرة على شعوبنا، العسكرية منها والسياسية، أو المخاطر الداخلية المتمثلة في الفقر والفساد والعجز الاقتصادي والأزمات الاجتماعية. إنّ كل هذه القضايا، قضايا التحرّر والاستقلالية وصدّ العدوان والتنمية والبناء الحضاري تحتاج إلى أجوبة أكثر عمقاً وشمولية.
 
ربّما لا تزال أجواء الحماسة والانفعال تشدّنا اليوم إلى المَشاهد المتحرّكة في ساحة التحرير التي أسقطت نظام حسني مبارك، ومثيلاتها الممكنة في الساحات العربية، لكن ذلك لا يلغي حقيقة غياب الرؤى النظرية المكتملة للمستقبل العربي، المتمثلة في غياب ما اصطُلح على تسميته "المشروع السياسي العربي" المشروع القادر على تأمين الشروط لبناء حياة كريمة تتوفّر فيها مقوّمات حقوق الفرد وكرامة الأمّة.
 
لقد فشلت النّخب العربية في بلورة هذا المشروع نتيجة انغماسها على مدار ما يزيد على قرن كامل في صراعات أيديولوجية، هذه الصّراعات التي من طبيعتها أنها تنشأ من الواقع الذي يتجاوزها لتبقى أسيرة عقول متكلسة متمترسة حول مقولات ورؤى نظرية مقيّدة لحركة الفكر ذاته ومن بعد ذلك حركة المجتمع. إذْ من ميزات العصر العربي الجديد هزيمة الأيديولوجيا بعد أن علا صوت الحياة وصوت الجماهير الفاعلة.
 
مأزق الأيديولوجيا في الفكر السياسي العربي الحديث
 
لقد نشأ الفكر العربي الحديث عموماً في قلب الدولة العثمانية في أواخر عهدها بحثاً عن آفاق جديدة تعيد للدولة شبابها وللمجتمع حيويته وفاعليته، وفي هذه الأجواء تبلورت أنوية التيارات الفكرية الأساسية، القومية منها والعلمانية اليسارية وكذلك الإسلامية، لكن هذه التيارات التي استمرّت في التصارع على مدار قرن مَضى لم تلاحظ أنّ الدولة التي كان يُراد إصلاحها قد ذهبت، وأنّ واقع ما بعد التحرر من الاستعمارالمباشر لا يرتقي إلى مستوى الدولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن هذه التيارات الفكرية بقيت مشدودة إلى صراعها الأيديولوجي وأهملت قضية الدولة، أو لِنَقُل أهملت أولوية الدولة باعتبارها معبّراً عن إرادة الأمة، فبعد أن فشلَ القوميون في بناء دولتهم القومية، وفشلَ الماركسيون في بناء دولة العمّال والفلاّحين وفشل َالإسلاميون في بناء الخلافة الإسلامية، يبدو وكأن الجميع استكان ورضي بفكرة الدولة القطرية واقعا لا يمكن تجاوزه.
 
إنّ الرّؤى الأيديولوجية هي التي كرّست مجموعة من الإشكاليات المستعصية والأغاليط المنهجية التي تمثلت في مجموعة من الثنائيات الزائفة في الوعي العربي المعاصر، كثنائية العروبة والإسلام، والرجعية والتقدّمية، والنهضة والانحطاط، والمجتمع الديني والمجتمع المدني، وما ينبثق عن هذه الثّنائيات المزيّفة من قضايا وتفرّعات أكثر زيفاً وبعداً عن الواقع. إنّ الأداء الجماهيري للناس في معظم الساحات العربية كان قادراً على تجاوز محدّدات الأيديولوجيا العربية، فالناس عبّروا عن أنفسهم كمسلمين بعيداً عن تناقضات الإسلاميين، كانوا مسلمين ولم يكونوا سلفيين أو إخوانا مسلمين أو غير ذلك، وكانوا عروبيين من دون أيديولوجيا قومية، وكانوا مدنيين من دون أن يكونوا ليبراليين وعلمانيين، والأهم من كلّ ذلك أنهم كانوا كلّ هذا وفي الوقت نفسه.
 
إنّ الشروع اليوم في بناء مشروع عربي يتطلّب قبل كلّ شيء تحوّلاً في تفكير النّخب العربية المعنية بصناعة التغيير وتصوراتها ورؤاها، وعنوان هذا التحوّل الأساسي هو الخروج من إطار المشاريع الأيديولوجية إلى المشاريع الجيوسياسية.
 
إنّ " الجيوسياسية" أو "الجيوبوليتيكا" مفهوم واسع وله مقدّماته النظرية ومَقولاته المختلفة التي لا تعنينا كثيراً الآن، إنّ ما يعنينا في هذا المنظور هو قضيّتان تمثّلان برأينا أساسا للمنهجية الجديدة في التفكير السياسي التي ندعو إليها، أوّلاً : في التفكير الجيوبوليتيكي يتم الكفّ عن محاولات تغيير بنية المجتمع وهويّته الحضارية ودراسة هذه البنية والهويّة كمعطى تاريخي حضاري منجز وغير قابل للتحويل في المدى السياسي المنظور.
 
ثانياً: في نمط التفكير الجيوبوليتيكي تتقدم قضية الدولة بحدّ ذاتها لتحتلّ الأولوية على حساب قضية نظام الحكم. فنظام الحكم وكلّ المحدّدات الاجتماعية والاقتصادية هي رهن التفاعل الاجتماعي في مناخ من الحرية داخل إطار الدولة.
 
وإنّ قضية الدولة هي في صلب الرؤية الجيوسياسية، لكن قبل ذلك ماذا نقصد بالمشاريع الإيديولوجية ليتضح لنا المقصود بالمشاريع الجيوسياسية؟
 
لقد عاشت المنطقة العربية على مدار القرن العشرين تجاربَ عديدة ومتنوّعة تصارعت وتجاذبت السياسة والاجتماع والعمل الثوري والانقلابات، وهذه التيارات في العموم لم تخرج عن إطار المشاريع الثلاثة المعروفة: المشروع الإسلامي الحركي، والمشروع القومي العربي والمشروع العلماني بتحوّلاته اليسارية والليبرالية وتقاطعاته مع المشاريع الأخرى.
 
بالنسبة إلى التيارات القومية والعلمانية على اختلاف مشاربها فقد كانت مشاريع إيديولوجية بامتياز، لأنها في جوهرها كانت مشاريع شمولية تستهدف إجراء تحوّلات حضارية، أي تغيرات تلامس الرؤية الوجودية ورؤية الشعوب العربية للعالم والمجتمع والاقتصاد والسياسة على المستوى القيمي، لذلك فقد فكانت في مجملها مشاريع انقلابية شمولية تهدف إلى بناء مجتمع ونموذج حضاري جديديْن على أساس الانقطاع عن سياق الأمّة التاريخي والحضاري، وهذا ما لم يتحقّق لأنّ الخروج عن هذا السياق يبدو في الواقع وكأنه خروج على الأمة. فعلى القوى القومية اليوم أن تبتعد عن الإرث السلبي للموروث الأيديولوجي القومي، وأن تؤسِّس لوعي قومي قابل للتناغم مع هويّة الأمة الحضارية وقادر على بلورة مشروع سياسي يحقّق تطلعات الأمة.
 
إنّ بناء مشروع جيوسياسي عربي يتطلب قبل كلّ شيء الكفّ عن محاولات تغيير بنية المجتمع وهويته الحضارية ودراسة هذه البنية والهوية كمعطى تاريخي حضاري منجز غير قابل للتحويل أو التبديل في المدى السياسي المنظور، وبالتالي بدء دراسة جدية لمكونات هذه الهوية كمعطى ثابت والاستفادة إلى أكبر قدر ممكن ممّا تتيحه هذه المكوّنات في بناء رؤية واقعية معاصرة للحياة العربية.
 
إنّ ذلك يتطلب دراسة وتحديد مكوّنات المشروع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تناغمها وتعاضدها مع مكوّنات الهويّة أوّلا ومعطيات الجغرافيا ثانياً وضرورات المرحلة التاريخية ثالثاً من أجل مزجها معاً لتقديم مشروع سياسي عربي يخرج بالأمة نحو مستقبلها المنشود.
 
إن العنوان المركزي والرئيس لهذا المشروع هو الدولة، ونعني هنا بالدولة "الدولة القادرة" على تحقيق مصالح المجموعة البشرية المنضوية في إطارها، وهذا هو شرطها الأوّل والأساس، ثم يأتي لاحقاً شكل المجتمع والدولة ومواصفاتهما ونموذجهما ليكون رهن الحراك السياسي والاجتماعي الحرّ في إطار الدولة القادرة، وهذا هو شرطها الثاني.
 
واقع الإسلام السياسي وآفاقه
 
لقد فشلت العقلية الأيديولوجية، بما فيها الإسلامية، في تغيير الواقع العربي، وعلى الرغم من تراجع الأيديولوجيا القومية التقليدية والعلمانية، والانتشار الأفقي للتيار الإسلامي الذي ينمو في ظل واقع الاشتباك المباشر والميداني، فإن هذا التيار لم يتقدم على مستوى إنتاج الرّؤى والتصورات والمشاريع السياسية. إنّ استمرارالحركات الإسلامية وفاعليتها وبروزها - وهي مرشّحة أكثر من غيرها لذلك- مرتبط أشدّ الارتباط بحقيقة أن المجتمع العربي هو مجتمع مسلم، يتفاعل مع الإسلام والخطاب الإسلامي، لكن هذا التفاعل والفاعلية والقدرة على الفوز في الانتخابات الديمقراطية ليست غطاء ولا مبرراً لفقدان هذا التيار الإسلامي لرؤيته الجيوسياسية وبالتالي عدم القدرة على تحقيق هذه الرؤية في الواقع.
 
إنّ قدرة هذا التيار على لعب دور مباشر وعملي في صنع مستقبل المنطقة مرهونة بقدرته على تقديم هذه التصورات السياسية لمستقبل المنطقة ومرهونة بقدرته على فكّ الترابط المتكلّف بينه وبين الدّين، فالإسلام هو دين المجتمع وهو شأن العلماء والفقهاء ومن ثَمَّ أفراد المسلمين، أمّا شأن الأحزاب فهو السياسة.
 
 إننا نتفهم الظروف التاريخية التي أدّت إلى هذه الظاهرة -الإسلام السياسي - ونقدّر عالياً الدور الذي قامت به الحركات والأحزاب الإسلامية في الحفاظ على هويّة الأمة، كما نقدّر التضحيات الجسام التي قدّمتها، لكن فهمنا للمبرّرات التاريخية لهذه الظاهرة لا يبرّر استمرار عملها بالعقلية ذاتها ومستوى الأداء السياسي نفسه.
 
على القوى الإسلامية السياسية أن تحسم خياراتها بين كونها جماعة دينية أو حزباً سياسياً فالجماعة الدينية هي المجتمع المسلم ولا يمكن لفئة قليلة مهْما عظمت أن تستبدل نفسها بهذه الجماعة، خاصّة وأنّ ظاهرة العداء للدين قد تراجعت ولم يعد حتى ممثّلو التيارات الأيديولوجية الأخرى يجادلون في هوية المجتمع العربي، إنّما يكتفون بطرح بعض الإشكاليات الحقوقية والمدنية والاجتماعية المترتّبة على ذلك في الظروف المعاصرة وعلى ممثلي التيار الإسلامي أن يقدّموا الأجوبة عن هذه الإشكاليات.
 
لماذا الدولة؟
 
بالعودة إلى قضية الدولة والتي هي برأينا أساس المشروع الجيوبوليتيكي المرتقب، فإن الواقع العربي المعاصر وفي نظرة تحليلية معمّقة يشير إلى غياب هذه الدولة، هذا الغياب الذي بدأ منذ انهيار الدولة العثمانية ويستمرّ حتى يومنا هذا.
 
ولتوضيح هذه النقطة لا بد من التمييز بين مفهوم الدولة كمعبّر عن إرادة الأمة، ولا نعني هنا بإرادة الأمة، إرادة حزب أو جماعة، ولا حتى مجموع إرادة الأفراد بالمعنى الليبرالي إنّما قد تكون الإرادة الجمعية بالمعنى الذي تحدّث عنه هيغل. هذا المعنى يختلف عن واقع الحكومات العربية، فما هو موجود في الواقع العربي حقيقةً، هو حكومات تقوم بهذه النسبة أو تلك من الكفاءة أو نقصها في تسيير شؤون مجموعات بشرية وتحقيق مصالح شرائح وطبقات اجتماعية وقوى صاعدة عائلية أو عشائرية أو اجتماعية أو غيرها، هذا هو واقع الدولة القطرية اليوم في كلّ البلدان العربية.
 
إنّ واقع الدولة القطرية العربية هو تمثيل حيّ لمفهوم "الدولة الرخوة "الذي قدّمه في ستّينات القرن الماضي الاقتصادي وعالم الاجتماع السويدي جينار ميردال، وقام الباحث المصري جلال أمين في كتابه الأخير «مصر والمصريون في عهد مبارك» (دار ميريت، القاهرة، 2009) بمطابقته على واقع مصر في مرحلة حكم مبارك، فالدولة الرخوة هي التي تصدر القوانين ولا تطبقها، الكبار فيها تحميهم أموالهم والسلطة التي تغطي على ممارساتهم غير القانونية، ويعمّ الفساد وتنتشر الرشاوى بين الصّغار والكبار على السواء ويتحوّل الفساد إلى نمط حياة، إنّ هذه الدولة الرخوة إنما تقوم على الربط بين التّخاذل في الاقتصاد والتّخاذل في السياسة، وبين التراخي في السياسة الخارجيّة والتراخي في السياسة الداخلية.
 
 المطلوب اليوم هو الانتقال بالواقع العربي من مأزق "الدولة الرّخوة " إلى آفاق "الدولة القادرة". إنّ حجم المهام التاريخية وحجم التحدّيات التي تواجه العرب بوصفهم مجموعة بشرية اليوم لا يمكن أن تقوم بحملة الدولة القطرية كما عهدناها، لأنّ هذه الدولة القطرية الضعيفة ستعود في كلّ الأحوال للوقوع في مجال الجذب المغناطيسي لقوى أكبر منها وبالتالي ستفقد استقلاليتها وتفقد قرارها وستدخل في تناقض مع تطلّعات الشعوب ولن يكون أمامها من خيار إلاّ اللّجوء إلى القبضة الأمنية لحماية نفسها وبالتالي للعودة إلى الفساد المنظّم الذي سيعيد إنتاج نموذج "الدولة الرخوة" أو "الدولة الفاشلة" مرّةً أخرى.
 
بعيداً عن التعريفات الكلاسيكية للدولة التي تتحدّث عن مكوّنات أساسية هي الأرض والشّعب والسيادة، تبقى الدولة بالمعنى الجيوسياسي، ضمن معانٍ عديدة، حاملاً لثقافة الأمة ومعبّراً عن إرادتها، فهناك علاقة وطيدة بين ثقافة الأمّة وطبيعة الدولة التي تمثلها وضّحها مؤسّس الجيوبوليتيكا، فريدرك راتزل ( 184-1904) في كتابه "حول قوانين تطوّر الدولة " (1901)، حيث يحدّد القانون الأوّل من قوانين الدولة السبعة بالقانون التالي: ( امتداد الدول يتّسع وفقاً لتطور ثقافتها ). إنّ تطلعات الشعب العربي وعمق موروثه الثقافي، وحقيقة التوتر الحضاري الذي تعيشه الأمّة وإصرارها على رسالتها الحضارية تستدعي بالضرورة قيام الدولة القادرة على فتح الآفاق لهذه الأمة في صنع حاضرها ومستقبلها والمساهمة في المسيرة الحضارية للبشرية عبر التفاعل الحرّ والمبدع مع الواقع المعاصر والمخزون الحضاري والقيمي لهذه المجموعة البشرية الكبرى.
 
الدولة العربية من دون الأيديولوجيا القومية
 
إنّ النظرة السريعة إلى العالم الذي يحيط بنا تشير إلى توجّه العالم إلى بناء كتل سياسية واقتصادية كبيرة لضمان حضورها في المسرح الدولي، وإنّ النظرة إلى الإقليم الذي نعيش فيه تشير إلى تبلور قوى جيوسياسية على أساس من الوحدة القومية، ونعني هنا بالدرجة الأولى إيران وتركيا، وبالتالي ما هو المانع من قيام كيان عربي ودولة عربية بالمعنى الجيوسياسي بعيداً عن الأيديولوجية القومية وحالة التصارع المفتعل بين العروبة والإسلام، فالدّولة في الامتداد العربي أو في بعض أقاليمه لن تكون إلاّ دولة للمسلمين طالما أنّ الغالبية العظمى من مواطنيها مسلمون وبالتالي فإنّ مؤسّسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية ستأخذ بعين الاعتبار هذه القضية المركزية والمحورية في حياة الشعوب العربية وتُراعيها،وهذا بدوره سيعزّز حالة الانسجام والقبول بين الشعب العربي وحكّامه.
 
ليس المطلوب ولا من المحتّم أن تقوم دولة عربية واحدة على كلّ الامتداد العربي الآن في ظل التعقيدات الدولية والإقليمية، لكن لا شيءَ يمنع من قيام تكتّلات سياسية واقتصادية على أسس حضارية معاصرة في إطار دولة أو مجموعة دول، في أقاليم جغرافية مشرقية أو مغربية تؤُسّس لقيام كتل جيوسياسية فاعلة وقادرة على الوقوف جنبًا إلى جنب مع الدول المحيطة التي يزداد نفوذها في الإقليم وتقف حائرة تجاه العجز العربي بين أن تتبنّى هذا الامتداد العربي القاصر أو تبتلعه.

التعليقات