25/05/2011 - 13:55

الهوية الجامعة والحرب على جبهة الوعي../ د. عمر سعيد

توازيا مع تهاوي عروش "سلاطين الفول والزيت" وتشتت أزلامهم أيدي سبأ، فقد لطمت الثورات العربية المتواصلة أيضا وجه المرجعيات الفكرية المهيمنة في مجتمعاتنا وتشكيلاتها السياسية المتخمة بالانتهازية والتلفيق، وكشفت عن بؤس أوضاعها وضحالة شعاراتها الحالمة منها والعمياء، وأفقدت صواب حراسها ومثقفيها الحزبيين المقولبين، الذين اعتادوا استخدام "المسطرة والفرجار" في قياس صدقية الموقف وشرعية الآخر وأهمية مساهماته، إما بعقلية القبيلة الحزبية وقرابة "الدم السياسي" والامتيازات، أو بمدى بعده أو قربه من "الحقائق" المطلقة لمرجعياتهم المقدسة

الهوية الجامعة والحرب على جبهة الوعي../ د. عمر سعيد
توازيا مع تهاوي عروش "سلاطين الفول والزيت" وتشتت أزلامهم أيدي سبأ، فقد لطمت الثورات العربية المتواصلة أيضا وجه المرجعيات الفكرية المهيمنة في مجتمعاتنا وتشكيلاتها السياسية المتخمة بالانتهازية والتلفيق، وكشفت عن بؤس أوضاعها وضحالة شعاراتها الحالمة منها والعمياء، وأفقدت صواب حراسها ومثقفيها الحزبيين المقولبين، الذين اعتادوا استخدام "المسطرة والفرجار" في قياس صدقية الموقف وشرعية الآخر وأهمية مساهماته، إما بعقلية القبيلة الحزبية وقرابة "الدم السياسي" والامتيازات، أو بمدى بعده أو قربه من "الحقائق" المطلقة لمرجعياتهم المقدسة.
 
لم يعد ممكننا لأي جهة كانت الادعاء أنها تمتلك مفاتيح جنة الحياة الواقعية للناس، ولا إمساكها بناصية فهم قوانين ومنطق التاريخ والتحكم بتطور مجتمعاتها "المحتوم" من بعيد، وعليه فلن يصيح ديك مجدها، بعد الآن، من "علياء" كومة نفاياتها السياسية والاجتماعية صبيحة كل يوم، ذلك لأن شيئا لن يعود لما كان عليه قبل هذه اللحظة التاريخية الفارقة. هي لحظة فارقة لأنها فرضت قطيعة جذرية بين حالة من الاستسلام الكلي لمنظومات القمع السلطوية التي أفضت إلى شلها وتهميشها وامتهانها على نحو مأساوي من جهة، وانتقالها إلى حالة فاعلة من استعادة التوازن واكتشاف الذات وأخذ زمام المبادرة  في إزاحة معوقات نهضتها ليس عن ظهرها فحسب وإنما، وهو الأهم، من أمامها أيضا.
 
 إزاء هذا الطوفان الثوري المفاجئ وتداعياته، فقد سارع "المحاربون القدامى" أو لنقل "الحرس الثوري القديم"، المتكرش غالبه، إلى محاولة استيعاب أثر الصدمة الأولى إما بركوب أعتى موجاته فتعب من لحظته وترنح في ذيله، أو بإنكار إمكانية وصوله إلى دياره فأخلف ظنه الطوفان، أو بإجراء عملية ترميم وصيانة شاملة لخطابه السياسي والفكري فاستفز معارضة من داخل بيته حتى ظهر مرتبكا لا تعرف سفينته أين وأيان مرساها. لهذا كله، فإننا نشهد الآن حالة شاملة من فوضى للسلاح الفكري، واشتباكا "دمويا" بين مواقف رفاق وإخوة الأمس، بل وأبناء نفس المدرسة والتنظيم، بصورة تبدو مبررة حينا وعبثية ومحبطة أحيانا، وليس من السهل فهم نوازع الاقتتال وإدراك مسوغاته وتوقع نهاياته. مثل هذه الأجواء والوقائع قد تعيد إلى ذهننا التاريخي أجواء "الفتنة الكبرى" التي خبرها المجتمع العربي الإسلامي الأول والتي أدمت وعيه وأخرجته عن السياق، وما زالت مفاعيلها وتداعياتها حاضرة بقسوة في وعينا الجمعي حتى هذه اللحظة.
 
 ربما تكون هذه الفوضى جزءا عضويا من عملية ترتيب اللوحة المتشكلة القادمة وحالة طبيعية عادة ما تصاحب المراحل الانتقالية في حياة الشعوب، وهو ما نرجوه، غير أن أكثر ما ينبغي أن يقلقنا في المشهد العربي الراهن هو ذاك الدور الخطير الذي تضطلع به الدول الاستعمارية ووكلاؤها العرب، والذي تتجاوز أهدافه الفعلية مجرد حماية مصالحها من خلال إعادة التموضع في البنية الجديدة المتشكلة، وتسويق الأمر وكأنه محاولة للتكفير عن أخطاء سياساتها التقليدية السابقة  باعتباره أحد أهم دروس الماضي مما سيرمم سمعتها ويتيح لها الظهور صديقا داعما لتطلعات الجماهير في التغيير.
 
 باعتقادي، إن جبهة الصراع المتخفية الأهم لذاك الحراك تدور رحاها على عقول الناس،  وتستهدف أساسا تطويق وإجهاض الوعي الشعبي الثوري الجنيني الغض، وبالتالي تشويه عملية تطوره سلفا بقصد قطع الطريق أمام شحن مخياله وتشكل منظومات قيمية جامعة وحاسمة تكون بالضرورة مصاحبة لأي عملية توليد ثوري تاريخية، والتي تؤمن للثورات الحماية والاستدامة وتقلب معادلات الصراع والمفاهيم التقليدية رأسا على عقب.
 
إنه لأمر محزن أن تظهر تلك الجهات المعادية مدركة تماما لمهامها، بينما تلف الغفلة والرعونة أبناء معسكر المقاومة والممانعة في متاريس المواجهة من احتراب الأهل والأخوة. ليس هناك شيء أكثر أذى وتشويها لفعالية ورمزية المصطلحية النضالية الجهادية في وعي الجماهير من امتهانها واغتصابها من قبل حراسها القدامى كما يفعل القذافي في توظيفه لتلك المنظومة المصطلحية السامقة في معانيها ورمزيتها (مثل النضال والجهاد والثورة والأمة......) لتبرير قتل أبناء شعبه وبقائه الأوحد في السلطة. إن تشويش وتخريب الدلالات الحقيقية لتلك المفاهيم ينطوي على تهديد فادح لحصانة المجتمع ومنعة وهيبة قواه الحية، وبالتالي قد تفضي إلى تضييع البوصلة الموجهة لمشروع أمتنا النهضوي بعد أن يستوي عنده الطيب الخبيث.
 
مقابل هذا المشهد القذافي التعيس، تنتصب حالة مزرية من التهافت لبعض قيادة معارضيه، مستفيدة من وهن النظام العربي ودعم بعض أقطابه، في إشاعة خطاب انهزامي مخادع (وباسم الثورة أيضا) يكاد يجعل من النظام الاستعماري وآلته العسكرية خيارها الإستراتيجي الأمثل. إن التفهم الاستثنائي الذي يبديه المثقفون الأحرار والأحزاب الوطنية والإسلامية لظروف الحالة الليبية الخاصة ومحدودية الخيارات المجدية أمام المعارضة هناك، يضاعف على كاهلهم مسؤولية المراقبة الحذرة والنقد المتواصل والتنبيه والاعتراض، لئلا يصيبنا ما أصاب العلجوم من قصص كتاب كليلة ودمنة حيث " زعموا أنّ علجوما جاور حيّة فكان كلما أفرخ جاءت إلى عشّه وأكلت فراخه. ففزع في ذلك إلى السرطان فقال له السرطان :إن بقربك جحرا يسكنه ابن عرس وهو يأكل الحيات. فاجمع سمكا كثيرا وفرقه من جحر ابن عرس الى جحر الحية فانه إذا بدأ في أكل السمك انتهى إلى جحر الحية فأكلها. ففعل وكان ذلك. ثم تدرج ابن عرس من جحر الحية في طلب غيرها حتى بلغ إلى جحر العلجوم فأكله أيضا وفراخه جميعا"، وهكذا نصبح على ما فعلنا نادمين.
 
والأمر عينه يكاد ينطبق بالكامل على المشهد السوري بما تعصف به من أحداث هي الأكثر إيلاما في نفوسنا، لما لهذا البلد المستهدف جراء دوره القومي من أفضال في الإبقاء على جذوة الممانعة مشتعلة وإفشال الغزو الأمريكي الغربي الصهيوني، واحتضان الفصائل الفلسطينية وحماية ودعم المقاومة اللبنانية. مع ذلك، بل بسبب ذلك، تثير مشاهد القمع الدموية للمتظاهرين بالغ الضرر في صورة المشروع القومي الممانع من ناحية هيبته وإخلاصه وجدواه في ضمير الناس،  وقد تمتد عملية تآكل رصيده لتطال حتى المقاومة اللبنانية التي أنقذت شرف الأمة في زمن الزحف على البطون، ومهدت بذلك واقعا لاندلاع تلك الثورات المباركة.
 
من يريد الخير لسوريا، قيادة وشعبا، في هذا الزمن الدقيق، عليه ألا يتخلى عن توجيه النقد المسؤول ضد الممارسات القمعية التي ترتكب بحق المتظاهرين، وإسداء النصيحة الصادقة للدفع باتجاه الصلح الأهلي والإصلاحات الجذرية في بنية النظام، وليس تبني الرواية الرسمية بكليتها وتجاهل المطالب الشرعية للجماهير، ذلك لأن كرامة الإنسان وحقوق المواطنة وحرية الفرد بالتفكير الحر قد أصبحت قيما راسخة لا يرضى أن يتنازل عنها الإنسان والمجتمع الذي لم يفقد بعد إحداثيات وجوده وكيانه الكريم في هذا الحين من الدهر، ولن يتقبل أي تفسير يمنع عنه ممارسة أنشطة سياسية ونقدية وفلسفية وإبداعية...، حتى لو جاءت متعارضة مع التأويل السلفي للدين أو مع بعض التخريجات المضطربة لمعسكر القومية والمقاومة.
 
بعيدا عما تستحضره تلك الإشكاليات من إحباط وما لها من شجون، فقد أنعشت الثورات العربية فكرة المشروع القومي الديمقراطي "ورمت دماءها في وجنتيه" وذكرت كافة أطياف المتغافلين والمنكرين أن بين البحرين أمة عربية واحدة ما زالت تتوق لإنجاز نهضتها المأمولة ووحدتها المعطلة، وعليه يحق لنا جميعا التوقع أن الحقبة القادمة ستشهد مزيدا من التعاضد والالتحام القومي وارتفاعا في سقف تطلعاتها وعلى رأسها قضية فلسطين، وانفراجا بيّنا في العيش المدني والتسامح الواعي بين كافة أبناء مجتمعاته بأطيافه الفكرية والسياسية، على قاعدة وحدة الدم المسفوح في ميادين الحرية وضرورة دفع عجلة الثورة واستكمال إنجازاتها المهددة وحمايتها بأيدي التيار الشبابي المتعاظم.
 
بعد هذا، فليس هناك ما يبرر ذاك التخوف المضخم لدى قطاعات كثيرة من المثقفين من احتمال سيطرة العقلية السلفية على فضائنا الاجتماعي وتعاظم تأثير خطاب التعصب الديني والطائفي والرجعية في غمرة تلك التبدلات.
 
 باعتقادي، إن الخطاب السلفي هو من سيدخل طور الأزمة البنيوية وهو من سيتعرض إلى التراجع والانحسار لأن منطقه المخالف لتحديات العصر يعتمد أساسا على الركود المجتمعي، وكذلك لأن درجة تطور المجتمع تعكس شكلا مطابقا لصورة الدين الخارجية. فبقدر ما يحقق المجتمع العربي الإسلامي من أهدافه ويراكمها ويصعد في سلم التطور الحداثوي فإن بصمات تلك الإنجازات ستتجلى حتما على قسماته الخارجية، ذلك لأن تأويل النصوص وفاعليتها ستتحدد وفقا لاستحقاقات العقلية والثقافة السائدة. وهكذا شأن التسامح باعتباره ممارسة اجتماعية لتلك المثل وتتأثر بمستوى وعي المجموعة وأوضاعها المعيشية، بحيث يمكن لنفس المجتمع أن يبدي تسامحا أو تعصبا في زمنيين مختلفين رغم امتلاكه لنفس المرجعية الأخلاقية.
 
إن لغة الحوار والانفتاح الواثق على الآخر واكتشاف عالمه هو السبيل الأمثل لتجاوز جدر التوجس والرفض المتبادل بين طرفي حركة النهضة. لماذا لا يولي الكثير من النشطاء والمثقفين من أبناء التيارات العلمانية أي اهتمام بمسألة التراث الفكري العربي الإسلامي، وتخالهم ينسون أنه بمجرد أن نتساءل حول كيف ينبغي أن نتعامل مع تراثنا الفكري، فإننا، في الواقع، نسأل أنفسنا ما هو موقفنا من الحداثة وانجازات العصر؟ أي أن التساؤل الآخر هو بالذات من يعطي قضية التراث هذه الأهمية المضخمة. فلولا وجود هذا التحدي الوافد إلينا من خارج وعينا (أي الغرب) لأصبحت حدود المسألة التراثية مفهومة ضمنا وصراحة، كما هو حال المجتمعات الغربية، ولما تمتعت بهذا القدر من اهتمام الباحثين، ولما أصبحت القضية الأساس التي تتمفصل حولها كافة صراعات التيارات الفكرية المعاصرة، حتى باتت تعرف في قاموس الفكر " بإشكالية الأصالة والحداثة".  وهذا شأننا أيضا مع "معضلة" العلمانية، حيث يتموقع كل طرف وراءها لتبرير حربه المزمنة دون روية وتمحيص، هذا علما أن الخطاب النهضوي المعاصر واضح بهذا المستوى ويتذوتها كموقف حر ومنفتح من المعرفة نفسها، وبالتالي فهي عنده مفهوم مرادف للحرية ولا يتعاطى مع الجانب الإيماني. إن مضمون العلمنة الواعية، كما نفهمه نحن ونراه مناسبًا لمجتمعنا، ليس بغريب عن تراثنا (المعتزلة، ابن رشد، ابن حزم ...) الذي عانى خلال مسيرته مأساة القطيعة الكبرى، وأعني تفكك الدولة العربية الإسلامية في القرن الثاني عشر وانتصار السلاجقة، فصار إلى ما هو عليه اليوم وكأنه غريب لا يملك في صلبه ومبناه عناصر التجدد والمرونة والانفتاح.
 
رغم هذه الإشكالات المعرفية والاجتماعية، فإن فرصة تاريخية سانحة تلوح في الأفق ويتعين علينا استنفاذها لتشييد أركان نهضتنا، أو كما يقول صاحبنا من تونس "هي فرصتكم أيها الشباب فالتتقطوها.." لأن الفئات الشبابية، فضلا عن طاقاتها المستعرة ومصلحتها في التغيير الجذري، فإنها هي القادرة على التعاطي مع المعضلات المجتمعية المفصلية بلغة العصر وعين الناقد وبعقلية الحداثة المتحررة من قيود التحزب التنظيمي الأعمى وإرث الصراعات الفئوية التي كرست حالة مريعة من القطيعة والانقسام بين تيارات النهضة بشقيها العلماني والديني. من أبناء تلك التيارات ومن صلب الواقع والضرورة، سنشهد ظهورا متعاظما لجيل من القادة الشباب المتنورين وراسخي الإقدام في انتمائهم لثقافتهم العربية الإسلامية يعرفون جيدا أفضل معادلات الجمع بين الأصالة والحداثة، وسيعود لهم فضل صقل شخصية المناضل العربي القادم.

التعليقات