19/06/2011 - 09:52

ثورات أم حقوق؟../ سمر خميس

في هذه الفترة الانتقالية ليس بوسعي إلا بعث تحية احترام وخشوع أمام إرادة هذه الشعوب وتحية صمود وإقدام إلى شعوب ثائرة أخرى حذت بحذوها وما زالت في خضم المعركة

ثورات أم حقوق؟../ سمر خميس
كثرت في الآونة الأخيرة الندوات والمؤتمرات وجلسات "عصف الأدمغة" في مدينة جنيف،التي تعنى بما سُمّي"ربيع العرب". حضرت إحدى هذه الندوات والتي دعت لها مؤسسة حقوقية أكاديمية. حملت الجلسة طابعًا رسميًا بحيث حضر مندوبون من دول وممثلون عن الأمم المتحدة ومختصون أكاديميون من جنيف وخارجها في مجال حقوق الإنسان، بالإضافة إلى البعض من ممثلي الحركات الاحتجاجية من تونس والبحرين واليمن.
 
تناولت الندوة المرجعية القانونية من وجهة نظر القانون الدولي لمثل هذه التحركات الشعبية في كل من الدول العربية. المتحدثة الأولى -وهي قانونية أوروبية- أصرّت على احتواء الثورات العربية قانونيًا تحت إطار الحق في التظاهر والحق في التعبير عن الرأي، ومن ثم سردت الغطاء القانوني الدولي لهذيْن الحقيْن بحيث ذكرت معظم المواثيق الدولية، لا سيما الأممية، التي تشرعن حق الفرد بالتعبير عن الرأي وحقه في التظاهر. بعدها توقفت المتحدثة عند حدود هذه الحقوق مُدّعية أنّ هذه الحقوق الفردية بطبيعتها ليست مطلقة (على غرار حق الفرد بعدم التعرض لأيّ نوع من أنواع التعذيب)، وذلك،أولاً، لوجود شروط تنصّ عليها معظم المواثيق الدولية والتي يحتاج الفرد لاستيفائها حين ممارسة هذه الحقوق، كما أنّ الدولة تتمتع بصلاحية الحدّ وتضييق إمكانية ممارسة هذه الحقوق في حالات الطوارئ (مثل الهيجان الشعبي، الانتفاضة وما إلى ذلك).
 
نبهت المتحدثة بعد ذلك إلى أنه في حال الإخلال بشروط المظاهرة، غالبا في حال عدم الحصول على الاذن من السلطة المعنية (الشرطة) للقيام بالمظاهرة، فإن الحق لا يُلغى، بل يفقد الفرد عندها الحماية القانونية الممنوحة عادة للمتظاهرين.
 
المتحدثة الثانية -التي كانت شابة بحرانية- كان حضورها هشًّا وتأثيرها قويًا فياَن واحد. تحدثت عن بلدها بطلاقة وبشكل حقيقي. وأسوة بالمتحدثة السابقة -وربما تيقظا لنوعية الجمهور الحاضر، الأوروبي الرسمي- انتقلت المتحدثة في حديثها من قضية شعب رافض ومنتفض إلى قضية فرد يطالب بممارسة حقه في التظاهر"السّلمي". وتوقفت عند حالات عينية قام بها عدد من أفراد الجيش البحراني، عبثا، بوضع أسلحة نارية أمام المتظاهرين حتى يستعملونها ضد ممثلي السلطة، كي يفقدوا شرعية التظاهر السلميّ. عادت المتحدثة ونسبت صبغة السلمية للمظاهرات البحرانية مُشدّدة عند ذلك على ضرورة التدخل الأوروبي (ليس العسكري) بهدف الحدّ من الإخلال السلطوي والمنهجي بحق الأفراد والمواطنين البحرانيين بالتظاهر والتعبير عن الرأي.
 
لكل حادث حديث… حقًا؟
أظنّ أن إلقاء كلمة أمام جمهور أوروبي بمعظمه، ممثل بالسلك الديبلوماسي أو بمؤسسات حقوقية دولية، يرفع حالة التأهب عند المتكلم، خاصة إذا كان الأخير حاضرًامن دولة عربية. وفي سياق الحديث عن الثورات العربية وجدتُ أنّ الخطاب الطاغي خاصة عندها يتحول إلى حقوقي-فردي بحت، وأحيانا لا يمتّ بصلة لوجودية الحالة العصيبة في العالم العربي.
 
قد يكمن هذا في الحاجة (الإنسانية) للتمتع باستحسان الآخر المصغي لخطابك وتقبله لك، ولكن يمكن تفسيره أيضًا بكون خطاب الآخر محدودًا -وفي كثير من الحالات منضبطًا- لاعتبارات سياسية ضيقة، وبالتالي يضطر المتحدث العربي لتقبل قواعد لعبة هو ليس شريك لها، وبالتالي تعديل خطابه وتخفيض سقف المطالب.
 
أقول هذا لأنّ المتحدثة القانونية قزّمت الثورات العربية بواسطة تأطيرها في داخل حق التظاهر وحدّدت الحق بالتظاهر بشرط الحصول على إذن السلطة المعنية، وهي لم تتطرق لحالة الغبن المُمَأسَس والذي يأتي  قرار عدم السماح للأفراد القيام بمظاهرة بموجبه. فالقرار ليس إلا نتاجًا لاعتبارات غريبة لا علاقة لها بمصلحة الشعب أو المصلحة العامة، بل تخدم مصلحة زمرة الحكم ومصلحة بقائها في الحكم.
 
هل يحول عدم توفير "الإذن" دون تظاهر الشعوب اليمنية والبحرانية مثلا؟ وكيف تنتفض وتثور ضد قرارات سلطوية ذات اعتبارات غريبة إذا لم يكن عبر التظاهر؟
 
عدم الحصول على رخصة تظاهر هو جزء من شدّ قبضة الحكم على الناس غير الرّاضين عن الوضع الذي آلوا إليه، وهو جزء من قواعد اللعبة لضمان مكانة الحاكم وتخليد موازين القوى.
 
التظاهر هو ضدّ كل أشكال وأذرع الحكم، بما فيها الشرطة والأمن؛ الشعب قرّر سحب غطاء المصداقية (الواهي أصلاً) من الحكم ومؤسّساته. ففي حين تتردّد هتافات مثل: "الشعب يريد إسقاط النظام"، فلا مجال بعد للحديث عن استيفاء شروط للقيام بمظاهرة، وهي شروط تهدف أولا وأخيرًا لإقصاء مصلحة الأفراد، مع العلم أنهم هم المنتفعون أصلا من هذا الحق.
 
ولم تتطرق المتحدثة البحرانية عمدًا لقضية شرعنة حق التظاهر بواسطة الحصول على الإذن المسبق، لكن ضعفها بنظري برز حين أصرّت على إضفاء الصيغة "السلمية" للمظاهرات البحرانية، وربطها بواجب المجتمع الدولي بالتدخل. فبهذا، حوّلت المتحدثة بخطابها حقّ التظاهر إلى "حق التظاهر السّلمي"، وأضحى السؤال: هل استخدم المتظاهرون القوة ضد أفراد الشرطة والأمن، أم مارسوا حقهم بسلمية؟
 
لقد انتقل مركز الثقل ومحط الأنظار من عنف الشرطة المُمَأسَس (والظاهر علنا كما يستدل من نسبة القتلى والاعتقالات الهائلة بشكل خاصّ في البحرين) إلى مسألة معاييرالتصرّف لدى المتظاهرين. وماذا بالنسبة لحق الدفاع عن النفس؟ هل يحق للشرطيين استخدام القوة غير الشرعية بما لا يتطابق مع معايير دولية وأممية متعلقة بقواعد سلوك الشرطة والأمن، فقط لكونهم يشكلون أذرعًا سلطوية عديمة/ناقصة الشرعية؟ ألا يحق للفرد استخدام القوة للدفاع عن النفس وخاصة في حالة انعدام سلطة القانون أو في حالة تسخير القانون لخدمة شخص أو مجموعة لا تلعب فيها مصلحة الشعب أيّ دور؟
 
برأيي، من المهم العمل على الرأي العام العالمي وخاصة الأوروبي ولو لقربه الجغرافي وامكانية إحداث التأثير هناك، أكثر ممّا هو ممكن في الولايات المتحدة. هناك أهمية عظمى لهذه الحركات التحرّرية لاستبقاء الدول الأوروبية إلى جانبها ،خاصة وأنّ المرحلة الآنية حرجة جدًا وقد تطول.
 
ثمة أهمية أيضًا لتوضيح الخطاب النضاليّ أكثر، ومن المهم عدم التعثر بتفاصيل قانونية في غنًى عنها؛ فالمتظاهر اليمنيّ أو البحرانيّ لا يأبه حاليا بحيثيات مواثيق دولية وأمميّة ليس له فيها لا شبق ولا عبق. كذلك من المهم عدم التّدهوُر إلىحالة الفوضى والتي من الممكن أن تستفيد منها الحركات السّلفية التي تحاول ملء فراغ قانونيّ أو سلطويّ، كما توجد مطامع لدول غربية تحاول التدخل بحجّة إعادة السيطرة والأمن، في حين نواياها الحقيقية كولونيالية بحتة.
 
لا شكّ أنّ من الصعب جدًا التأمل من هذه الحركات التحرّرية لأن تقوم بكلّ هذه الجهود وعلى أحسن وجه، من دون الوقوع في مطبات أحيانا، علمًا أنّ الثورة كانت مفاجئة وغير مُدبَّرة بشكل مسبق من جهة سياسية معينة أو أخرى. هناك دور هام ملقى على مؤسسات المجتمع المدني والحركات التحرّرية والوطنية لاحتواء النضال والخطاب بشكل يليق بأهداف الثورة.
 
حق التظاهر أو حق تقرير المصير
 
لست على خلاف مع حقيقة عدم توفر مجمل الحقوق المدنية والفردية الأساسية في معظم الدول العربية، ولا شكّ أنه كانت وما زالت هناك ضرورة ماسّة للتغيير الجوهريّ، ولكن لا يمكن تسجيل تحركات الشعوب العربية منذ كانون الأول 2010 تحت خانة الحق بالتظاهر والحق بالتعبير عن الرأي.
 
فانعدام الحقوق أدّى إلى إشعال الثورة، ولكن عنوان الثورة ورسالتها هما إحداث التغيير الكلي بمسار الدولة وليس حركة إصلاحية في إطار الدولة القائمة ومؤسّساتها. الأمر لا ينطوي على الحاجة للخروج إلى الشوارع كهدف بحدّ ذاته.
 
حالة الغليان في نفوس الشعوب العربية هي التي أدّت إلى التدفق الإنساني المُهيب، علمًا أنّ مشهد تردّد الناس على المظاهرات ليس غريبًا على السّاحة العربية، فقد شهدنا في السابق مظاهرات حاشدة في الميادين لنصرة الشعب الفلسطيني. الجديد الآن هوالإصرار والبقاء، والأهم مطالبة الشعب بمشاركته بإحداث التغيير من جهة ومشاركته في تسيير الدولة لاحقا من جهة أخرى.
 
شخصيًا، وأيضا من وجهة نظر القانون الدولي، أكاد لا أستطيع تحليل المشهد قانونيًا من منظار حقّ الفرد في التظاهر، وبالتالي لا مفرّ من تقزيمه. الحراك الشعبي الذي حصل في مصر وتونس والذي أنهى عقودًا من الأنظمة التوتاليتارية الفاسدة، والحراك الفعال في كل من الدول الأخرى المتأثرة، هي نتاج عن مطالبة الأفراد والشعب ككل بالمشاركة في تقرير مصيرهم، بالمشاركة في صياغة المصلحة العامة للبلد التي تُدار البلد بناءً عليها، وليس وفقا لمزاج الرئيس كما كان الحال في تلك الدول ومازال في دول عربية أخرى.
 
الأفراد والشعب قرّروا أن يمارسوا حقهم في المواطنة بشكل فعّال وحقيقيّ، غالبيتهم لم يكن لهم أيّ دور في تحديد مسار الدولة التي يعيشون فيها. وقد يبدو للبعض أنّ حق تقرير المصير ساري المفعول فقط ضد مستعمر أجنبيّ أو في حالة الأقليات المضطهدة. وقد تكون فعلا هذه هي الحالة الكلاسيكية لتحقيق هذا المبدأ حين يكون الهدف تأمين الاستقلال على أرض الوطن تحت حكم محلي وليس غريبًا. لكن عن أيّ مصيرنتكلم وأيّ حيز مُعطى للفرد للسيطرة على مصيره نقصد، في حالة حكم القذافي الذي يحكم البلاد بموجب نزعاته الجنونية، بعيدًا كلّ البعد عن المصلحة العامة ومن دون أية مشاركة من الشعب المحكوم.
 
عن أيّ مصير نتحدث في حالة الرئيس المخلوع مبارك، الذي تبين انه أغنى من أغنياء العالم في بلد نسبة الفقر تشكل 20% (16 مليون نسمة) والأمية تصل إلى 70%؛ هل للشعب والأفراد المصريين علاقة بالحاكم أو بالمجموعة الحاكمة؟ ألم تتحول المجموعة الحاكمة إلى حاكمة "غريبة" حتى لو كانت مصرية تاريخيًا أو ليبية أو تونسية؟؟
 
أما ما بعد هذه الثورات، فمن غير الواضح أيّ مصير ستختار هذه الشعوب المنتفضة من غبار الاستبداد، والتي رفضت أن تكون محتلة بواسطة حاكم محليّ، وقرّرت أن تحقق استقلالها وأن تشارك بشكل فعال في إدارة دولتها.
 
في هذه الفترة الانتقالية ليس بوسعي إلا بعث تحية احترام وخشوع أمام إرادة هذه الشعوب وتحية صمود وإقدام إلى شعوب ثائرة أخرى حذت بحذوها وما زالت في خضم المعركة.

التعليقات