15/05/2011 - 11:39

نحو ملامح جديدة لواقع إقليمي جديد../ عثمان أبو غربية*

من الصعب إدراك أين سينتهي الحراك الإقليمي الجديد، وما هي طبيعة الأدوار القادمة للأوزان الإقليمية المعروفة كمصر وتركيا والسعودية وإيران، فالأمور تتوقف على طبيعة التداعيات للحراك الذاتي شعبياً وإقليمياً، والمعادلات الاقليمية الدولية. ولكن وفي خضم ذلك فقد أصبح الواقع العربي بحاجة واضحة لملء فراغ غياب الدور الإقليمي وغياب الفكرة الاستقطابية للإنسان العربي وبذرة انتمائه الجمعي، وهو أمر لا بد أن يقف حياله المفكرون العرب لتقديم استحقاق تطور فكري سياسي اجتماعي محوري للأمة ينطلق من واقعها بهدف تغيير هذا الواقع، وكذلك لا بد أن تقف حياله المبادرات العملية الرائدة التي تتطلع إلى صناعة التاريخ، وتتصدى عملياً لمشكلات واحتياجات الواقع العربي

نحو ملامح جديدة لواقع إقليمي جديد../ عثمان أبو غربية*
من الصعب إدراك أين سينتهي الحراك الإقليمي الجديد، وما هي طبيعة الأدوار القادمة للأوزان الإقليمية المعروفة كمصر وتركيا والسعودية وإيران، فالأمور تتوقف على طبيعة التداعيات للحراك الذاتي شعبياً وإقليمياً، والمعادلات الاقليمية الدولية. ولكن وفي خضم ذلك فقد أصبح الواقع العربي بحاجة واضحة لملء فراغ غياب الدور الإقليمي وغياب الفكرة الاستقطابية للإنسان العربي وبذرة انتمائه الجمعي، وهو أمر لا بد أن يقف حياله المفكرون العرب لتقديم استحقاق تطور فكري سياسي اجتماعي محوري للأمة ينطلق من واقعها بهدف تغيير هذا الواقع، وكذلك لا بد أن تقف حياله المبادرات العملية الرائدة التي تتطلع إلى صناعة التاريخ، وتتصدى عملياً لمشكلات واحتياجات الواقع العربي.
 
لا بد من تلبية استحقاق التطور في محاوره الفكرية والسياسية والمجتمعية بما يؤدي إلى أن تأخذ الأمة دورها تجاه نفسها ونهوضها وتلبية حاجاتها، وتجاه رسالتها الإنسانية.
 
لقد بلغ فراغ الفكرة حد التخبط والانكفاء الأدنى في الوقت الذي يرتفع فيه الفكر الإنساني ما فوق القومية وحتى العقائدية، باتجاه الفكر الإنساني الشامل الذي يشكل قاسماً مشتركاً لكل التوجهات السليمة: قومية أو دينية أو مجتمعية أو نهضوية، حيث تتشارك البشرية كلها في مواجهة تغير النمط الإنساني الاجتماعي باتجاه نمط آخر تؤثر في ملامحه متغيرات مفصلية في مجال التطور والتقدم التكنولوجي المتسارع والتطور في علم الجينات ومتغيرات الحياة البيئية المحيطة بالإنسان وآفاق احتمالات علوم الفضاء التي ما زالت بعيدة المنال.
 
ستشكل المتغيرات البيئية تحدياً تصبح معه المشاعر والمواقف الإنسانية بجانبها الإيجابي والسلبي عابرة لحدود الجغرافيا والسياسة والقوميات والأديان والمعتقدات، وسيساعد في ذلك تطور التفاعل الإنساني في نطاق البشرية نتيجة لثورة التواصل عبر التقدم الهائل في المواصلات والاتصالات والفضائيات وتكنولوجيا المعلومات، وكل وسائل تقصير المسافات واختراق الحدود والفواصل مادياً ومعنوياً وذهنياً. وكل ذلك سوف ينتج نمطاً إنسانياً اجتماعياً جديداً سينعكس في منظومة العمل الدولي ومنظومة مواجهة التحديات المشتركة وحتى قوانين الصراع والوسائل، والأهم والأقرب قيم الفكر الإنساني المشترك، حيث أصبحت بعض الأهداف الشمولية قيماً إنسانية مشتركة على الرغم من اختلاف أشكال التعبير عنها أو استخدامها، مثل قيم العدالة الإنسانية والإجتماعية، والحرية والديمقراطية والتقدم، والسلام القائم على أسس من العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، في ظل الدولة المؤسساتية الحديثة، إذ يشهد شكل الدولة استحقاقاً للتطور ناجم عن طبيعة الوظائف المركبة للدولة داخلياً وطبيعة علاقتها بالنظام الدولي الآخذ بالتعاظم في إطار تطور الحياة الإنسانية، بل وتعاظم الاحتياج لمنظومات العمل الاقليمية التي يؤثر في تشكيلها العامل الجيوسياسي إلى جانب التجاور الثقافي بما فيه من تاريخ مشترك من التفاعل سواء عبر الصراع أو التعاون على حد سواء، وهو الأمر الذي يدفع باتجاه منحى التفهم المتزايد بل والتوجه في معالجة لاشكاليات واقعة أو مزمنة في مسائل استيعاب التنوع والتعددية والتفاعل الايجابي في نطاق هذا التنوع وهذه التعددية سواء كانت فكرية أم قومية أم دينية أم اجتماعية. بل لقد أخذت هذه المفاهيم تصبح قواعد ضرورية للمجتمع الواحد في الدولة الواحدة، كمحور أساسي لكونها قيماً اقليمية وإنسانية في النطاق الدولي.
 
إن أي مجتمع أو واقع اقليمي لا يلبي متطلبات هذا الاستحقاق يصبح معرضاً للتفسخ وللتمييز وللصراع الداخلي أو الصراع مع الجوار، وللانقسام، ولفرص استثمار كل هذه العوامل من قبل القوى الخارجية.
 
يتطلب هذا الأمر منظومة متحدات داخلية وخارجية على أساس المساواة والعدالة والمبادرة الحضارية والتكامل والترابط والتعاون.
 
بالمعنى الداخلي لا بد من المساواة في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين في إطار الدولة الواحدة، في كل شيء، وبغض النظر عن الانتماء إلى أغلبية أثنية أو مذهبية أو دينية، أو إلى أقلية، لأن المواطنة يجب أن تتجاوز تقسيمات الانتماء الداخلي.
 
وكذلك في الواقع الإقليمي لا بد من صيغ للتكامل على أساس المصالح المشتركة والتعاون وحسن الجوار والتوازي في مستويات التطور لأن الفجوات وانعدام العدالة في التنمية تؤدي إلى تصدير الأزمات سواء بجواز سفر فكري أو معنوي أو روحي أو سياسي، أو بجواز سفر الفتن والقلاقل والتدخل السلبي وحتى بالحروب والصراعات.
 
من المهم الانتباه لمسألة أهمية التماثل النسبي في مستويات التطور للجوار على أساس من التكامل والترابط والتعاون لأن ذلك مصدر الوئام وقوة دفع التنمية والبناء.
 
لقد أخفقت المنظومة العربية لأسباب ذاتية أو لعوامل خارجية في إقامة صيغة للتكامل الإقليمي الذاتي على الأقل في غياب ما هو أولى وأكثر فاعلية واستحقاقاً وهو صيغة الوحدة العربية. وبكل تأكيد كان للاعتبارات الخارجية دورها الأساسي، وكانت النتيجة، وبالاً للجميع في الوطن العربي.
 
وهنا نتطرق لمثالٍ محدد، حيث سبق في عقود ما بعد منتصف القرن الماضي أن طُرح مشروع للتنمية الزراعية بمشاركة مصرية وسعودية وسودانية لاستثمار الأراضي الشاسعة الصالحة للزراعة في السودان بل والأراضي القابلة للاستصلاح وهي بمجملها  كافية لأن تكون مصدر انتاجية زراعية هائلة إقليمياً ومصدر تنمية وترابط على المستوى الداخلي في السودان وبين الدول الثلاث.
 
مصر تملك الفائض العمالي والخبرة الزراعية، والسعودية تملك الفائض المالي والسودان تملك الأراضي والمياه الكافية. لم ير هذا المشروع النور لعوامل سواء كانت خارجية أو ذاتية وكانت النتيجة أن الأموال العربية تذهب هدراً ومصر تبقى محتاجة للقمح الأجنبي والسودان أصبح مقسماً وبقي متخلفاً.
 
ما يجب قوله إن الواقع العربي يحتاج إلى صيغ من التكامل والترابط والوحدة تجعله متحداً اجتماعياً اقتصادياً قادراً على تحريك عوامل التنمية والتقدم والاستقرار الاجتماعي والوطني والقومي.
 
تتفوق عوامل الوحدة في إطار الوطن العربي على عواملها في أوروبا، ومع ذلك فإن الواقع العربي مقصر عن بلوغ مستوى حتى التعاون الأوروبي. وهنا لا بد أن نقف أمام سؤال هل تستطيع الدول العربية أن تخرج من محن التشرذم والتمزق بالعثور على تطوير حقيقي وفعال لصيغة الجامعة العربية، وهل هي حرة الإرادة؟ أو تستطيع تجاوز العوامل الخارجية المؤثرة سلباً.
 
هذا استحقاق أساسي، فهو يوفر نواة لصيغة متطورة للوحدة العربية، قابلة للتحقق ليس بوسائل الإكراه أو التصادم السافر مع العوامل المضادة وإنما بالقفز على التجزئة حضارياً وتنموياً وبدون إلغاء الخصوصيات ولكن بالعمل على تقليصها.
 
لقد أثرت ثورة التواصل في الكشف عن المزايا والخصائص الواحدة في الوطن العربي، والذي ينطوي على تنوع إيجابي لا بد أن يكون مصدر إغناء وتفاعل على أساس المساواة في المواطنة وبين المواطنين، ولا بد له أن يعزز روح المتحد وقوة الدفع باتجاهه، بدلاً من أن يكون الإغراق في تفاصيل التناقضات والصراعات مصدراً للعدمية القومية أو للتجزئة والتقسيم كما تسعى إليه العوامل المضادة.
 
في النتيجة فإن ذلك هو السبيل لتعزيز الأمن الديموغرافي الواجب في كل دولة وفي الواقع الإقليمي في آن واحد. ولا بد للدول والحكومات أن تتوقف أمام مسألة الأمن الديموغرافي في كل منها وفيما بينها لكي نتوقى الانحدار إلى ما دون القطرية. لأنها عندما تعاطت مع الأمر من منطلقات العفوية أو الأنانية أو النظرة الضيقة أو القصيرة أوصلت نفسها إلى منزلقات حافة الهاوية في تغيير الطابع أو التقسيم أو مواجهة الأطماع.
 
يجب معالجة الواقع بسياسية تكون أكثر ارتباطاً بالفكر الإنساني وبفكرة الوحدة، وجعل هذه الفكرة أكثر ملاءمة لتشكيل المتحد، لأن العصر هو عصر المشاركة للمتحدات الأكبر، ولأن الإضافة للحضارة الإنسانية تجد سبيلاً أفضل عبر المتحدات الكبيرة، تماماً كما أن حماية الخصوصيات الثقافية وبالتالي التفاعل والإغناء الثقافي الحضاري الإنساني تكون أكثر فرصاً عبرها.
وكذلك يجب معالجة الواقع بسياسة تكون أكثر حصانةً وتوقياً للمنحنيات السلبية المحتملة.
 
لقد أدى عامل التمسك بمواقع الحكم وبالنظام مفعولاً أكبر بكثير من متطلبات المصالح الوطنية والاستقلال والسيادة وهو ما أدى إلى مزيد من التمزق والصراعات، وإلى الخضوع للإرادة الأجنبية وعبثها وتحقيق غاياتها الاستعمارية بأنماط جديدة وبصورة أكثر شراسة تتغطى بذرائع القيم الدولية والإنسانية وأحياناً بمعاناة الشعوب ذاتها.
 
تلك بعض الاعتبارات الأساسية التي من الواجب مراعاتها أمام استحقاق ملء فراغ فكرة الانتماء والاستقطاب انطلاقاً من الاحتياج الموضوعي الأساسي للإنسان في الوطن العربي وارتباطاً بآفاق الفكر الإنساني والاستحقاقات المستقبلية، وهو أمر يجب أن يسير وبغض النظر عن المضمون الفكري والاتجاه العقائدي وفقاً لقواعد أساسية منها:
 
أولاً: عدم الوقوع في الجمود الفكري والخطاب الجامد لأن ذلك يفسد الصلاحية المستقبلية في مواجهة استحقاقات مستقبل له معالم جديدة.
ثانياً: عدم الوقوع في التماهي وضياع الملامح في إطار الاندماج مع العوامل الموضوعية والخارجية وضرورات مراعاة سقوف العمل الدولي.
ثالثاً: تلبية استحقاق التطور باتجاه الفكر الإنساني المشترك والتعاون الإنساني في نطاقه.
رابعاً: الانطلاق من مقومات الواقع التاريخي والخصوصيات وثوابت الجوهر في إطار فكرة المتحد الحضاري الخاص.
خامساً: إقامة نظام مرن قابل للتطور باتجاه مزيد من الوحدة لواقع الإقليم العربي.
سادساً: تبني النظرية الاقتصادية الاجتماعية انطلاقاً من اتحاد الفكرتين العدالة والحرية أو تكاملهما بصورة أدق، بمصدرين: الخصوصية والتفاعل الإنساني معاً.
سابعاً: وضع البرامج لتحقيق الأهداف التي ما زالت هي الاحتياج الحقيقي للإنسان والمجتمع في الوطن العربي كأهداف التحرر من التبعية والتجزئة والاحتلال (وفي المقدمة فلسطين والقدس)، والتخلص من التخلف، وتوفير العدالة والحرية والنهوض والاستقرار والكرامة، والديمقراطية وإقامة فكرة الديمقراطية كذلك على قاعدتي العدالة والحرية معاً لكي لا تكون ديمقراطية شكلية أو محصورة الحصاد لفئة من الفئات.
 
يجب أن تترجم المبادرات السياسية بكل مستوياتها ومناحيها هذه الأسس، وأن يتم ذلك في إطار القيم الحزبية أو قيم الدول وعلاقاتها، أو صيغة العمل العربي المشترك التي أصبحت تحتاج إلى تطور مفصلي ونهضوي، وإلى توفير الالتزام، فقد تخلفت الصيغة وتكاثرت أنواع الخروج على الالتزام وبالتالي فقدت فعاليتها بالمدى الكافي والمستوى المطلوب.
 
لقد أصبحت جامعة الدول العربية صيغة نمطية تستند إلى ميزان قوة واه، وكذلك فقد تكلست مؤسسة القمة العربية وانهكتها الانقسامات وسياسة المحاور وعدم الإلزام.
 
ومن ناحية أساسية أخرى فإن الحركات العربية المعروفة تعاني بمختلف اتجاهاتها من جمود في التفكير وتكلس في البنية وانعدام المبادرة أو محدوديتها، وقد وقعت جميعها تقريباً في نمطية الخطاب والسلوك والتعبير عن الفكرة، وانعدام التجديد وتواصل الأجيال، والفجوة بينها وبين حقيقة احتياجات الواقع ونبض الجماهير، ولم تدرك أن لطول الزمان متطلباته وللمتغيرات متطلباتها، حيث يتغير الواقع الدولي من حولنا كما تتغير الوسائل والأساليب ونظم الاقتصاد والبرامج في جميع مجالاتها.
لم تكن مواكبة تطورات الحياة كافية إذ أنها اتجهت للشكل أكثر مما اتجهت للمضامين.
وبنفس المقاييس يمكن تناول الصيغ البرامجية في الدول والحكومات العربية، حيث لم تشهد البرامج الحياتية العملية للإنسان العربي نهوضاً بمدى نهوض التطور العالمي ولا بمدى حاجة مجتمعها لا في الصحة ولا في الرعاية الاجتماعية أو التأمينات والقيم السياسية والاجتماعية أو التوجهات التنموية والاقتصادية أو في مجال التعليم الذي يعتبر الأكثر أهمية لأنه يتعلق بقيمة الإنسان وبالموارد البشرية أصلاً، ولأن فرصه المتاحة أفضل من غيره.
 
تحتاج مؤسسة التعليم العربية والتعليم العالي إلى نقلة نهضوية في البرامج لتراعي محاور احتياجات الواقع العربي، وبكل أسف فإن عدم كفاية التخطيط تجعلها غامضة الملامح إلى حد كبير.
وكذلك لتراعي مدى التطور العلمي واستحقاقاته المستقبلية، وأهمية البحث العلمي وتخصيص المتطلبات الكافية للبحث والتطوير بل ولإقامة الصروح العلمية الخاصة به.
 
ومن جهة أخرى فإن استكمال واستمرارية التعليم لا تقف في هذا العصر على أبواب نيل الدرجات العلمية بما فيها الأعلى، بل لا بد من الاندماج في المؤسسة التخصصية القادرة على التطوير لأن الخبرة وليدة مستوى مؤسسة العمل التخصصية ومواكبة المستجدات في مجال الاختصاص.
 
باختصار لم تعد الصيغة البرامجية للدول والأحزاب مجرد شعارات أو توجهات نظرية محضة ، فلا بد أن تنعكس الرؤى في برامج قابلة للتطبيق وتعالج احتياجات الحياة والواقع وتنطلق لآفاق العصر.

التعليقات