06/06/2011 - 15:19

لسعة حرية حقيقية بعد 44 عاما من المهانة المستدامة../ د. مطاع صفدي

تحرير القدس حقاً يبدأ من تونس والقاهرة ودمشق وكل عاصمة عربية. هذا هو المايحدث العربي اليوم وغداً، فلماذا لا يأتي الحدث الأعظم إذن.. اليوم قبل الغد!

لسعة حرية حقيقية بعد 44 عاما من المهانة المستدامة../ د. مطاع صفدي

التحولات العربية لم تعد تخصّ شعوبَها وحدها. لم يعد تدخُّلُ اوروبا وأمريكا في الشأن العربي مجرد بعضِ نشاطٍ للسياسة الخارجية؛ ويمكن القول إن الإنسان العادي في الغرب الأوربي خاصة أصبح متابعاً للوقائع العربية كأنها جزء ملازم لوقائع الحياة اليومية في بلاده عينها. فقد تعدّت الدبلوماسيةُ اختصاصَها فيما يُسمّى بالعلاقات الدولية، إلى هذا التقارب الأشبه بالعلاقات شبْه الإنسانية بين الشعوب. نقول هذا ونحن نلاحظ بوادر متغيرات مختلفة في عادات المواقف والآراء الثابتة التي توجّه الفهمَ الغربي وسلوكَه معاً، إزاءَ ما يستجدّ من تطورات الزلزال الثوري الذي يزعزع أسس الخارطة الجيوسياسية لقارة العرب والإسلام. هنالك ما يشبه حالة الخروج الغربي من صدمة المفاجأة إلى حال البحث عن تدبُّرات مبتكرة يتفتّق عنها عقل ليس سياسياً نفعياً خالصاً هذه المرة.. ربما.

يمكن الحسْم منذ الآن أن الغرب لا يملك مخططاً جديداً. لا يمكن الزعم أنه تَوَقَّع ثورة شعبية حقيقية في أي مكان من هذه القارة، تكون خارجةً عن تصميمه، ومضادةً له في كل شيء، في الإيديولوجيا والاستراتيجيا معاً. أما أن هذه الثورة قد وقعت أخيراً، والغرب غيرُ دارٍ بها، فهذه ليست إهانة لذكائه وخِبْرته، أليس قادراً على استدراك الصدمة، قبل أن تداهمه بما هو أعظم!

في أدبيات الثورة هناك تمييز بين مفهومين: (نجاح) الثورة و(انتصار) الثورة. فالنجاح حكم ناجز حول الضربة الأولى التي تُطيح بها الثورةُ عقبةَ الرأس في الجبهة المضادة. وأما (انتصارها) فهو لا يتأتَّى إلا مؤجلاً وممتداً أمامَها حَسَبَ إنجازات مستقبلها. فالفارق بين النجاح والانتصار زمني ونوعي، ولا يمكن لأحد أو للتاريخ عينه، أن يضمن سلامة الممارسة، وما سوف يتأتَّى عليها من أهلها ومن أعدائها معاً، ما تعجز عن مقاومته، أو أنها تستوعبه وتستمدّ منه إمكانيات إضافية.

المهمّ في اللحظة الراهنة أن الغرب مقتنع أن التغيير العربي منطلقٌ، ممتلِكٌ لمحركاته الذاتية أولاً، وقد افتتح لقواه ساحاتٍ ناشطةً بالحراك الثوري والمضاد معاً؛ وهناك ساحات أخرى بانتظار انطلاقاتها وفق ظروفها. لكن المسألة غير المصرّح بها، والتي لا بد أن تؤرّق بعض الفكر الاستراتيجي هنا، تتناول طبيعة الثورة العربية وحدودها، هل هي طوفان سياسي يزيل النباتات الميتة أصلاً عن سطح المستنقع السلطوي وحده، أم أن المستنقع نفسه مُقْبل على انفجار أعماقه فيما يُشبه خضماً هائجاً مائجاً بكل مخلوقاته السرّية المجهولة بعد.

تأخذ هذه المسألةُ بُعْدَها الواقعي والفوري من كل هذا الهاجس الذي يسبق ويردف مناسبات النكسات التاريخية الكبرى، المتلاحقة مواعيدُها الذاكرية هذه الأيام. وأعظمها ولاشك نكسة السابع والستين التي وضعت حدَّاً مأساوياً رهيباً لثورة القومية العربية، تلك الرافعة الأولى لأعباء نهضة الاستقلال الوطني للكيانات الدولانية. هذه النكسة التي لم تلق لها جواباً تاريخياً من نوع حجمها إلاّ في الجبهة المضادة لكل أفاعيلها ومشاريعها المُدَمَّرة، وذلك طيلة أربعة أو خمسة عقودٌ من عيش العرب، شعوباً وأنظمةً، تحت وطأة أسوأ خارطة جيوسياسية واستراتيجية معاً، خضعت لها إرادةُ التحرّر الإنساني، وليس السياسي وحده، لجيل الاستقلال ومستقبله الحضاري المنشود.

لقد باءت بالفشل الذريع مختلفُ ردّات الفعل، المتتابعة تحت شعار الجولة الجديدة الحاسمة مع الغزاة الصهاينة. كأنما تجيء الثورة القومية الراهنة برد الفعل الأول. القابل لتجاوز تراكمات الخيبات الانقلابية التي حفلت بها الحَقَبَةُ المنقضية، الموسومة بدولة الاقطاع السياسي، المسيطرة على كامل المساحة الجغرافية لجناحيْ العرب، المشرقي والمغربي. هذه الحقبة كان الغرب لاعباً أساسياً في مقدراتها، متقاسماً أدواراً متباينة مع اللاعب الرئيسي الآخر، الذي كان اسمه المعسكر الاشتراكي، بقيادة الاتحاد السوفيتي سابقاً (روسيا حاضرا)، غير أن المنافسة بين القطبين الكبيرين فيما كان يُدعى بالعالم الثالث، وتحديداً الوطن العربي في الخط الأمامي. انتهت إلى احتكار الغرب قطباً أُحادياً، لمصائر أمم هذا العالم الثالث البائسة. أمست أُمَماً مُيَتَّمة من راعيها وحاميها ذلك الاشتراكي العالمي، الذي كان من المفترض أن يرث مستقبل الإنسانية، فإذا بعشيرته السابقة، تغدو تَرِكَةً بائرة ، موزَّعة على من يشتري كنوزها بأبخس الأثمان.

هل تتذكر قيادات شابة للثورة المعاصرة أن (أمتهم) عاشت حوالي نصف قرن تحت طائلة يوم الثأر الآتي والمحتوم، ضداً على يوم الخامس من حزيران (1967)! فالجولات الخائبة الماضية يمكن تحميلُ مسؤوليتها للأنظمة الحاكمة التي كانت تدعي أن مشروعيتها مستمدة من نداء الكرامة الجريحة، على فلسطين المنهوبة، كما لوكانت وطنَ الكرامة لكل وطن عربي آخر، ما يزال مأهولاً بسكانه، دون أن يكون سائداً مسوداً بأحراره، بَعْد. فقد كان الاعتقاد الموجه لقادة الطلائع الشابة في أواخر ستينيات القرن الماضي أنه لا سبيل لإعداد الثأر من الهزيمة العسكرية الشاملة إلا ببناء الدولة العربية القوية عسكرياً أولاً. فكانت الجيوش العربية هي المبادرة لاستلام دفة العمل العام. وقعت أربعة أو خمسة انقلابات متتابعة في سورية والعراق وليبيا والجزائر والسودان، عقب السنوات القليلة مابعد السابع والستين. كانت تسمي نفسها ثورات. لم تجد صعوبة في تسويغ أفعالها، مادامت جميعها تدَّعي أنها ناهضة عالياً بأعباء المسمى فلسطين كأنه وطن أوطان العرب كلها، ذلك الهدف المركزي الجامع لشتات الأمة مافوق حدود دولها (المصطنعة).

كانت القاهرة الناصرية هي المتلقية لعنف الضربة الهازمة. احتلّت إسرائيل قناة السويس، شريان الحياة الثاني بعد النيل، لمصر. وخسرت سورية هضبة الجولان التي تشكّل خط الدفاع الطبيعي الأول عن دمشق. أضاع الأردن نصف فلسطين وسلّمها مع القدس إلى الغازي الإسرائيلي. هكذا إذن حلّت النكبة الثانية بعد عشرين سنة من النكبة العظمى. فاقترح الغرب على (الثوار) العرب أن يرفعوا شعار استعادة الأراضي المحتلة، بدلاً من فلسطين كلها. هكذا ولدت خارطة سايكس بيكو، في نسخة عصرية، تفرض بنودَها خلال لغةٍ اصطلاحية مستحدثة، سوف ترطن بها ألسنةُ أصحاب القضية وحلفائهم من زعماء الانقلابات الجديدة، وأحزاب اليسار واليمين. هكذا ارتفعت يافطات معلنة عن سلطة تماثلية سيصير لها اسم واحد هو نظام الأنظمة العربية. حيثما كان من المفترض ان الطلائع الثورية آنذاك، كما كانت تصف ذاتها، هي التي ستقود دُولَها، سواء من خلال أحزابها الأُحادية أو زعماء الحركات الانقلابية. كان تسويغها الوحيد في عين أفرادها كما لدى الأغلبية الشعبية، أنها آتية بالحلول الجذرية لمختلف قضايا السياسة والاجتماع والاقتصاد.. والثقافة، وراء هدف تحرير فلسطين.

كان عرب الستينيات والسبعينيات يعيشون نوع الحرب الدائمة، وإن لم تكن بأسلحتها المادية وجبهاتها المشتعلة، ولكن بوسائل التحشيد والعَسْكرة والأَدْلجة، الآخذة بتلابيب الشباب، والمستوعبة لكافة الفعاليات المدنية؛ فهذه فقدت سِماتها الحيادية، وانخرطت إرادياً أو آلياً في معمعة الاستنفار الدعاوي واللفظوي الذي كانت تَضُجُّ به أجواءُ البلاد من أقصاها إلى أقصاها.

في هذه الحقبة الفريدة من قصة النهضة المعاصرة، استطاع هدف التحرير (الفلسطيني) وحدَه أن يشكّل المحور لمختلف المتغيرات ذات الطبيعة القومية أو القطرية، بل كانت له الكلمة الفاصلة في الصراعات الفئوية والحزبية القديمة أو الناشئة. والطارئة. كأنما توقّف مصيرُ الأمة العربية ومستقبلُها على هذا (المايحدث) الفلسطيني، ببعض رموزه، أو بالوكالة عن معانيه ودلالاته الراهنة والمتوقعة، وفي هذه الأوطان الطرفية المحيطة بأرضه المقدسة، الممنوعة على مواطنيها المقيمين منهم والمهاجرين سواسيةً. فقد توقّفت النهضة كذلك. أَجَّلت مشاريعَها المدنية كلها إلى ما بعد التحرير. ومعها تأجَّلت كلُّ قضايا الإنسان العربي الواقعي. ولم يكن معترضاً أو محتجّاً، وهو في غمار اليقين الكامل بقدسية الهدف المتحقق منذ اللحظة، في هذا التحشيد الهائل الاجتماعي والسياسي لليوم الآتي؛ فالحريات هي للأمة المناضلة، قبل أن تكون لشعوبها وأفرادها. وأما الكرامة فأي معنى لها إنْ بقيت الأمة أسيرة الهزيمة وعقابيلها المستشرية في كل خلية حية من جسد الجماعة وروحها.

لم يكن ذلك عصراً ذهبياً عاشته النهضة، لكنه كان أتوناً هائلاً لتجارب الأفكار الكبيرة وعقباتها المتجذرة. فليس من السهل أو من العدل تعميمُ أحكامٍ مطلقة بالجملة او المفرق، على تماثيله القائمة أو المحطومة. فهو عصر دوّنته النهضةُ في تلافيف أحشائها، قبل أن تعيد تدوينَه يوماً ما، أقلامُ مؤرخي النهضات التاريخية المفصلية.

لكن درساً واحداً لا يزال يتلامح مع بعض رموزه، في مخيال جيل النكبة وثأرها المؤجل. وهو أنه ليس ثمة هدفٌ وجودي عظيم وفاصل يمكنه أن يستبق هدف الحرية أو يؤجّله. فالسجناء المغلولة أيديهم، لا يمكنهم أن يفتحوا الأبواب المغلقة حول أجسادهم الضامرة. ليس ثمة هدفٌ يعلو فوق الحرية، إن لم تصنعه الحرية بمعاييرها ونصوصها و.. ألغازها كذلك.

ثورتنا الشبابية الراهنة تعيد النهضة إلى الدرجة صفْرٍ من كل محمولاتها، من الأفكار المجهضة والمكتسبة والملوثة بأيدي مزيّفيها وسُرَّاقها. ما تفعله هذه الثورة هو تذكيرُ كل العبيد أنهم كانوا أحراراً، وسوف يصبحون أحراراً، إن تعلّموا فقط درسَ التهجية لحروف الحرية، دون أن ينطقها أي لسان آخر بالنيابة عنهم. فالحرية هي أخصّ شأن من شؤون الإنسان لا شيء يمكنه أن يكون بديلاً عنها، وإلا لكان الفرد يقبل أن ينوب عنه أي فرد آخر.

تحرير القدس حقاً يبدأ من تونس والقاهرة ودمشق وكل عاصمة عربية. هذا هو المايحدث العربي اليوم وغداً، فلماذا لا يأتي الحدث الأعظم إذن.. اليوم قبل الغد!
لماذا لا يُصاب الغرب بالهلع، أو تصيبه لسعة حريته النائمة من جديد!
"القدس العربي"

التعليقات