15/05/2011 - 10:49

إلى أين تسير تونس؟../ نائل بلعاوي*

كان يجدر بهذه الكلمات القليلة القادمة أن تواصل الاحتفاء بعرس الريادة التونسي الجميل. وأن تتابع الرقص على إيقاع موسيقاه... بفرح الحزين ونشوة المُنتظر. أن تعيد صياغة مفردات الشكر والعرفان، مرة تلو الأخرى، فما قدمناه لتونس، حتى اللحظة، لا يعادل فقرة واحدة من فقرات عرسها، ولا يطال بأي حال ما دفعته البلاد من ألم ومواجع في الطريق إليه

إلى أين تسير تونس؟../ نائل بلعاوي*
كان يجدر بهذه الكلمات القليلة القادمة أن تواصل الاحتفاء بعرس الريادة التونسي الجميل. وأن تتابع الرقص على إيقاع موسيقاه... بفرح الحزين ونشوة المُنتظر. أن تعيد صياغة مفردات الشكر والعرفان، مرة تلو الأخرى، فما قدمناه لتونس، حتى اللحظة، لا يعادل فقرة واحدة من فقرات عرسها، ولا يطال بأي حال ما دفعته البلاد من ألم ومواجع في الطريق إليه.
 
كان يمكن لهذه الكلمات أن تواصل الفرح، أن لا تكون كما أحسها الآن وأسوقها: قلقة.. مقلقة.. خائفة ومتوجسة، وكثيرة الأسئلة. فهناك، فعلاَ، ما يثير الخوف ويدعو للقلق، وهناك، بين هذا وذاك، ما يرفع من وقع السؤال المركزي: سؤال تونس، وما تسير إليه؟؟
 
إلى غدها المنشود تسير تونس. هذا هو الجواب الأوليً المفترض. إلى فتح باب جديد في قلعة الحرية الموصدة، تلك التي بقيت موصدة على امتداد العقود/ القرون الماضية، وها هي، بالعزيمة والصبر والرغبة في العيش الكريم، تفتح أبوابها تباعاَ، وتقول ادخلوا...... ولكن ؟؟
 
في تونس الآن من يغلق الأبواب العظيمة تلك، أو يحاول. من يعمل من خلف كواليس غامضة تماماَ على منع الدخول الحتمي للحاضر في غده ويسد منافذ الأفق. وهناك من يعمل علانية، من أمام الكواليس وليس من خلفها، وتحت شعارات مختلفة – وطنية الإيقاع – على تثبيت رؤيته هو لمظاهر الحاضر وصورة المستقبل، ولا يحقق في النهاية، مدركاَ أو غير مدرك، سوى النتيجة عينها: شد البلاد بعيداَ عن أبواب مستقبلها وأحلام أهلها، ليلتقي هنا، في خندق واحد مع الأيادي السوداء العاملة من وراء الكواليس، ويحقق أهدافها.
 
لا اعرف شخصياَ وسيلة ممكنة للتعريف بتلك الأيدي، أو تحديد أسماء أصحابها، فهناك الكثير من الأسماء، والعديد من العناوين، مع التأكيد هنا على أن واقع الحال هو الذي يفرض هذا النوع من القراءة للمشهد التونسي، وليس الرغبة بالبحث عن مؤامرات خفية وفتنٍ ممكنة، فما يقوله الشارع هناك هو الأساس، وما يفرضه المشهد من وقائع وأسئلة يقود، إذا قاد، إلى أول الخيط المؤدي الى تفكيك حمولته وتفسير خباياه.
تفاصيل المشهد:
 
1.. فرَ رأس النظام برأسه، في ذلك المساء الاستثنائي من يوم الرابع عشر من يناير 2011 ، ولم يفرَ النظام، بقيَ هناك ممثلاَ عبر حلفه التقليدي مع أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة ومن يمثلها في الواقع.
 
2..  فرً رأس النظام، ولم تفَر الأجهزة الأمنية المدجنة بعناية في بيت طاعة الزعيم ومن لف لفه، فهي هناك إلى الآن، وإلى الآن لا تزال تتغذى على ثقافة إلغاء الآخر: المواطن، وتحبسه في خانة – العدو المحتمل-، على الرغم من غياب بعض رموزها الكبيرة في الداخلية، أو تفكيك جزء من أضلاعها الكثيرة بعد الثورة، فقاعدة العمل لا تزال عينها، والمصالح كذلك.
 
3.. تلاشى حزب التجمع الدستوري: واجهة النظام وقلعته العتيدة، قانونيا فقط، عن ساحة العمل الوطني، ولم يغب فعلياَ. فالحزب الذي ضمً قرابة المليون من الأعضاء والموالين، وتغلغل في كل مناحي الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية، لا يمكن عزله أو تحييده بقرار مركزي من هنا أو هناك، فتلك النتيجة مرهونة أبداَ بتوفر مناخ ديموقراطي حقيقي، وتنافس طبيعي بين الأحزاب وليس عبر منطق الاجتثاث مجهول العواقب؟
لا يسمح المجال الآن للتوسع أكثر في موضوعة الاجتثاث هذه، لشدة أهميتها وحساسيتها أيضا، وحاجتها للبحث المعمق بالتالي، فما يهمنا الآن من الحكاية هو الجزء المتعلق بالرسالة التي تلقاها حزب المليون ذاك: - مخالب الاجتثاث تقترب من العنق- والنهاية قادمة بلا شك. وهي الرسالة التي وفرت للتجمع مزيدا من مبررات الدفاع عن النفس والمصالح والسعي الحثيث لاسترداد المكانة السابقة ولا حدود مزاياها، عبر إشاعة اشكال الفوضى، المعدة بعناية، في عموم مناطق البلاد.
 
4.. لعب الجيش التونسي دورا سريعا وحاسما في إقصاء رأس النظام، وإبعاد أشباح العنف المجاني وإراقة الدماء، محققاَ لنفسه، بذلك، مكانة فريدة في قلوب مواطنيه، وإجماعاَ قل نظيره من حوله.
 
استمر ذلك الاجماع لأسابيع قليلة تلت الثورة، لم نسمع أو نقرآ خلالها شيئاَ يعكر من صفاء صورة الجيش، أو يشكك مرة بنزاهته، ثم تبدل الحال، بضربة واحدة تبدل الحال، ودخل الجيش دائرة النار مواجهاَ لعديد الأسئلة والتهم :- دور نخبته، المزعوم، بتأمين خروج آمن لرأس النظام، والعمل، في آن، على استمرار النظام نفسه، تحت رايات جديدة وبأسماء بديلة، لا أكثر-؟ ثم :- اتهام الجيش بالتقصير المتعمد في حفظ الأمن العام، وإفساح المجال أمام عودة الأجهزة القمعية التقليدية لتواصل بطشها المعروف -؟ وأخيرا وليس آخراَ، يواجه الجيش الآن تهمة:- الإعداد الخفي لخطة انقلاب عسكري على السلطة، في حالة فوز حركة النهضة بها عبر الانتخابات القادمة-؟ هذا يعني، إن سلمًنا بصحة الاتهام، تحويل البلاد إلى غابة لحرب أهلية قذرة، لا يربحها أحد، ولا يدفع ثمنها الوحشي، سوى الشعب التونسي وحده؟؟
 
5.. ليس من الجديد القول إن الغرب من ناحية، والأنظمة العربية المستبدة، من ناحية ثانية، حاضرين أيضاَ في ثنايا المشهد التونسي، ولكل منهما أجنداته الخاصة هناك. فالغرب، مزدوج المعايير عادة، لا يستطيع تجاوز، أو تغيير، نظرته التاريخية للمنطقة العربية وحاجات شعوبها، فهي منطقة مصالح حيوية هامة، عنده، وعليها أن تتابع ذلك الدور المنوط بها، من خلال أنظمتها الشمولية لا غير. ليكون التغيير الهادر الآن، بالنسبة للغرب، مصدراَ للقلق وتهديد المصالح، وعليه بالتالي الدفاع عن وجوده هناك، وعن أنظمته الفاسدة.
 
أما الأنظمة العربية، تلك التي لم تصلها رياح التغيير بعد، فهي مشغولة تماماَ بالبحث عن مخارج ممكنة لأزمتها الوجودية الأخيرة هذه، بالتخريب مرة، وافتعال الأزمات مرات أخرى، فصد رياح التغيير عن قلاعها المظلمة يتطلب، أيضاَ، منع الرياح من الدخول إلى القلاع المجاورة: البحرين. ليبيا. اليمن. سوريا. والعمل قدر المستطاع على إعادة بث الروح في أنظمة القلاع التي سقطت: تونس ومصر، وبصرف النظر عن الكيفية والثمن، فالمهم هو الهدف القبيح: بقاء الحال كما هو عليه في القلاع المتهاوية. وإعادة المياه إلى مجاريها العفنة في القلاع التي تهاوت.
 
تلك هي، على الأغلب، بعض ملامح المشهد التونسي حالياَ، وهي مجرد عناوين في نهاية المطاف، قد توفر سبل الوصول إلى ما خفى من أيادِ تدير اللعبة في الظلام. ناهيك عما يدور من أحداث صريحة على الأرض، أمام الكواليس، هذه المرة، وليس من خلفها، وبنوايا طيبة عادة:- صراع الأحزاب القديمة والجديدة على نصيبها من قلوب الناس ومواقع قيادتهم. وعبر خطابات لا تمثل، غالباَ، حقيقة أهدافهم وأحلامهم، إذ لا معنى الآن، على سبيل المثال لا الحصر، لتوتير العلاقة بين أحزاب اليمين واليسار. ولا اللعب، غير البريء، على موضوعة التحذبر من – أسلمة قادمة للمجتمع- تُفقد المرأة التونسية تاريخها ومكتسباتها المشرفة. ولا التلويح، في المقابل، بتلك الأسلمة الموعودة – التي – سترد المجتمع إلى جادة الصواب وجنان الدين الحنيف -؟ فلا التلويح بتلك الأسلمة بصحيح أو مطلوب. ولا التحذير، العصبي، منها أيضا. ولا رابحِ في نهاية المطاف، عبر ذلك الصراع، سوى الأيادي السوداء من خلف الستار.
 
الرهان الوحيد: هو الشعب التونسي بلا أدنى شك.
هي الجموع الغفيرة والجميلة التي تجاوزت أحزابها ومنظماتها ورهبة نظامها الوحشي في لحظة فريدة من التاريخ وخرجت إلى الشوارع والساحات، بتصميم وعزم نادرين، لتعيد ترتيب البيت المُنهك والحزين.
 
الجموع الجميلة تلك، هي، الوحيدة القادرة الآن على حماية ثورتها وحاضرها وآفاق مستقبلها. وهي الوحيدة القادرة على كشف ما يدور من خلف الستار، وتعطيله ايضاَ، وهي الوحيدة، مرة أخرى وأخرى، التي تملك حق الإجابة المُنتظر عن السؤال المركزي: سؤال تونس، وإلى أين تسير؟

التعليقات