09/05/2011 - 21:18

بين تشويه الهويّة وإعادة تشكيلها../ د. روضة عطا الله*

كتب المفكّر كارل ماركس أنّ "التاريخ لا يتحكّم بنا، هو من صنع يدينا"، وتأسيسا على هذا، أومنُ بأنّ المستقبل هو أيضًا من صنع أيدينا، وعلينا أنّ نتحكّم به، وجزء ممّا سيصنع مستقبلنا هو قدرتنا على كتابة تاريخنا وتعريف أجيالنا القادمة به

بين تشويه الهويّة وإعادة تشكيلها../ د. روضة عطا الله*
منذ استلامي إدارة جمعيّة الثّقافة العربيّة، رأيت من واجبي أن أحاول دراسة المناهج والمعارف ومحاولة إصلاح ما أمكن منها ضمن الظروف القائمة، ولطالما استوقفني الماضي لأستحضر بعض الذكريات حول ما درسناه في مدارسنا في الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، التي تبعث في نفسي الألم والغضب والأسئلة، لماذا كرهت دروس التاريخ والجغرافيا؟ لماذا أحببت اللّغة الإنجليزيّة أكثر من لغة أمّتي وقومي؟ لماذا سمحنا لوزارة المعارف والمسؤولين ومصمّمي برامج التدريس والمناهج أن يعبثوا بنا وبتاريخنا ووعينا، وإقناعنا بسلبيّات وقبح ودونيّة ثقافتنا ولغتنا وبجمال ورقيّ الثقافة الأجنبيّة؟
 
إنّ بناء المناهج المدرسيّة هو جزء أساسيّ وحجر زاوية في مكوّنات الشخصيّة، ومن هنا يأتي اهتمام الدول المتحضّرة، التي تسعى لبناء إنسانٍ مثقّف ومنتجٍ وواعٍ لذاته وهويّته وتاريخه ودوره الاجتماعيّ، في مناهج التعليم وفي تطوير أساليبه، ومن هنا أيضًا يأتي اهتمام دولة إسرائيل بالمناهج المدرسيّة للعرب لكن من الجهة النقيضة، كونها تريد تشويه شخصيّة الإنسان الفلسطينيّ وبناء شخصيّة أخرى.
 
حاولت دولة إسرائيل تكوين وعي "عربيّ إسرائيليّ" بين البقيّة الباقية من الشعب الفلسطيني التي تسنّى لها البقاء في البلاد في حدود الهدنة (1949)، وذلك بغية السيطرة عليهم سياسـيًّا وثقافـيًّا، وتهميش دورهم في جميع مناحي الحياة العامّة في الدولة، ممّا استدعى، أيضًا، تذويب هويّتهم الجماعيّة بجميع أشكالها ومحاورها. وقد اعتمدت إسرائيل منذ نشأتها على مناهج التربية والتعليم كإحدى أهم الأدوات لتحقيق هذا الهدف.
 
لن نتطرّق في هذه العجالة إلى موضوعات المناهج وأنواعها وتطورها وأثرها وأهدافها، لأننا سنصدر بحثًا معمّقًا حول هذه الموضوع خلال الفترة القريبة، والذي سيشمل مقدّمة نظريّة وتحليلاً لنتائج تقرير مشروع "المناهج والهويّة"، وسنركّز في هذه المقالة على قضيّة تشويه الهويّة من خلال مناهج التدريس الإسرائيليّة المخصّصة للطلاب العرب الفلسطينيّين في الداخل، كجزء عضويّ من أزمة التعليم العربيّ في إسرائيل.      
 
أسباب أزمة التعليم في المجتمع الفلسطينيّ في الداخل
 
ما من شكّ في أنّ المجتمع الفلسطينيّ في الداخل يعاني منذ زمن طويل من أزمة جهاز التربية والتعليم. تعود مصادر هذه الأزمة لأسباب عدّة خارجيّة وداخليّة، أهمّها؛
1 - خضوع هذا الجهاز لسلطة وزارة التربية والتعليم الإسرائيليّة تنظيميًّا، والمعرفة المتضمّنة هي نتاج سياسات ومناهج المؤسّسة الرسميّة بجميع أذرعها المختلفة؛
2 - سياسة التعيينات المتّبعة في هذه الوزارة، وتدخّل أجهزة المخابرات الإسرائيليّة والدوائر الحكومية الأخرى في وضع المناهج، وتعيّين طواقم التدريس من معلّمين/ات ومديرين/ مديرات، ومستشارين/ ات، وضبّاط سلوك والتدخّل السّافر في عملهم.
3 – عدم أهليّة متخذي القرار في دائرة المعارف العربيّة في وزارة التربية والتعليم الإسرائيليّة، واعتمادها على اعتبارات بعيدة عن أصول التربية والتعليم؛
4 – غياب قاعدة بيانات محوسبة وغير محوسبة بما يتعلّق بجهاز التعليم وطواقم التدريس والإدارة؛
5 – تآكل طاقم التدريس؛
6 – ضعف برامج التطوير المهنيّ، وغياب الاستمراريّة ما بين التأهيل والتطوير المهنيّين؛
7 – غياب رؤية شمولية لبيانات حول طواقم التدريس كمجموعة لا كأفراد. 
 
العوامل الداخليّة للأزمة
 
أما العوامل الداخليّة فتنقسم إلى أقسام عدّة، منها متّصل بظروف عمل طاقم التدريس، وأهليّته، وتآكله، والمحفّزات التعليميّة لأفراد هذا الطاقم، وشحّ الميزانيّات المخصّصة للمدارس العربيّة في البلاد. ومنها مرتبط بضعف نشاط  أولياء الأمور الطلبة في الشئون ذات الصلة بتربية وتعليم أولادهم. ومنها مرتبط بدور مؤسّسات المجتمع المدنيّ في تعزيز الوعي التربويّ بين الأولاد وطواقم التدريس والأهل. ومنها مرتبط بدور الطلاب في اتخاذ القرار التربويّ من حيث المضامين والمناهج وطُرق التربية والتعليم. ومنها مرتبط بغياب الرؤى التربويّة والتعليميّة التي من المستحبّ اعتمادها وتطويرها بما يتلاءم مع احتياجات وخصائص المجتمع الفلسطينيّ في الداخل. ومنها مرتبط بغياب نقاش جماهيريّ حول قضايا التربية والتعليم، وغياب التواصل ولغة الحوار بين الطالب والمعلّم والأهل والمؤسّسة.
 
 السيطرة والتبعيّة
 
هنالك غياب شديد لبيانات أساسيّة بكل ما يتصل بالتربية والتعليم في المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل، وهي نتيجة مباشرة لعدّة أسباب أهمّـها: تراث من التكتّم تعتمده وزارة التربية والتعليم في إسرائيل منذ قيامها وحتّى اليوم، علمًا بأنّ هنالك جملة من القوانين والأنظمة الجديدة التي تفرض على الوزارة تقديم أيّة معلومات يطلبها أيّ مواطن دون استثناء. ولكن من الواضح أنّ تراث وثقافة التكتّم أشد وطأة من هذه القوانين والأنظمة، وما زالت العديد من الدوائر الحكوميّة وغير الحكوميّة عاملة بهذه الثقافة والتراث. أما السبب الثاني فيكمن في التبعية الخانقة للقائمين على المعارف والمدارس العربيّة في البلاد "لأولي الأمر" في أجهزة المخابرات المختلفة ووزارة التربية والتعليم الإسرائيليّة.
 
كذلك، يعاني المجتمع الفلسطينيّ في البلاد من تبعيّة المؤسّسة التربوية والتعليمية، وحتّى الأهليّة منها، لدوائر حكوميّة إسرائيليّة مختلفة لا علاقة لها بمجال التربية والتعليم وإنما بمجالات الرقابة والسيطرة والتحكّم بالسكّان الفلسطينيّين مواطني دولة إسرائيل، لضمان تربيتهم وتنشئتهم بما ينسجم مع التطلّعات والأهداف السياسية الإسرائيليّة.
 
من نافل القول التذكير بأنّ هنالك اختلافا كبيرا جدًّا بين الواقع التربويّ والتعليميّ في المدارس العربيّة والعبريّة في البلاد؛ على صعيد المناهج وأهدافها ومضامينها، وطرق التعليم، والتمييز الصارخ من حيث الميزانيات والمؤهّلات والتعيينات، وتدخّل دوائر حكوميّة مخابراتية وشبه مخابراتيّة في مضامين التعليم وجهاز التربية والتعليم.
 
حدود المعرفة-حدود الهويّة
 
الهويّة وعي، والوعي معرفة، لذا فتشكيل معرفة الإنسان وتغذيتها بالمضامين الموجّهة هي تشكيل لهويّته، وفي هذا السياق تختار إسرائيل ما على الإنسان الفلسطينيّ أن يعرف وما عليه أن لا يعرف عن نفسه، وأهمّ ما لا تريده أن يعرفه عن نفسه هو أنّه فلسطينيّ.
 
يكتشف كلّ من يحلّل مضامين كتب التدريس المقرّة من وزارة المعارف الإسرائيليّة، والمنبثقة عن المناهج وأهدافها، أنّها تعمل على التنكّر التامّ للماضي الفلسطينيّ ولوجود الشعب الفلسطينيّ وقضيّته وثقافته وجغرافيّته، كلمة فلسطين غائبة تمامًا، أمّا الرواية التاريخيّة والسياسيّة الصهيونيّة المبنيّة على التاريخ التوراتيّ القديم واليهوديّ الحديث فحاضرة على الأسطر وبينها، هذه الإستراتيجيّة "التربويّة" تنعكس في مضامين كتب كلّ المواضيع التدريسيّة؛ في اللّغة العربيّة والتاريخ والموطن والجغرافيا واللّغتيْن العبريّة والإنجليزيّة.
 
هناك بالطبع أهداف "تربويّة" أخرى للمناهج، تنعكس هي الأخرى بشكل مباشر أو خفيّ في كتب التدريس، كما تظهر تقارير مشروع "المناهج والهويّة"، مثل تثبيت الدونيّة الحضاريّة والثقافيّة العربيّة (لا تعتبرها هذه الكتب حضارة!)، ونمذجة الحضارة الأمريكيّة، وتعزيز الولاء لدولة إسرائيل كدولة يهوديّة ديمقراطيّة، التركيز على القيم الاجتماعيّة مقابل إنكار القيم الوطنيّة الجماعيّة كالانتماء الوطنيّ والقوميّ والتركيز على الهويّات المحليّة والطائفيّة.
 
التحكّم في المستقبل
 
كتب المفكّر كارل ماركس أنّ "التاريخ لا يتحكّم بنا، هو من صنع يدينا"، وتأسيسا على هذا، أومنُ بأنّ المستقبل هو أيضًا من صنع أيدينا، وعلينا أنّ نتحكّم به، وجزء ممّا سيصنع مستقبلنا هو قدرتنا على كتابة تاريخنا وتعريف أجيالنا القادمة به.
 
إنّ مستقبلنا التربويّ وتخلّصنا من كلّ أسباب أزمة التعليم العربيّ منوط بقدرتنا كمجتمع على تحقيق استقلاليّة تربويّة ثقافيّة، هذا هدف وحقّ جماعيّ نحتاج إلى نضال سياسيّ مثابر وموحّد من أجل انتزاعه، ولا بدّ من رفع الوعي الجماهيريّ حول هذا المطلب الإستراتيجيّ، والتعاون بين كلّ الأطر السياسيّة والمدنيّة، واعتبار كلّ مشروع نقديّ تجاه الواقع القائم، مثل مشروع "المناهج والهويّة، خطوة على درب تحقيقه.

التعليقات