12/06/2011 - 08:55

حتى العودة../ عبد اللطيف مهنا

كل قطرة دم سفحت يومها كانت غالية على شعبنا وأمتنا، لكنه أيضاً كان يوماً نضالياً مجيداً راكم لما سوف يليه من ايام ستكون الأكثر أثراً في مسيرة نضال أمة بكاملها... حتى التحرير والعودة

حتى العودة../ عبد اللطيف مهنا
في ذكرى النكبة... يوم العودة، فاجأ فلسطينيو الشتات الجميع مقدمين جديد ابتكاراتهم النضالية، وقالوا للعالم إنها لم ولن تنضب. لم تكن ملحمة مجدل شمس، وبقدر ما موقعة مارون الرأس، في حسبان أحد. لم يكن العدو من ينتظر ما آلت إليه، كما كان ما لم يتوقعه صديق، أو يخال حدوثه قريب أو بعيد، وحتى، وإلى حد ما، من شاركوا في صناعتها... كان المتوقع يومها لم يزد على مسيرة جماهيرية إلى حدود المحتل ومشارف المغتصب، تذكر بجريمة الاغتصاب وتعبر عن رفض الاحتلال، وتصر على حق العودة غير القابل للتصرف، وتدعو إلى التحرير، وتذكّر العالم بتواطئه وبالجريمة التي يسكت عليها لثلاثة وستين عاماً خلت ولا يزال، وتقول للجميع، اللاجئون هنا، وتسمعهم أن لا بديل عن عودتهم إلى ديارهم... أعلام ترفرف، وإعلام ينقل الحدث. خطابات وشعارات ويافطات، وربما تطور الأمر لرشق جنود الاحتلال من وراء الأسلاك الشائكة بالحجارة.  فيواجه الحشد بقنابل مسيلة للدموع، ورصاص مطاطي وآخر حي، وجرحى وشهداء، أو ما يندرج في معتاد تضحية درج الفلسطينيون على تقديم مثلها، وبالنسبة لهم فإن رمزية الحدث تستحقها... وبعدها يعود المحتجون إلى مخيماتهم التي قدموامنها...
 
ما حدث يوم النكبة، يوم العودة، فاجأ العدو فأربك جنده، يومها قطعت جهيزة قول كل خطيب، اقتحم العائدون الأسلاك الشائكة، وداسوا الألغام، واندفعوا لمعانقة أهل مجدل شمس، وطليعتهم وصلت إلى يافا... سال الدم الفلسطيني على تراب مجدل شمس السورية المحتلة وعلى تخوم الوطن في مارون الرأس، فعانق جدوله جداول الدم المسفوح يومياً قرابين للوطن السليب في الداخل المحتل من رفح إلى الناقورة، ومن النهر إلى البحر... البحر الذي عانقت أمواجه حسن حجازي العائد إلى يافا...
 
يومها، قال الزاحفون إلى تخوم الوطن، إن يومنا هذا له ما بعده، وقد اختطينا فيه سُنَّة نضالية سوف تدرج أيامها إلى يوم التحرير. ومن يومها بدأ الغزاة الغاصبون في التفكّر، ولاثتهم فوبيا القلق المزمن على المصير، هذا الذي تحتمه الجغرافية ويقرره التاريخ التي تفتك بدواخلهم أكثر من ذي قبل...  رأوا فيما حدث إنذاراً عليهم التحسب لما يعنيه، فطفق منظّروهم ينظّرون، وانتصب أمامهم سؤال مريعا يقول، وماذا لو أتتنا زاحفةً في المرات القادمة مليونية من مليونياتهم، على الطريقة العربية الدارجة هذه الأيام؟!
 
لم يطل الأمر حتى جاءت ذكرى النكسة، فكان بعضاً مما استنّته ذكرة النكبة، دعوة لإزالة آثارها ولاستكمال مسيرة التحرير والعودة، أي أن فيها ما درج على ما راكمته سابقتها وإشعار لما سيلي من قادم الذكريين.. لبت الجماهير العزلاء نداء العودة ومستوجب التحرير فزحفت عائدةً من بوابة الجولان العربي السوري المحتل، وهذه المرة كان المضاف ذو المغزى هو وحدة دماء عرب فلسطين وعرب سوريا، وكان في امتزاج هذا الدم العربي على ثرى الجولان المبشر بقادم وحدة عرب الأمة كلها الزاحف لتحرير درة قلب وطنها الكبير المغتصبة... كان العدو هذه المرة محتاطاً أكثر ومرتعباً أكثر مما كان. قوات نخبة، قناصة، نيران تشعل، لمساعدة حقول الألغام المبثوثة بسخاء مجرم، وخلف الأسلاك الشائكة المبالغ في نسجها، والخنادق الرديفة لها... يومها لم يلحظ الزمن خوفاً لدى العزّل الزاحفون ولم يفوته ملاحظة الرعب المرتسم في عيون مدججي جند الاحتلال المتحصنون في بروجهم المشيدة.
 
على درب العودة، قرابين يوم النكسة فاقت مثيلها في يوم النكبة. اثنان وثلاثون شهيداً وثلاثمائة وخمسون جريحاً على مشارف مجدل شمس... أما على مشارف فلسطين في الجنوب اللبناني، فقد حالت الحكومة اللبنانية هذه المرة بين الزاحفين ومبتغاهم فكفت المحتلين عاقبة وصولهم إلى حدود الوطن المحتل...
 
أكد يوم النكسة على ما اختطه يوم النكبة، و من الآن فصاعداً، على العدو انتظار المزيد، والذاكرة الفلسطينية والعربية مكتظة بأيامها معه، والروزناما الفلسطينية مليئة بالأيام التي سوف تقضّ مضجع الغازي الغاصب إلى يوم رحيله مهما طال الزمن عن بلادنا... وما دام الأمر كما كان، فلا مفاجأة إذن في يوم النكسة بعد ما كان في يوم النكبة، ولا فيما سوف يتبع من أيامنا النضالية القادمة المديدة، كما لا مفاجأة، أن واشنطن التزمت بسالف ما عهدناه منها بأن دعمت المذبحة وأيدتها وبررتها بأن عدتها دفاعاً عن النفس!
 
كما لا مفاجأة أن "مجتمع الغرب الدولي" لم يحرك ساكناً، ولا عجب من أنه قد تصرف وكأنما المذبحة لم تكن، وليس علينا أن نفاجأ أيضاً، حين لم نسمع موقفاً رسمياً عربياً ذا شأن، وحيث ابتلعت الجامعة العربية لسانها الأعوج... وما فاجأنا هؤلاء الذين لم يبدوا حرصاً على الحقوق الفلسطينية، وساوموا في بازارات التصفية على تراب الوطن ودماء الشهداء التي روته، ذلك حين ولولوا زاعمين حرصاً زائفاً على الدم الفلسطيني الذي سال يوم المسيرة، تعريضاً منهم بنبل هدفها وتقليلاً من شأن رمزيتها النضالية، وسمو تضحيات جماهيرها، وهم من تهاون حيال كل ما ضحى هؤلاء الأبطال من أجله...
 
نعم، إن كل قطرة دم سفحت يومها كانت غالية على شعبنا وأمتنا، لكنه أيضاً كان يوماً نضالياً مجيداً راكم لما سوف يليه من ايام ستكون الأكثر أثراً في مسيرة نضال أمة بكاملها... حتى التحرير والعودة.

التعليقات