16/05/2011 - 13:34

سيرًا على الأقدام../ جوني منصور

ما الذي يجعل من ذكرى النكبة في هذا العام مختلفة عن الأعوام بل العقود السابقة؟ سؤال قد يبدو عاديًا إلى درجة كبيرة. لكن واقع الأمر غير ذلك، فالعالم العربي لم يعد منذ بداية هذا العام كما كان سابقًا. رياح الحرية تعصف به من كل طرف. إذ حقق شعب مصر أعظم ثورة عرفها القرن الحادي والعشرون، والذي لم يمض على بدايته سوى عقد زمني واحد. لم يكن همّ المصريين إسقاط نظام حسني مبارك ورموزه فحسب بل تحقيق طموحاته في نيل الحرية والكرامة

سيرًا على الأقدام../ جوني منصور
ما الذي يجعل من ذكرى النكبة في هذا العام مختلفة عن الأعوام بل العقود السابقة؟ سؤال قد يبدو عاديًا إلى درجة كبيرة. لكن واقع الأمر غير ذلك، فالعالم العربي لم يعد منذ بداية هذا العام كما كان سابقًا. رياح الحرية تعصف به من كل طرف. إذ حقق شعب مصر أعظم ثورة عرفها القرن الحادي والعشرون، والذي لم يمض على بدايته سوى عقد زمني واحد. لم يكن همّ المصريين إسقاط نظام حسني مبارك ورموزه فحسب بل تحقيق طموحاته في نيل الحرية والكرامة.
 
ما فعله هذا النظام، وعدد كبير من الأنظمة العربية على نسقه، محاولة إغراق الناس في الهموم الحياتية واليومية، وإفقار الشعوب كي لا يبقى لها متنفس تعبّر بواسطته عن طموحاتها وتطلعاتها، إي إلهاء الشعوب العربية بالهمّ اليومي والإنشغالات بأمور الحياة والبقاء. لكن ثورة 25 يناير نفحت روحًا جديدًا في الشعوب العربية التي كانت تنظر بشغف وحب كبيرين إلى الشباب المصري ليُحدِثَ تغييرًا. وها هي ثمار هذا التغيير قد حصدت سنابلها بوفرة وكثرة.
 
انتعشت الشعوب العربية لرؤيتها الحلم العربي يتحقق بعودة الأم ـ مصر ـ إلى أحضان العائلة العربية الواحدة. وانتقلت العاصفة بقوة وزخم إلى بلدان عربية أخرى، ما تزال تعيش في مخاض عسير بانتظار بزوغ شمس الحرية فيها، وحتمًا ستصل اللحظة التي تُشرق فيها هذه الشمس من رحم هذه الشعوب التوّاقة إلى الحرية والأمان والتطلعات إلى مستقبل زاهر يعود فيه العرب إلى الواجهة، وإلى صدارة الشعوب المتحضرة.
 
وما كان يمكن أن تكون القضية الفلسطينية غائبة عن ميادين الحرية سواء في مصر أو تونس وغيرها. هذه الميادين دفعت القيادات الفلسطينية إلى العودة إلى رُشدها وتحكيم عقلها وقلبها، بأن المصالحة هي أساس النضال من أجل الحرية. وهكذا شهدت القاهرة ـ أم الدنيا ـ موسمًا آخر من مواسم الحرية والعودة إلى الذات بتوقيع اتفاق المصالحة بين فتح وحماس وطيّ صفحة الخلافات والانطلاق إلى ما يتوجب على هذه القيادات ممارسته من فعل تحريري للوطن وإنسانه.
 
وتزامنت المصالحة مع اقتراب موعد إحياء ذكرى النكبة الفلسطينية، وهي نكبة الأمة العربية بكاملها. وكانت مصر حاضرة بماضيها وحاضرها في ميدان التحرير، ماضيها ـ جمال عبد الناصر ـ الذي دفع بالقضية الفلسطينية إلى أن تكون قضية مصر والعرب، وأن مصر هي التي تحمل مسئولية هذه القضية مع شقيقاتها الدول العربية. وحاضرها شباب مصر الذي لم تنجح سياسات النظام المصري البائد من محو ذاكرته وإبعاده عن أم القضايا.
 
وسط أجواء الحرية والتغيير أخذ مشروع عودة الفلسطينيين إلى وطنهم مكانه الحقيقي في العودة إلى الذات العربية، حيث انطلق الفلسطينيون والعرب في مصر وسوريا والأردن ولبنان والداخل بتنظيم مسيرات العودة. الداخل الفلسطيني نظم مسيرة العودة إلى قريتي الدامون والرويس في الجليل بمشاركة قرابة عشرين الفًا من الفلسطينيين والمؤازرين لقضية حقهم في العودة. وتواصلت العملية بين الداخل الفلسطيني واللجوء فنظمت مسيرات الزحف والعودة باتجاه فلسطين يوم أمس الاحد الخامس عشر من ايار. لم يكن هم الشباب الفلسطيني التظاهر أو السير حتى الحدود والوقوف هناك، إنما عبور الحدود عائدين على وطنهم. "عائدون"؛ هذا هو الشعار. عائدون إلى مدنهم وقراهم، إلى حيفا ويافا واللد والرملة وصفد ودلاتة وصفورية وبرير وصالحة والغابسية وحمامة وسلمة... وعبر بعضهم الحدود. ويحمل هذا العبور في طياته نزع رداء الخوف والرعب، وتحقيق الحرية في أرض الحرية.
 
هذه هي بداية مجددة للعودة، عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه ووطنه السليب. وبالرغم من أن الحركة الزاحفة تحمل في طياتها الكثير من الرمزية في الظروف الراهنة، إلا أن هذه الرمزية هزّت مضاجع المؤسسة الحاكمة في اسرائيل، سواء السياسية أو العسكرية وحتى المواطن الاسرائيلي العادي بدأ يدرك جيدًا ان شيئًا مختلفًا حدث ويحدث على أرض الواقع وبالفعل وليس مجرد شعارات رنانة.
 
المسيرات السلمية غير المسلحة التي جرت بالأمس حرّكت العالم بأجمعه وهي تؤكد ما يلي: 1) أن الشعب الفلسطيني مُصِرٌّ على تمسكه بحق العودة إلى وطنه. 2) أن الأنظمة العربية الرجعية والمتواطئة والعميلة في مأزق إزاء رغبات شعوبها الداعمة للقضية الفلسطينية. 3) اختبار المؤسسة الاسرائيلية في كيفية تعاملها مع زحف سلمي وغير عنيف نحو فلسطين. 4) ورقة ضغط قوية جدًا على صُنّاع القرار في المجتمع الدولي في ان القضية الفلسطينية وبالأخص حق العودة لم تتقادم. إنها قضية تنبض بالحياة بفعل قوة الشعوب العربية. 5) ليتسائل كل اسرائيلي لماذا تحرك هؤلاء وماذا يريدون منا؟ عندها يأتيه الجواب بأن هؤلاء قد سُرق وطنهم ونُهبت أرضهم وشُوه تاريخهم وطُمست معالمهم المادية والثقافية، وها هم يعيدون قضيتهم إلى الصدارة العالمية. وأيضا، ان المستوطنين الذين ينفذون مشروعا استعماريا ليسوا ضحايا أي شعب او حكومة في العالم سوى انهم ضحايا سياسات الحركة الصهيونية وآلتها التنفيذية حكومات اسرائيل المتعاقبة.
 
من ينظر بعمق إلى هذا التحول في الرؤيا العربية عامة والفلسطينية خاصة يدرك أن ظاهرة الانقسام منحت اسرائيل ونظام مبارك قدرة على الاستمرار في قهر الشعب الفلسطيني مقابل توفير الأمن لإسرائيل، وأن الوحدة الفلسطينية خير برهان على قدرة الشعب الفلسطيني على بناء ذاته وتحطيم كل ما يمكن أن يحول دون نجاح مشروعه الوطني في العودة إلى وطنه وبناء دولته المستقلة.
 
اكتشف العرب وبضمنهم الشعب الفلسطيني الطاقة الكامنة بقوة في الشعوب، وأن ما يريده الشعب يتحقق وسط إيمان بقدرته على التغيير وإصراره على تحمل المسؤولية.
 
حقيقة أن زحف العودة من الداخل ومن خارج فلسطين نحو فلسطين الرمز والوجود والمستقبل كان فيه تحدٍّ عميق لإسرائيل التي استنفرت كل قواتها الأمنية والسياسية في سبيل مواجهة المخطط الفلسطيني، وهذا ما يؤكد مجددًا أن حالة من الذعر والخوف والارتباك تسود الشارع الإسرائيلي عامة. وأن هذا الزحف، وإن منعت بعض الحكومات العربية حصوله، يضع حدًّا للمسرحية الساخرة "العملية السلمية" ويعيد ترتيب المطالب والثوابت العربية والفلسطينية، وفي مقدمتها حق العودة. وأن الزحف الذي حصل بالأمس أعاد القضية الفلسطينية إلى الصدارة عربيا وعالميا. وأكد أن بإمكان الشعب الفلسطيني صاحب أقدس قضية أن يعود إلى وطنه سيرًا على أقدامه كما هُجر منه قبل 63 عامًا.

التعليقات